خطبة عن ( وحدة المسلمين ضرورة ملحة)
أكتوبر 20, 2016خطبة عن (الفِرَاسَة )
أكتوبر 23, 2016الخطبة الأولى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (89) النحل ،وروى أبو داود في سننه (عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ ». وفي مسند البزار وصحيح ابن حبان وصححه الألباني (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْجُحْفَةِ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، قُلْنَا : بَلَى ، قَالَ : فَأَبْشِرُوا ، فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ طَرْفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَهْلِكُوا وَلَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) ،وفي سنن الدارمي وصححه الألباني (عَنْ أَبِى الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ ، فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ ، لاَ يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ ، وَلاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ ، وَلاَ يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ ) ،وروى مسلم في صحيحه :(كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ
« مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ». وفي سنن البيهقي وصححه الألباني (عَنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ »
إخوة الإسلام
هكذا يتبين لنا من الآيات السالفة ، والأحاديث المتقدمة: أن ما جاء به النبي صلى لله عليه، وسلم من الهدى ،ودين الحق فيه تبيانٌ لكل شيء ، وتوضيحٌ لكل ما يحتاج الناس إلى إيضاحه ،فهو صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يحتاج الناس إلى علمه ، أو معرفته إلا علمهم إياه، ولا شيئاً يحتاجونه في أعمالهم، وفي مسارهم، وحياتهم مما يقربهم إلى الله عز، وجل إلا بينه لهم صلى الله عليه، وعلى آله وسلم. وفي قول الله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْء) [النحل:89]، ومعنى : تِبْيَانًا لكل شيء: أي لكل ما تحتاجه البشرية من علوم ومعارف، وبصائر و حكم، ومواقف وقوانين، ونواميس وسنن ربانية ،وجاء في التفسير الوسيط لطنطاوي (وهذا التبيان إما في نفس الكتاب، أو بإحالته على السنة لقوله- تعالى-: ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » الحشر 7، أو بإحالته على الإجماع كما قال- تعالى-: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى .) النساء 115
أو على القياس كما قال: (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ) الحشر 2 والاعتبار: هو النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس. فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن، فكان القرآن تبيانا لكل شيء ،وبذلك اندفع ما قيل: كيف قال الله- تعالى- (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) النحل 89 ،ونرى أمورا لم يذكره القرآن
أيها المسلمون
وبعد أن تبين أن القرآن فيه تبيان لكل شيء ، فواجب علينا جميعاً أن نتعرف على آياته ونتدبرها، وأن نفهمها ونستفيد منها، قال تعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ) [ص:29]. فهذا البيان الواضح الشامل لكل ما يحتاجه الناس كان من هدايات القرآن التي من استمسك بها وُفِّقَ إلى كل بر، يقول الله تعالى : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ (9) الاسراء ،فهو يهدي للتي هي أقوم في كل شأن من شؤون الحياة؛ وليس في جانبٍ من جوانب الحياة فحسب؛ بل في كل شؤون الحياة ؛
ففي صحيح مسلم (عَنْ سَلْمَانَ قَالَ قِيلَ لَهُ قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ. قَالَ فَقَالَ أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ ) . ويقول أبو ذر أيضا ” ما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا، وترك لنا رسول الله صلى الله عليه، وسلم منه علماً”، وهذا يدل على أنه لم يترك صلوات الله وسلامه عليه شيئاً يحتاج الناس إلى إيضاحه، ولا إلى بيانه في العلم، وفي العمل إلا بينه صلوات الله وسلامه عليه غاية البيان، وأوضحه غاية الإيضاح. فمن أراد ذاك فليقبل على ما تركه صلى الله عليه وسلم من الميراث، فإنه ترك القرآن العظيم ،والسنة المطهرة؛ فمن أقبل عليهما علم كل ما يحتاج إلى معرفته، وهُديَ إلى كل ما يحتاج إليه من العمل الذي يصلح به، وليس ذاك قاصراً على ناحية من نواحي الحياة بل على كل نواحيها. وقال الله تعالى: ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ الانعام 38 ،وهكذا أخبرنا الله تعالى أنه لم يفرط في الكتاب من شيء، والعلماء لهم في المقصود بالكتاب في قوله ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ قولان : القول الأول: أن الكتاب المذكور في الآية هو اللوح المحفوظ، فلم يترك الله عز، وجل شيئاً إلا، وقد جرى به قلم التقدير السابق، فهو مقيد مسجل في اللوح المحفوظ. يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:38]، فالكتاب هنا قال بعض أهل العلم أنه اللوح المحفوظ الذي حوى كل أقدار الله عز وجل، فما من شيء إلا، وقد سُجِّلَ في هذا اللوح الذي تضمن كل أقداره جلَّ في عُلاه، فإن الله خلق القلم، وأمر بأن يكتب ما هو كائنٌ إلى قيام الساعة، وموضع الكتابة هنا هو اللوح المحفوظ الذي حوى كل أقدار الأشياء، وكل ما قدره الله تعالى إلى ما شاء إلى قيام الساعة. والقول الثاني: في معنى ( الكتاب ) في قوله تعالى :﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ الانعام 38 ،أن المقصود بالكتاب هنا هو القرآن العظيم، فقد حوى القرآن كل ما يحتاجه الناس، وهذا يشبه قوله تعالى:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ النحل 89
أيها المسلمون
وحتى لا يقول قائل إن ثمَّةَ أمورٍ كثيرة حدثت في حياة الناس ، وليس في القرآن بيانها بأسمائها ، وأعيانها؛
والجواب : أن بيان القرآن نوعان: ( بيان مفصل ، وبيان مجمل ) ،الأول : بيان تفصيلي: وهو ما جاء به النص عمَّا بيَّنه الله عز، وجل من الأمور سواء كانت في العلوم والعقائد، أو كان في الأعمال، والتطبيقات العملية من التكاليف الشرعية التي كلَّف الله تعالى بها عباده، فالله تعالى بيَّن في القرآن أصول الإيمان، على سبيل المثال: فقال جل وعلا ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة 285 ،فهذا بيانٌ مفصل لما يجب الإيمان به، وبيَّن الله تعالى أيضا من أحوال القيامة، ومما يتعلق بأسمائه، وصفاته، ومما يتعلق ببعض أصول الإيمان بياناً مفصلاً في كتابه الحكيم، ثم جاء النبي صلوات الله، وسلامه عليه، فأتم ذلك البيان بما وضح ما يحتاجه الناس في أمور العقائد، وكذلك في أمور العبادات جاء البيان فيها مفصلاً في كثيرٍ من سورها، ومجملاً في تفاصيلها، وتفاريعها، فالله عز، وجل أمر بإقامة الصلاة، فقال جل وعلا ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاة﴾ ،وأمر بإيتاء الزكاة قال َ ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ لكن لم يأت ذلك على وجه مفصل في صفة الصلاة في القرآن الكريم، إنما جاء في هدي النبي صلوات الله وسلامه عليه. فبيان القرآن بيانٌ مُفصَّل وبيانٌ مجمل؛ وهكذا فيما يجدُّ من حياة الناس، فما من شيء يحتاج الناس إلى حكمه وإلى بيان ما يتعلق بمنزلته عند الله من الإباحة، أو التحريم، أو غير ذلك إلا، وفي القرآن، والسنة ما يبينه، ويوضحه؛ ولا يلزم أن يكون ذلك على وجه التفصيل، بل يكون ذلك في كثير من الأحيان على وجه الإجمال الذي يتبين به التفصيل من خلال النظر في معاني كلام الله؛ وكلام رسوله، وهذا يعرفه أهل العلم المتخصصون، فقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ النحل 89 ،أي : تبياناً مفصلاً، وتبياناً مجملاً، ينفع لكل ما يحتاج الناس إليه من مسائل حياتهم ومعاشهم؛ وإن ذاك لا يختص فيما يتعلق بمعاملة العبد لربه، بل هو شامل لكل شأنٍ من شئون الإنسان في معاملته لربه، وفي معاملته للخلق، لذلك قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ الانعام 162 ، 163. وإذا كانت الحياة كلها لله، والموت لله، فإن مقتضى هذا أن يعرف الإنسان كيف يحيا لله؟ وكيف يموت لله؟. وبيان ذلك فيما جاء به النبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
أيها المسلمون
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يطلب هدى النبي صلَّى الله عليه وسلم وأن يجد في معرفته حتى يستطيع من خلال ذلك أن يعرف دين الله عزَّ وجلَّ فيما يتعلق بما يأتي ويذر، ويحقق العبودية لله عز وجل التي ذكرها الله عز وجل في قوله:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ الانعام 162 ، 163 ،ولن يتحقق هذا إلا بعمل صادق واجتهاد حقيق في معرفة ما كان عليه النبي صلَّى الله عليه، وسلم. ومن هنا يتبين فضل العلم وعظيم منزلته، وكبير شرف مكانته، فإنه إنما نال تلك المنزلة، وذاك المكان الرفيع لأنه يعرِف بما يرضي الله جل، وعلا، يعرف بالله، وبالطريق الموصل إليه، لهذا قال صلَّى الله عليه، وسلم: “من يرد الله به خيراً يفقه في الدين” رواه الطبراني ، ومعنى الدين: أي ما جاء به الرسول الكريم في الكتاب، والسنة صلوات الله وسلامه عليه. فينبغي للمؤمن أن يجتهد في معرفة ذلك جهد طاقته ، ويحتسب الأجر، فإنه من ذكر الله ،فكل طالب للعلم، كل متعلم لكلام الله، وكلام رسوله سواءً كان بقراءةٍ، أو بسماعٍ، أو بمشاهدةٍ ومطالعة فإنه ذاكرٌ لله، وذكر الله تحيا به القلوب ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد 28. فهنيئاً لمن سلك الله به هذا السبيل، وشرح صدره لهذا الطريق؛ طريق معرفة كلام الله، وكلام رسوله، ومعرفة آثاره صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن ذاك هو الطريق الذي يسعد به الإنسان، وينال به الجنان؛ ففي سنن الترمذي بسند حسن (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ». ولهذا لا تعجب من عظيم ما ذكره الله من فضائل العلماء، ورفيع منزلتهم، وكبير مكانتهم؛ إنهم لم ينالوا ذلك لما يتزينون به من مظهر، أو شكل، إنهم يحملون في صدورهم آياتٍ بيِّنات كما قال جل وعلا: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ العنكبوت 49 ،فجدير بكل مؤمن ،وبكل مؤمنة، وبكل مسلم، ومسلمة أن يجتهدوا في الاستكثار من المعرفة بكلام الله ،وكلام رسوله؛ فأنت لا تزال بحاجة إلى معرفة كلام الله ،وكلام رسوله ما دمت حيًّا لأنك بذلك تحقق العبودية لله عز، وجل، بذلك تنال فضل ،وشرف الذكر له جل في علاه الذي به تطمئن القلوب، وتسعد، وبه تعلو المنازل، وتسمو، قال تعالى : ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر 9 ،وهل هنا بمعنى لا، وهو استفهام للنفي؛ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ أي : لا يستويان؛ لا يستوي العالم، والجاهل، فينبغي لنا أن نحرص على معرفة هذا البيان الإلهي الذي به تسعد قلوبنا، به نعرف حق ربنا، به ندرك سعادة الدنيا، وفوز الآخرة. وقد بيَّن لنا رسول الله صلَّى الله عليه، وسلم ذلك بياناً واضحاً، ولهذا تجد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينقلون هدى النبي صلَّى الله عليه، وسلم نقلاً مفصلاً في دقيق الأمر، وجليله؛ كيف ينام؟ وكيف يستيقظ؟ وكيف يقضي حاجته؟ وكيف يعامل أهله وكيف يصلي؟ وكيف يزكي؟ وكيف يتعامل مع أصحابه؟ وكيف يتعامل مع أعدائه؟، كل هذا البيان الشامل الواسع إنما هو لأجل أنه صلوات الله، وسلامه عليه القدوة، والأسوة التي يأتسي بها أهل الإيمان ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الأحزاب 21 ،فجدير بنا أيها الإخوة أن نحرص على معرفة هَدْيه، وسنته عسى أن ننال مما ناله صلوات الله، وسلامه عليه في الدنيا من السعادة، وفي الآخرة من الفوز، والمقام المحمود؛ فإن ذاك بقدر ما معك هو السبب، فالسبب الذي نال به النبي صلَّى الله عليه، وسلم السعادة في الدنيا تحقيق العبودية لله عز وجل في السرِّ والعلن، في الظاهر، والباطن، في المنشط والمكره، في العسر، واليسر. وأما الآخرة فكذلك هو نال ذاك المقام المحمود الرفيع لأجل ما كان عليه من طاعة ربِّ العالمين صلوات الله، وسلامه عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم « أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ ». يقسم صلوات الله وسلامه عليه ( إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ » وبهذين يتحقق السمو، بهذين يتحقق للعبد العلو، بهذين يتحقق للعبد الفوز في الدنيا والآخرة؛ التقوى ،والعلم. فالعلم هو أصل التقوى، وإنما قدم التقوى إشارة إلى أن التقوى هي ثمرة العلم ، قال تعالى : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فاطر 28 فالعلم هو الذي به تسموا المنازل، وتعلو المقامات، وترتفع به الدرجات، لكن متى يكون ذلك؟ إذا عُمِلَ به؛ أما إذا لم يُعْمَل به فإنه وبال على صاحبه ” القرآن حجةٌ لك أو عليك”، فليكن حُجَّةً لك بتعلمه. بعض الناس يقول: لا أتعلم القرآن حتى لا يكون حُجَّةً عليّ، ونقول: الإعراض عن القرآن هو أعظم وزراً، وإثماً من تعلمه، والتقصير في العمل به؛ لأن الإعراض عن القرآن هو إعراضٌ عن ذكر الله، قال جل وعلا: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ طه 124. فجديرٌ بنا أيها الإخوة، وأيتها الأخوات أن نجتهد في طاعة الله عز، وجل، أن نجتهد في تعلم العلوم الشرعية من الكتاب ،والسنة. العلوم الشرعية ليست معادلات رياضية تعجز العقول عن إدراكها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن هذه السنن والنواميس القرآنية والقوانين الإلهية، الحاكمة لحركة الكون والتي بينها لنا القرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة : أولاً: أنه لا يحدث شيء في الكون كله ـ قديماً أو حديثاً أو مستقبلاً ـ صغيراً أو كبيراً إلا بقدر الله وعلمه، وحكمته وإذنه، وتدبيره وأمره، قال تعالى( إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [القمر:49]، وقال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء) [النمل:88]، وقال جل وعلا: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء) [الأنعام:38]. ثانياً: خلق الله الإنسان للابتلاء، ومنحة نعمة الاختيار، ومن ثمَّ اختلف الناس إلى مؤمن وكافر، قال تعالى:( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) [هود:118، 119]. ثالثاً: أن الصراع بين الحق والباطل قائم ومستمر، والعدوان يقع بصفة مستمرة من الباطل على الحق، قال تعالى ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)[البقرة:217]. رابعاً: أن الحق أتباعه الأنبياء و المرسلون، والعلماء الربانيون، والدعاة المصلحون، والأتباع المخلصون، والباطل أتباعه الشيطان والجبارون، والطواغيت والمجرمون وعملاؤه المأجورون. خامساً: أن هدف أهل الحق إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدف أهل الباطل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:257]. سادساً: أن الله جل جلاله يتولى أهل الحق وينصرهم في صراعهم مع أهل الباطل، قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، وقال تعالى: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر:51]. سابعاً: إذا انتصر الحق وعلا أهله، فلا إكراه في الدين، ولا استئصال للكافرين، قال تعالى: ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ) [الكهف:29]،
وقال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) [يونس:99]، وإذا كان للباطل صولة وجولة، وعلو في الأرض، فإنهم يتنادون لاستئصال الحق وأهله، وعندها ينزل عليهم عذاب يستأصلهم كلياً أو جزئياً، وسيأتي مزيد بيان لهذه السنة الربانية الهامة. ثامناً: لليهود عُلوّان إفساديان كبيران ، قال تعالى : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ) [الإسراء:4]،وقد أخبر الله عن نهاية العلو الأول بقوله تعالى: (فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) [الإسراء:5]، إذن فقد تم العلو الأول وانتهى، وهم الآن ولا شك يعيشون علواً إفسادياً كبيراً، وهو الثاني والأخير، قال تعالى في آخر سورة الكهف ، قال تعالى : (فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) [الإسراء:104]، وهو ما حصل ويحصل الآن.
أيها السلمون
حينما يطبق الإنسان منهج الله عز وجل فهو في خير ما بعده خير، وهو في سعادة ما بعدها سعادة، وهو في وقاية ما بعدها وقاية، وهو في أمن ما بعده أمن،إن الخير كله، والفوز كله، والنجاح كله، والتفوق كله، والعقل كله في طاعة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾[ سورة الأحزاب: 70-71]
الدعاء