خطبة عن ( شكرُ الله تعالى )
أكتوبر 26, 2016خطبة عن (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )
أكتوبر 29, 2016الخطبة الأولى ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (107) آل عمران
وقال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (60) الزمر
وقال تعالى:(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (41) الرحمن ،وروى مسلم في صحيحه “( عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ – قَالَ – يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ – قَالَ – فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ».
إخوة الإسلام
لقد جعل الله – عز وجل – لأهل الآخرة علامات تظهر عليهم، ويُمكن من خلالها وبها التمييز بينهم، وبيَّن في كتابه – عز وجل – أن مما يُميَّز به أهل الآخرة بعضهم من بعض، صفة وجوه أهل الآخرة وحالها ولونها جميعها، وذكر – مقررًا ذلك ومؤكدًا عليه – أن هذه علامة فارقة بينهم، ولا يمكن لأحدهم أن يخرج عن أحد قسمين لها: الأول: بيضٌ وجوهُهم. والآخر: سودٌ وجوهُهم. فقال الله – عز وجل -: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، فيوم القيامة تبيَضُّ وجوه أهل الطاعة والإيمان، وتسودُّ وجوه أهل الكفر والعصيان، وقد جعل الله – عز وجل – اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير، كما جعل – عز وجل – بياضها علامة على حسن المصير ؛ وذلك أن الوجوه هي – في الحقيقة – علامة على القلوب وما فيها، ودليل على ما بها في الحال والمآل. فظُلمة المعصية مثلاً في قلب صاحبها تورث – لزامًا – الظلمة الحسية لوجهه في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن للطاعة نورًا وبياضًا، وللمَعصية ظُلمة وسوادًا. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “إنَّ للحسَنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسَعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لسوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرِّزق، وبُغضًا في قلوب الخلق” . ولذلك فإنَّ أهل الكفر والباطل، مِن الجن والإنس ، لا يُسألون – توبيخًا لهم وتقريعًا – عن ذنوبهم في بعض المواقف ، كما في قوله – عز وجل : ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ﴾ الرحمن ؛والسبب – والله أعلم – لأنه عز وجل “قد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يُعرفون بها” كما في قوله تعالى عن سمات وصفات المجرمين : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ) الرحمن (41) ،وعن أهل الكذب والضلال ، قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) (60) الزمر ،وعن المرتدين والمفارقين لهذا الدين ، قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (106) آل عمران ،وقوله تعالى (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (25) القيامة ،وكما بين الله تعالى سمات الكفرة والمكذبين الضالين ، فقد بين أيضا سمات المؤمنين الصالحين ،فقال تعالى عن سمات المؤمنين 🙁 وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (107) آل عمران ،وقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) (24) المطففين ،وقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (23) القيامة
أيها المسلمون
يقول شيخ الاسلام في ذلك : “وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه،
وهذا القبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه، ثم إن ذلك يَقوى بقوة الأعمال الصالِحة والأعمال الفاسدة؛ فكلما كثر البر والتقوى قويَ الحسْن والجمال، وكلما قويَ الإثم والعدوان قويَ القُبْح والشَّين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح، فكم ممَّن لم تكن صورته حسنة ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك على صورته؛ ولهذا ظهر ذلك ظهورًا بينًا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر – عند قرب الموت – فنَرى وجوه أهل السنَّة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشَينُها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرًا بها في حال الصغر لجمال صورتها، وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره مثل الرافضة، وأهل المظالم والفواحش..” فيظهر من هذا كله إذًا أن الوجوه على قسمين – لا ثالث لهما – يوم القيامة:
القسم الأول: وجوه بيض، وهذه إحدى النعم المُطلقة مِن الله – عز وجل – لأهل الطاعة والإيمان، والتي تزيد نور القلب، وبياض الوجه تبع له، ونتيجة عنه، فيفرح بها أهلها، وهي مما يحبه الله – عز وجل – ويرضاه، وهي خاصة بأهل الإيمان؛ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “سيما الرجل المسلم من أهل الجنة: بياض وجهه
ويُقابله القسم الثاني: وجوه سود، وهذه إحدى العقوبات من الله – عز وجل – لأهل المعاصي والكفر، فهي تسوِّد القلب، وتُطفئ نوره، وتذهَب بإيمانه، أو تُقلِّله، وتذهب إلى ذلك بهجته، وتوهن قوته، والوجه تبع له قطعًا. فالآية الكريمة: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) كما أن فيها مدحًا وتزكيةً لبيض الوجوه، فإن فيها بالمقابل – كذلك – تقريعًا وتوبيخًا لمَن هم سود الوجوه؛ إذ تسويد الوجوه علامة على الخزْي، والمستلزم دخول النار، وثَمَّة أسباب لكلٍّ منهما، فمن الأسباب التي تجعل المرء مبيضا وجهه ويسعى نوره يوم القيامة ، الإيمان والعمل الصالح : قال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (12) الحديد ،وقال تعالى : (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (8) التحريم وقال الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس (اذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم ما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم الى ما كانوا يعبدون وهو قوله تعالى ” نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ” النساء 115 ، فاذا انتهوا إليه حزنوا فتسود وجوههم من الحزن ،وبقي أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم ،فيأتيهم الله فيسجد له من كان يسجد في الدنيا مطيعا مؤمنا ،ويبقى أهل الكتاب والمنافقون لا يستطيعون السجود ، ثم يؤذن لهم فيرفعون رءوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا ،والمنافقون وأهل الكتاب إذا نظروا الى وجوه المؤمنين حزنوا حزنا شديدا فاسودت وجوههم ،فيقولون ربنا ما لنا مسودة وجوهنا فو الله ما كنا مشركين ،فيقول الله للملائكة ” انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ” الانعام 24
أيها المسلمون
ومن الأسباب التي تجعل المرء مبيضا وجهه ويسعى نوره يوم القيامة الحب في الله ، ففي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ. قَالَ « هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ ». وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )يونس 62 ، كما روى البخاري في صحيحه (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا » . قُلْنَا لاَ . قَالَ « فَإِنَّكُمْ لاَ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ ، إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا – ثُمَّ قَالَ – يُنَادِى مُنَادٍ لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ . فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا ، فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ . فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ ، فَمَا تُرِيدُونَ فَيَقُولُونَ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا . فَيُقَالُ اشْرَبُوا . فَيَتَسَاقَطُونَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا – قَالَ – فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ . فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا . فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ . فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً ، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ » . قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجَسْرُ قَالَ « مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ ، لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا .
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ . وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) ، « فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي . فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا ، فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ فِى حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ ، قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ إِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ ، فَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ . فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » .ومن الأسباب التي تجعل المرء مبيض وجهه ويسعى نوره يوم القيامة الصلاة والصدقة ففي صحيح مسلم ، يقول صلى الله عليه وسلم
(وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ )
أيها المسلمون
أما عن الأسباب التي تجعل العبد وجهه مسودا يوم القيامة : فمن أعظم الأسباب لاسوِداد الوجوه يوم القيامة، والتي تشمل بعض أهم الأعمال أو الأقوال التي استحقوا بها هذه العقوبة، والتي تُلحِق بهم: الخزي والهوان، والذلة والصغار، والفضيحة والعار ؛ ذلك لأنهم – وما مِن شكٍّ – إنما وقعوا فيها، بسبب أفعالهم المُنكَرة، وأقوالهم الباطلة، نعوذ بالله – عز وجل – من هذا الحال. : السبب الأول – الكفر بعد الإيمان : قال الله – عز وجل -: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [آل عمران: 106]. وممن تشملهم الآية – كما رُوي تفسيرًا لهذه الآية عن بعض السلف -: المنافقون؛ وأهل البدعة والفُرقة ، والفرق الهالكة المضلة ،أما السبب الثاني من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة فهو: – الكذب على الله – عز وجل -: قال الله – عز وجل -: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر:60]. قال ابن تيمية – رحمه الله -: “الكذب أصل للشر، وأعظمه الكذب على الله عز وجل، ولا أظلم ممَّن كذب على الله – عز وجل – وعلى دينه؛ كما يقول ابن القيم رحمه الله : فالكاذب على الله – عز وجل – من أعظم الناس جرمًا، وأشدهم إثمًا؛ ألا ترى أن الله – عز وجل – سوَّى بين من كذب عليه – عز وجل – وبين الكافر؟ وما ذلك إلا لعظم الكذب عليه عز وجل، فقال – عز وجل -:
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾ [الأعراف:37]؛ ولذلك استوجب الكاذب على الله – عز وجل – هذا السواد، واستحق هذا الوعيد.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما السبب الثالث من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة : – فهو اكتساب السيئات: قال الله – عز وجل -: ﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾ [يونس: 27]. والسبب الرابع – من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة : الكفر والفجور: قال الله – عز وجل -: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس: 40 – 42]. ومعنى قوله – عز وجل -: ﴿ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾؛ أي: “يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود” . وقال الرازي: “ولا يُرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا اغبرَّت، وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين: السواد والغبرة، كما جمعوا بين: الكفر والفجور، والله أعلم” . والسبب الخامس – من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة : الإجرام: قال الله – عز وجل -: ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾ [الرحمن: 41]. يقول الحسن في قوله – عز وجل -: ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾ “يُعرفون باسوداد الوجوه، وزُرقة العيون” ، وبمثله قال قتادة ، واختاره الرازي فقال: “وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين” فقال: “أي: بعلامتهم المميزة لهم، وقد دلَّ القرآن على أنها هي: سواد وجوههم، وزرقة عيونهم”.
ويقول أيضًا الله – عز وجل -: ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾ [طه: 102]. يعني زرق العيون سود الوجوه؛ كما قال الضحاك ومقاتل ،وقال الشنقيطي: “وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودًا والعيون زرقًا، ألا ترى الشاعر لما أراد أن يصور عِلل البخيل في أقبح صورة وأشوهها اقترح لها زرقة العيون، واسوداد الوجوه في قوله :وللبَخيل على أمواله عِلَل زرق العيون عليها أوجُه سُود ،والسبب السادس – من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة : الفجور: قال الله – عز وجل -: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾ [القيامة:24]، قال ابن كثير: “هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة” ، وقال الطبري: “ووجوه يومئذٍ متغيرة الألوان، مسودة كالحة” وقال الرازي: “المعنى أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها، وعدمت آثار السرور والنعمة منها؛ لما أدركها من الشقاء، واليأس من رحمة الله، ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار”
أيها الموحدون
ألا فكونوا من الذين تبيض وجوههم يوم القيامة ، وذلك بالإيمان والعمل الصالح ، والتمسك بالكتاب والسنة ، والسير على خطى سيد الأولين والآخرين ، وتجنب طريق الكفرة والفجرة ، والمجرمين والمفسدين ،قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (42) عبس
الدعاء