درس بعنوان (غزوة بدر في القرآن الكريم )
يوليو 22, 2016دروس بعنوان (الصفات الخلقية والخلقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم )
يوليو 22, 2016درس بعنوان ( فتح مكة )
قال الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) ) الفتح
وقال الله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) ) الفتح
وروى مسلم في صحيحه (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ. )
إخوة الإسلام
شهر رمضان المبارك شهر مُلئ بالمناسبات الطيبة التي يفتخر بها المسلمون على مر الأيام بالليل والنهار،
فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، وهو شهر ليلة القدر،
وهو شهر الانتصارات في الغزوات كبدر وفتح مكة وغيرهما.
وفتح مكة كان في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة،
وفتح مكة هو الفتح المبين الذين أعز الله به جند الإسلام ورد لهم اعتبارهم ورفع به كرامتهم ورؤوسهم حتى بلغت عنان السماء ،،
وهو الفتح الأعظم الذي قصم به الله دولة الكفر ، وأزال به شعائر الشرك ، ومعالم الطغيان، وأشرقت وجه الأرض مرة أخرى بالتوحيد والتحميد،
إنه الفتح العظيم ليس للأرض فقط إنما هو فتح القلوب لدين الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجًا..
فهؤلاء النفر المستضعفين بقيادة الرسول الذين خرجوا مستخفين من عدوهم فارين بدينهم تاركين ديارهم وأهليهم والدنيا بأسرها وراء ظهورهم خائفين مترقبين, هم هم الذين يعودون بعد ثماني سنوات بجيش كبير وإيمان أكبر لفتح البلد التي أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله،
فلم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يظن أن الرسول سيعيد بناء الأمة ويكوّن دولة من مجموعة من الفارين المهاجرين بدينهم تستطيع أن تفتح معقل الكفر وعاصمة الشرك وبؤرة الإرهاب الوثني للمسلمين طيلة عشرين سنة,
ففى أواخر السنة الثامنة من الهجرة كان قد أتى على صلح الحديبية سنتان ، وكان من بين شروطه: أن من أحب أن يدخل فى عهد محمد دخل فيه ،ومن أحب ان يدخل في عهد قريش دخل فيه
وبمقتضى هذا الشرط دخلت قبلية خزاعة فى حلف مع النبى صلى الله عليه وسلم – ودخلت قبيلة بنى بكر فى حلف مع قريش ، وكانت القبيلتان تسكنان أحياء من مكة وضواحيها وبينهما ثأر وعداء متوارث يرجع تاريخه الى ما قبل البعثة
وذات يوم تحركت هذه الاحقاد فاغتنم بنو بكر حلفاء قريش هدنة الحديبية وفاجأوا خزاعة حلفاء النبى صلى الله عليه وسلم وأمدتهم قريش بالخيل والسلاح حتى لقد ذكر الواقدي أن ممن إشترك فى القتال سرآ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو مع غيرهم وعبيدهم وقد بلغ بهم الحمق والطغيان أن يطاردوا خزاعة حتى الحرم ويقاتلونهم فيه حيث لا يجوز فيه القتال
فلما انتهوا إليه قال نفر من بنى بكر لرئيسهم نوفل بن معاوية إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بنى بكر اصيبوا ثأركم فلعمرى إنكم لتسرقون فى الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه
ولعل السر فى تورط قريش ومساعدتها لبنى بكر هو أنها فسرت تفسيرا خاطئا ما جرى لجيش المسلمين فى سرية مؤته إذ إعتقدت أن ما جرى كان هزيمة كبيرة لحقت بالمسلمين وهذا خطأ فادح وقعت فيه وترتب عليه إرتكابها لهذا الخطأ الأحمق وانتهاكها لشروط صلح الحديبية وما ترتب على ذلك من فتح مكة كما سنرى
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة خرج عمرو بن سالم الخزاعي وقدم على رسول الله فى المدينة وأنشدة أبياتا ينشده فيها الحلف الذي كان بينه وبين خزاعة ويسأله المعونة والنجدة ويخبره بأن قريشا اخلفوه الموعد ونقضوا الميثاق المؤكد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: نصرت يا عمرو ابن سالم
وأراد الرسول صلى الله عليه و سلم أن يستوثق منهم الخبر ويعذر إلى قريش فبعث إليهم رجلاً يخيرهم بين ثلاث
1 – أن يدُوا قتْلى خزاعة. (أي: يدفعوا دية قتلى خزاعة).
2 – أو يبْرَؤُوا من حِلْفِ بني نُفاثة.
3 – أو ينبذ إليهم عهدَهُم على سواء. (أي: فيتحلَّل كلّ فريق من الالتزام بعقده وعهده).
فاجتمعتْ رؤوس قريشٍ للتَّشاوُر فيما عرض عليْهِم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فتعجَّل “قرظة بن عمرو” من بين القَوْمِ فقال: “لا ندي، ولا نبرأن ولكن ننبِذُ إليه على سواء”. ورجع مبعوثُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – بِما سمع منهم، فأخبر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ ندِمَتْ قريشٌ على ما كان منها، إذ تَخوَّفَتْ من الانتِقام وغزْوِ الرسول لها في بلدها، وأرادتْ أن تتدارَك الأمر مع الرسول، فاتَّفق كبراؤُها على أن يرسلوا زعيمَهُم “أبا سفيان بن حرب” إلى الرَّسول في المدينة، فيوثِّق معه عقد الهدنة، ويستزيد في مدَّتِها.
وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه: ((كأنَّكُمْ بأبِي سفيان قد جاء يقول: جدِّد العهد، وزد في المدَّة. وهو راجع بسخطة)).
فقدم أبو سفيان المدينة، ودخَل على ابنتِه أمِّ المؤمنين أمِّ حبيبة، فأقبل ليجْلِسَ على فراش النبي – صلى الله عليه وسلم – فطوته عنه.
فقال لها: يا بنية، ما أدري، أرغبتِ بِي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عنِّي؟
قالت: بل هو فراش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنتَ مُشْرِكٌ نَجس.
قال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم ذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلَّمه فيما هو قادم من أجله، فلم يَرُدَّ عليْه الرَّسول شيئًا، ثُمَّ ذهب إلى أبي بكر الصديق، فطلبَ منه أن يكلِّمَ الرَّسول في الأمر، فأبى الصديق – رضي الله عنه – وقال له: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطَّاب، فطلب منه أن يَشْفَع لقُريْشٍ عند رسول الله، فكان عُمَر أشدَّ النَّاس وطأةً عليه، وأعنف ردًّا، وقال له: أأنا أشفَعُ لكم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟! فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتُكم به. ثُمَّ أتَى عليَّ بن أبي طالب، وعنده زوجُه فاطمة، وابنُهما الحسن، غلام يدبُّ بيْن أيديهما، فاستَعْطَفَ عليًّا، وسأله بالرَّحِم أن يَشفع له عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقال له: يا عليُّ، إنَّك أمسُّ القَوْمِ بِي رحمًا، وإني قد جئتُ في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبًا، اشفَعْ لي إلى مُحمَّد. فقال له عليّ: ويْحَك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أمرٍ ما نَستطيع أن نكلِّمَه فيه.
فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة بنت الرَّسول يستعطِفُها، وقال لها: يا بِنْتَ مُحمَّد، هل لكِ أن تأْمُري بُنَيَّك هذا، فيجيرُ بيْن النَّاس، فيكون سيِّد العرب إلى آخِر الدَّهر؟ فقالت له: والله ما بلغ بُنَيَّ ذاك أن يُجيرَ بين الناس وما يُجيرُ أحدٌ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وعاد أبو سفيان زعيم قريش إلى مكَّة خائبًا، لَمْ يَنَلْ شيئًا مما قدِمَ من أجْلِه!
ولمَّا قدم على قريش قالوا له: ما وراءك؟
قال: جئت محمدًا فكلمته، فوالله ما ردَّ عليَّ شيئًا. ثُمَّ جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرًا. ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدُوِّ (أو أعدى العدو). ثم جئتُ عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بشيْءٍ صنعْتُه، فوالله ما أدري هل يُغْنِي ذلك شيئًا أم لا؟
قالوا: وبم أمرك؟
قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت.
قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟
قال: لا.
قالوا: ويلَكَ، إن زادَ الرَّجُل على أن لعِبَ بك، فما يغني عنك ما قُلْت.
قال: لا والله ما وجدتُ غيْرَ ذلك.
أيها المسلمون
روى ابن أبي شيبة بسندِه عن أبي مالك الأشجعي: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خرج من بعض حجره، فجلس عند بابِها – وكان إذا جلس وحده لم يأتِه أحدٌ حتَّى يدعوه – فقال – صلى الله عليه وسلَّم -: ((ادْعُ لي أبا بكر)).
فجاء، فجلس بين يديْه، فناجاه طويلاً، ثُمَّ أمره فجلسَ عن يَمينه. ثم قال: ((ادعُ لي عمر)).
فجلس فناجاه طويلاً، فرفع عُمَرُ صوتَه فقال: يا رسول الله، هم رَأْسُ الكُفْر، هم الذين زعموا أنَّك ساحرٌ، وأنَّك كاهن، وأنَّك كذَّاب، وأنَّك مُفْتر.
ولم يَدَعْ شيئًا مِمَّا كانوا يقولونه إلا ذَكَرَهُ، فأمره فجلس عن شِمالِه ثُمَّ دعا النَّاس فقال لهم: ((ألا أحدِّثُكم بمثل صاحبيكم هذين؟))
قالوا: نعم يا رسول الله. فأقبل بوجهه على أبي بكر فقال: ((إنَّ إبراهيم كان ألين في الله تعالى من الدهن للميل)).
ثم أقبل بوجهِه على عمر فقال: ((إنَّ نوحًا كان أشدَّ في الله تعالى من الحجَر، وإنَّ الأمر أمر عمر، فتجهَّزوا، وتعاونوا)).
فتبِع النَّاسُ أبا بكر، فقالوا: إنَّا كرِهْنا أن نسأل عمر عمَّا ناجاك به رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو بكر: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كيف تأمرني في غزو مكة؟)).
قلتُ: يا رسول الله، هم قومُك، حتَّى رأيْتُ أنَّه سيُطيعُنِي.
ثُمَّ دعا عمر، فقال عمر: هُمْ رأْسُ الكفر، حتى ذكر له كلَّ سوء كانوا يقولونه.
وايمُ الله، لا تذلُّ العرب حتى يذلَّ أهل مكَّة، وقد أمركم بالجهاز لتغزو مكة”.
هذه الرواية تدلُّ على أنَّ عرض الرسول على الصاحبين كان عرض استئناس بالرأي، لا عرض مشاورة، وأنَّ عزم الرسول على غزو مكَّة قد سبق ذلك.
الأمارات تدل على أنَّ التوجيه لغزوها كان بوحي من الله.
وهكذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في التجهيز للخروج شطر مكة لفتحها ، وكان من عادة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قيادته الحربية، أنه إذا أراد التوجُّه لجهةٍ ما ورَّى بغيرها، ليباغت عدوَّه مباغتة، وليُخْفِي الأمر عن عيون العدوِّ وجواسيسه.
إلا أنَّه حين أراد فتح مكَّة خالف عادتَه، فأمر المسلمين بأن يتجهَّزوا للخروج، وصرَّح لهم بالجهة التي يريدُ التوجُّه لها، والتجأ إلى الله داعيًا فقال: ((اللَّهُمَّ خذِ العُيُون والأخبار عن قُرَيْشٍ، حتَّى نبغَتَها في بلادِها)).
وفي رواية أنَّه قال: ((اللَّهُمَّ خذْ على أسماعِهم وأبصارِهم، فلا يروْنَنا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة)) وأمر المسلمين بالكتمان.
ويبدو أنَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – قد صرح بمقصده في هذه المرَّة؛ لأنَّ فتح مكَّة حدث خطير جدًّا من شأنه أن يعلم المسلمون به، ليستعدَّ كلُّ القادرين منهم لاكتساب شرف المساهمة فيه، وإنقاذ بلَدِ الله من سلطان الشرك، وتطهيره من رجس الأوثان وعبادتها فيه.
واستجاب الله لرسولِه دعاءَه، فعمَّى الأخبار عنْ قُرَيْشٍ، وكشَف لرسولِه خيانة حاطب بن أبي بلتعة، قبل أن تصِلَ رسالتُه إلى قريش، كما سيأتي بيانه.
وأخذ الرسول الحيطة مَخافةَ تسرُّب الأخبار إلى أهل مكَّة فأقام الرُّقباء على الأنقاب (وهي الطرق في الجبال) وجعل عليْها عمر بن الخطاب، وأمرَ أصحاب الأنقاب أن لا يدعوا أحدًا يمُرُّ بهم ينكرونه إلا ردُّوه.
وفي الوقت نفسِه إذِ المسلمون يتجهَّزون لفَتْحِ مكَّة، وهم يُراعون الكتمان والسرية، بعث رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – سرية من ثَمانية رجالٍ بِقِيادة أبي قتادة بن ربعي، إلى بطن أضم، وهم قوم تقعُ منازلهم على ثلاثة بُرُدٍ من المدينة.
وكان ذلك مع أوائل شهْرِ رمضان الذي خرج الرَّسُول في نَحو العاشر منه لفتح مكة، وسارتْ هذه السرية حيثُ وجَّهها الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – ولمَّا بَلَغَهَا خروجُه بالمسلمين لفتْحِ مكَّة لحقت به.
وبعْثُ هذه السرية يوهم العرب أنَّها بعثة استكشافية، وطليعة لجيش الرسول القادم شطر الجهة التي انطلقت إليها، فتسير بذلك الأخبار بين العرب، فيظل المقصود منهم قارًّا لا يستعد للمواجهة، حتى إذا فاجأَتْه مباغتة الجيش العرمرم، لم يجد بدًّا من الاستسلام، إذ يرى نفسه عاجزًا عن المقاومة، وبذلك يَحْصُل مقصودُ الفتح، وتُحْمى الدماء، ولا تستحل الحرمات في بلد الله الحرام، وتبقى له مهابته ومكانته، ويظلُّ بين الناس معظَّمًا أبد الدهر. وهذه الخطة خطة حكمة ورشد.
أيها المؤمنون
ولما أجمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – المسير إلى مكَّة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش، يخبرهم فيه بالذي عزم عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً (أجرًا) على أن تبلغه قريشًا، فجعلته في رأسها، وفتلت عليه قرونَها (= ضفائر شعرها) ثم خرجت به في اتجاه مكة.
ونزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخبرُ منَ السَّماء بما صنع حاطب بن أبي بلتعة. فبعث “علي بن أبي طالب” و”الزبير بن العوام” و”المقداد بن عمرو” و”أبا مرثد الغنوي” و”عمَّارا” و”طلحة” كما جاء في جملة روايات البخاري ومسلم وابن إسحاق وغيرهم، واقتصرت كل رواية على بعضهم. وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – لهم: ((انطلقوا حتى تأتوا (روضة خاخ)[1] فإنَّ بها ظعينة[2] معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها)).
قال علي – رضي الله عنه -: “فانطلقنا تتعادى بنا خيلُنا حتَّى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة.
فقلنا له: أخرجي الكتاب.
قالت: ما معي كتاب.
فأنَخْنَاها، فالتمسْنا فلم نر كتابًا.
فقلنا: ما كذَب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لتُخْرِجِنَّ الكتاب، أو لنلقين الثياب.
فلمَّا رأتِ الجِدَّ قالت: أعرض. فأعرض، فأخرجته من عقاصها (أي: من لفائف شعرها).
قال علي: فأَتَيْنا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإذا به:
من حاطب بن أبي بلتعةَ إلى ناسٍ من المشركين بمكَّة، وسمى منهم: سُهَيْلاً، وصفوان، وعكرمة، يُخْبِرهم ببعض أمْرِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وما أجْمَع عليه من الأمر بالسير إليهم”.
ونصُّ الكتاب عند أهل المغازي كما يلي:
أمَّا بعد، يا معشر قريش، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله، لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنَّه مُنْجِزٌ له ما وعَدَه.
فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حاطبًا، فقال له: ((يا حاطب، ما حَمَلَك على هذا؟))
فقال حاطب: يا رسول الله لا تَعْجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصقًا في قريش، ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان مَن معك من المهاجرين من لهم قرابات يَحْمُون بِها أهليهم وأموالهم.
فأحببت إذ فاتنِي ذلك من النسب فيهم أن أتَّخِذ عندهم يدًا، يَحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أمَّا إنه قد صدقكم ولا تقولوا له إلا خيرًا)).
قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عُنُقَه، فإنَّ الرَّجُل قد نافق.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((وما يُدْرِيكَ يا عُمَر، لعلَّ الله قدِ اطَّلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعمَلُوا ما شئتم قد غفرت لكم)).
ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
لقد راعى الرسول له مأثرةَ شهودِه بدرًا، فعفا عنه رغم أنَّ الذي بدر منه قد كان أمرًا عظيمًا، وهو في أعراف الحكم العسكري من قبيل الخيانة العظمى.
وأنزل الله بمناسبة ما كان من حاطب، قوله عز وجل في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 1 – 3].
والذي دفع عمر – رضي الله عنه – إلى أن يقول للرسول – صلى الله عليه وسلم -: “يا رسول الله، دعْني أضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق”:
1 – أنَّ طبيعة عمر ومزاجه الرغبة السريعة في الأخذ بالعقاب الصارم، دون النظر في أعذار المسيئين، ومُخفِّفات جرائمهم، وسابقاتِهم الصادقة في الخير.
2 – أنَّه رأى في مُوالاة الكفَّار سرًّا، وهو بين المسلمين يجاهد جهادهم، نوعًا من النفاق في السلوك، يتضمَّن خيانة عظمى للرسول وللمسلمين، قد تجلب للمسلمين أضرارًا خطيرة كبرى للأمة في حربها مع عدوها، وهذه يستحقُّ عليه القتل عقابًا، ولو لم يستحق عليها القتل للردة عن الإسلام.
لذلك قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – له: ((وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم)).
ففي هذا إشعار ضِمْني بأنَّ جريمة حاطب يستحقُّ عليها عقوبة القتل، إلاَّ أنَّ سابقته في بدر سابقة خير عظيم من شأنها أن تُخفِّف عنه العقوبة، وهذه السابقة تتضمَّن صدقه في قتال قريش الذي صانعهم الآن سِرًّا، إذ أخد الضعف تِجاه عاطفته نحو أهله الذين في مكَّة، فهُما تتكافآن في نظر القائد الإداري الحكيم.
ولا أرى أنَّه قد كان واردًا في ذهن عمر أنَّ الرجل قد نافق في أصل الدين مرتدًّا عنه سرًّا، بعد أن قال حاطب: “ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام”.
أيها المسلمون
وأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأن يتجهَّزوا للخروج، فلمَّا أتَمُّوا جهازهم، تجمَّع له منهم عشرة آلاف، من مهاجرين وأنصار، بأدواتهم الحربية، ومؤنهم، ومراكبهم من الخيل والإبل.
ثم أرسل إلى مَن كان من القبائل المسلمة حول المدينة يدعوهم للخروج، فتلاحق منهم بالجيش ألفان، من قبائل (أسلم، ومزينة، وجهينة، وغفار، وسليم).
وعقد الرسول الألوية والرايات ودفعها إلى أمراء الكتائب وزعماء القبائل، وقاد الجيش، وسار به متوكلا على الله، واثقا من نصره وفتحه، متجها به شطر مكة.
واستخلف على المدينة “أبا رُهْم كلثوم بن حصين الغفاري”.
وكان خروجه في شهر رمضان، والناس صائمون.
وعند ابن إسحاق أنَّ الخروج قد كان لعشْرٍ مَضَيْنَ من شهر رمضان، فصام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصام النَّاسُ معه، حتَّى إذا كان بالكديد (اسم مكان في الطريق إلى مكة) أفطر.
وثَبَتَ في الصَّحيح أنَّ المُسْلِمين خرجوا من المدينة صيامًا، ثم نزلوا منزلا في وسط الطريق، فقال لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)).
فرغَّبهم بأن يفطروا دون إلزام، ثم لما صار بينهم وبين مكة نحو ليلة قال لهم: ((إنكم مصبحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا)).
فأمرهم بالفطر أمر إلزام، فكان عزيمة، ليكون ذلك قوة لهم على مواجهة عدوهم.
ولما وصل الرسول – صلى الله عليه وسلم – بجيش المسلمين إلى (الجحفة)[3] لقيه عمه العباس بن عبدالمطلب معلنًا إسلامَه، ومهاجِرًا بعياله إلى المدينة، وكان قبل ذلك مقيمًا بِمَكَّة على سقايته، ورسولُ الله عنه راض، ووجد الرَّسول متوجِّهًا لغزو مكة فعاد معه.
ولما وصل الرسول – صلى الله عليه وسلم – بِجَيْشِ المسلمين إلى (الأبواء) لقيه ابن عمه: “أبو سفيان المغيرة بن الحارث بن عبدالمطَّلب” وابن عمَّته عاتكة بنت عبدالمطلب “عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم”.
فالتمسا مقابلته، فكلمته “أمُّ سلمة” فيهما، فقالت: “يا رسول الله، ابن عمك، وابن عمَّتك وصهرك”[4] وقالت له: “لا يكون أشقى الناس بك”.
قال: ((لا حاجةَ لي بِهما، أمَّا ابن عمِّي فهَتَك عرضي، وأمَّا ابن عمَّتِي وصهْري، فهو الذي قال لي بمكة ما قال))[5].
وخرج الخبر إليْهما بذلك، وكان مع ابن عمِّه أبي سفيان بني له، فقال: “واللهِ ليأذنَنَّ لي، أو لآخذنَّ بيدي بني هذا، ثم لنذهبنَّ في الأرض حتَّى نَموتَ عطشًا وجوعًا”.
وبلغ رسول الله ذلك فرقَّ لهُما، وأذِنَ لهُما فلقِيَاهُ وأسلما.
وروي أنَّ عليَّ بن أبي طالب قال لابن عمه أبي سفيان المغيرة بن الحارث: ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91].
فإنَّه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا.
ففعل ذلك ابن عمه أبو سفيان، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)).
فأنشده شعرًا قال فيه:
لَعَمْرُكَ إِنِّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاَّتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ[6] الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِي
هَدَانِيَ هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي فَدَلَّنِي عَلَى اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ[7]
فضرب رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في صدره وقال له: ((أنت طرَّدْتَني كلَّ مُطَرَّد)).
قالوا: وقد حسُن إسلامه، وكان لا يرفَعُ رأسَه إلى الرَّسولِ حياءً منه، ثُمَّ أحبَّه الرَّسول، وقال فيه: أرجو أن يكون خلفًا من حَمزة.
وتابع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المسيرَ بِجَيْشِه شطْرَ مكَّة وأهل مكَّة لا يعلمون شيئًا، لقد عمَّى الله عنهُمُ الأخبار.
ولما بلغ ماء الكديد، أفطر وأفطر النَّاس معه، كما جاء في صحيح البخاري.
ثُمَّ سار حتَّى نزل عشاء بمر الظهران (هو وادي فاطمة اليوم) فحط الرحل، وحط الجيش معه رحالهم.
وأشعل المسلمون نيرانهم في منازلهم، فكانت نيرانًا كثيرةً مُرْهِبة لِمَنْ يراها في الليل، ودالَّة على أنَّ الجيش عظيم، وهدف الرسول من ذلك إلقاء الرعب في قلوب طلائع قريش، حتى يستسلموا، ويدخل الرسول يجيش المسلمين مكَّة دون حرب، حماية للدماء، وحرمة للبلد الحرام، ولبيت الله الكعبة المشرفة.
وقال العباس بن عبدالمطلب: واصباحَ قريش، والله لئن دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستَأْمِنوه، إنَّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
لقد خاف العبَّاس على مكَّة وأهلها من أن يكون فتح الرسول لها عنوة وقهرًا بالحرب.
فخرج على بغلة الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – البيضاء ليلاً، بعد أن حطَّ المسلمون رحالهم، وأوقدوا نيرانَهم.
ويُحدثُ عن نفسه فيقول كما جاء في سيرة ابن هشام:
“فجلست على بغلة رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – البيضاء، فخرجْتُ عليْها حتَّى جئت الأراك. فقلت: لعلِّي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة، يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ليخرجوا إليه فيستأمنوه، قبل أن يدخلها عليهم عنوة”. قال: فوالله إنِّي لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سَمِعْتُ كلامَ “أبي سفيان بن حرب” و”بُدَيْل بن ورقاء” وهُما يتراجعان (أي: يتحاوران ويتبادلان الكلام، وكان معهما حكيم بن حزام).
وأبو سفيان يقول: ما رأيتُ كالليلة نيرانًا قطُّ ولا عسكرًا.
ويقول بديل: هذه والله خزاعةُ حَمَشَتْها[8] الحرب (أي: ألهبتها غضبا رغبة الحرب، لتأخذ ثأرها من بني بكر وقريش التي آزرتهم).
ويقول أبو سفيان: خزاعة أذلُّ وأقلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة (هذه كنية أبي سفيان) فعرف صوتي.
فقال: أبو الفضل؟
قلت: نعم.
قال: ما لك فداك أبي وأمي؟
قلتُ: ويْحَك يا أبا سفيان، هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟
قلت: والله لئن ظفِرَ بك ليضربنَّ عُنُقَك، فاركَبْ في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأستأمنه لك.
فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئتُ به، كلَّما مررتُ بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟
فإذا رأوْا بغلةَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على بغلتِه، حتَّى مررْتُ بنارِ عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليَّ.
فلمَّا رأى أبا سُفيان على عجُز الدَّابَّة قال: أبو سفيان عدوُّ الله!. الحمد لله الذي أمْكَنَ منك بغير عقد ولا عهد.
ثُمَّ خرج يشتدُّ نَحو رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجُل البطيء.
فاقتحمت عن البغلة، فدخلتُ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ودخل عليه عمر. فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعْنِي فلأضرب عنقه.
قال العباس: فقلت: يا رسولَ الله، إنِّي قد أجَرْتُه، ثُمَّ جلست إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخذتُ بِرَأْسِه، فقلت: والله لا يُناجيه الليلة دوني رجل، فلمَّا أكثرَ عُمَرُ في شأنه، قلتُ: مهلا يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلتَ هذا، ولكنَّك قد عرفْتَ أنَّه من رجال بني عبد مناف.
فقال عمر: “مهلاً يا عبَّاس، فواللهِ لإسلامُك يوم أسلمت كان أحبَّ إلي من إسلام الخطَّاب لو أسلم، وما بي إلا أنِّي قد عرفت أنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إسلام الخطَّاب لو أسلم”.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبْ به يا عبَّاس إلى رحْلِك، فإذا أصبحتَ فأْتِني به)).
قال العبَّاس: فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي، فلمَّا أصبح غدوْتُ به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلمَّا رآه قال له: ((ويْحَك يا أبا سفيان، ألم يَأْنِ لك أن تعلم أنَّه لا إله إلا الله؟))
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلَمَك وأكرَمَك وأوْصَلَك!، والله لقد ظننتُ أنَّه لو كان مع الله إله غيرُه لقد أغنى عني شيئا بعد.
قال الرسول: ((ويْحكَ يا أبا سفيان، ألمْ يأْنِ لك أن تعلم أنِّي رسول الله؟)).
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلَمَك وأكرمك وأوصلك!، أمَّا هذه والله فإنَّ في النفس منها حتى الآنَ شيئًا.
قال العبَّاس: فقلتُ له: ويْحَك أسلِم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله قبل أن تُضرب عنقك.
فشهِدَ شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: قلت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجُلٌ يُحِبُّ هذا الفخر، فاجعل له شيئًا.
قال الرسول: ((نعم، مَنْ دخَلَ دارَ أبِي سفيان فهو آمِن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)).
فأعطى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أهل مكة بذلك الأمان إذا أخْلَوْا طُرُقاتِها، ولم يتعرَّضُوا للجيش الفاتح.
فلمَّا ذهب أبو سفيان لينْصَرِف، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا عباس، احبسه في مضيق الوادي عند خطم الجبل حتَّى تَمرَّ به جند الله فيراها)) (أي: عند أنف الجبل – وعند البخاري: عند حطم الجبل، وهو موضع ضيق تتزاحم فيه الخيل حتى تكاد يحطم بعضها بعضا).
فخرجت به حتَّى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟
فأقول: سليم. فيقول: ما لي ولسليم. ثم تمر القبيلة، فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟. فأقول: مزينة. فيقول: ما لي ولمزينة. حتى نفدت القبائل، ما تمر بي قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان.
حتَّى مر الرسول – صلى الله عليه وسلم – في كتيبته الخضراء[9]، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد.
فقال أبو سفيان: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟!
قلت: هذا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المهاجرين والأنصار.
قال: ما لأحدٍ بِهؤُلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا.
قلت: يا أبا سفيان، إنَّها النبوة.
قال: فنعم إذن.
وجاء في رواية عن غير العبَّاس، لم يوردها ابن هشام:
وسمع أبو سفيان “سعد بن عبادة” وقد كان يحمل راية الأنصار يقول له: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلُّ الكعبة، اليوم أذلَّ الله قريشًا.
فلمَّا مر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأبي سفيان، قال أبو سفيان له: “أمرت بقتل قومك؟”
قال الرسول: ((لا)).
قال أبو سفيان: ألَمْ تعلمْ ما قال سعد بن عبادة؟
قال الرسول: ((ما قال؟))
قال أبو سفيان: قال: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحيل الكعبة، اليوم أذلَّ الله قريشًا” وقال أبو سفيان للرسول: أنشدك الله في قومِك، فأنت أبرُّ النَّاس، وأوصلهم.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا سفيان، كذَبَ سعدٌ، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تُكسى فيه الكعبة، اليوم يوم المَرْحَمَة، اليوم يعز الله فيه قريشًا)).
وأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى سعد بن عبادة، فأخذ لواء الأنصار من يده، فجعله في يدِ ابنه قيس. انتهت الرواية.
وقال العبَّاس: فقلت لأبي سفيان: النَّجاء إلى قومك.
فانطلق أبو سفيان إلى قريش، حتَّى إذا جاءهم، صرخ بأعلى صوته: “يا معشر قريش، هذا مُحمَّد قد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”.
فقامت إليه زوجته “هند بنت عتبة” فأخذتْ بشارِبِه، فقالت: “اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم”.
[شبهته بالحميت: وهو زق السمن، ووصفتْه بالأحمس لأنه كان كثير اللحم سمينًا، فالأحمس السمين كثير اللحم].
قال أبو سفيان: ويْلكم لا تغرَّنَّكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله، وما تُغْنِي عنَّا دارُك؟!
قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمِن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
أيها المسلمون
ودخل الجيش الإسلامي الفاتح مكة، فلما وصل الرسول إلى ذي طوى، أوقف راحلته وكان معتجرا (= متعممًا بعمامة دون ذؤابة) بشقة برد حبرة حمراء.
وطأطأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأسه خضوعًا لله، وذلا وشكرًا له، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى كان عثنونه[10] يمس واسطة رحله[11]، ولم يأخذه ما يأخذ الفاتحين من تعاظُمٍ واستِكْبار، وعلو في الأرض وطغيان، واستباحة لكل شيء دون رحمة ولا ابتغاء للخير.
بل دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة فاتحًا متواضعًا لله، برًّا رحيمًا، جوادًا كريمًا، سمحًا رؤوفًا، عفوًّا عطوفًا.
وكان شعار المهاجرين يومئذ: “يا بني عبدالرحمن” وشعار الخزرج: “يا بني عبدالله” وشعار الأوس: “يا بني عبيدالله”.
وفي موقفه بذي طوى وزع جيشه إلى ثلاثة أقسام، وعهد إلى أمراء الجيش: أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا مَنْ قاتلهم، باستثناء نفر سماهم، فأمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة.
* فقِسْمٌ عليه خالد بن الوليد، وفيه قبائل أسلم، وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل أخرى من قبائل العرب.
وأمر الرَّسول خالد بن الوليد أن يدخُل بِمَنْ معه من أسفل مكة، من كدي.
* وقِسْمٌ عليه الزبير بن العوام، وكان معه راية رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، راية الكتيبة الخضراء، وأمره الرَّسول أن يدخل مكَّة من أعلاها من كداء، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه.
* وقسم عليه أبو عبيدة بن الجراح، وكان معه الحسر، وهم المشاة، أو المشاة الذين لا دروع لهم، وأمره أن يأخُذَ بطن الوادي، وينصب لمكَّة بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبطن الوادي من الحجون إلى جهة المسعى بين الصفا والمروة.
ودخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مُردفًا وراءه أسامة بن زيد، حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هنالك قبَّته، وأعلاها يومئذ ما بين الحجون إلى مسجد الفتح، مقابل مبنى البريد المركزي الآن، ويقع بينهما مسجد الجن. وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة (الفتح) ويُرجع فيها (أي: يردد ويعيد).
ودخل من دخل من أهل مكة دورَهم وأغلقوا أبوابَهم ليأمنوا، ودخل من دخل منهم المسجد، ولم يواجه المسلمون جيشًا مُحاربًا من أهل مكة، باستثناء حدثٍ صغيرٍ ضعيفِ الشأن، قمعه خالد بن الوليد وكتيبته بسرعة، وفرَّ الفلول إلى بيوتِهم ليأمنوا.
وذلك أنَّ “صفوان بن أميَّة” و”عكرمة بن أبي جهل” و”سُهَيْل بن عمرو” شذُّوا عن عقلاء قومهم وسادة قريش، فجمعوا ناسًا أوباشًا بالخندمة، ولحق بهم “حماس بن قيس بن خالد” أخو بني بكر، وكان قبل ذلك يُعد سلاحًا لقتال محمد وأصحابه، وتربَّصوا بالخندمة لعلهم يجدون فئة منحازة عن كثافة الجيش فيقاتلونَها.
وحدث أن شذَّ “كرز بن جابر” و”خُنَيْس بن خالد” من المسلمين عن رجال خالد بن الوليد، فقُتِلا بأيدي الأوباش.
فعلم خالد بما حدث فأذِنَ لِمَنْ معه بأن يقاتلوا دفاعًا عن أنفسهم، فالتقوا بالأوباش المجتمعين لقتالهم بالخندمة، فكانتْ بين الفريقين مناوشة، وحدث اشتباك يسير، قتل فيه من جند المسلمين “مسلمة بن الميلاء الجهني” بعد أن كان خالد قد كفَّ يده عن القتال، وصبر على المتصدِّين من المشركين، حتى قتلوا من أصحابه من قتلوا فأذن بقمعهم، فقاتلهم جند خالد.
وعند ابن هشام أنَّ المسلمين أصابوا منهم اثني عشر رجلا، أو ثلاثة عشر رجلا.
وروي أنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصله خبر الأوباش الذين اجتمعوا لقتال المسلمين، فقال لأبي هريرة: “اهتِفْ لي بالأنصار”.
فهتف بهم، فجاءوا فأطافوا به، فقال لهم: “أتَرَوْنَ إلى أوباشِ قُرَيْشٍ وأتباعهم؟” ثم قال بإحدى يديه على الأخرى “احصدوهم حصدا، حتى توافوني بالصفا”.
قال أبو هريرة: فانطلقْنا، فما نشاء أن نقْتُلَ منهم أحدًا إلا قتلناه.
فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أُبيحتْ خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم.
قال أبو هريرة: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَغْلَق بابَه فهو آمن)).
فلمَّا رأت هذه العصابة أنَّها تعرِّضُ نفسها لمعركة انتحارية ولت منهزمة، لا تلوي على شيء، ودخلت فلولٌ منهم البيوت، وأغلقوا عليهم الأبواب، وطار صوابُ فريق منهم فانطلقوا إلى أعالي التلال ورؤوس الجبال، فرآهم “حكيم بن حزام” و”أبو سفيان بن حرب” فصاحَا بهم وهم يفرون: “يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم، من دخل داره فهو آمن، ومن وضع سلاحه فهو آمِن”.
فجعل المنهزمون يُسْرِعون، ويقتحمون الدُّور، ويغلقون أبوابَها، ويطرحون السلاح في الطرقات، فيأخذه المسلمون.
وفرَّ (صفوان، وعكرمة، وسهيل) الذين جَمعوا خلاطهم في الخندمة لقتال المسلمين. وفرَّ حماس بن قيس الذي لَحِق بهم، ودخل على امرأته منهزمًا، وقال لها: أغلقي الباب.
فقالتْ له تُعيِّره وتلومه: فأين ما كنت تقول؟ تشير بذلك إلى قوله لها قبل خروجه: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم.
فقال لها معتذرًا:
إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمَة إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَة
وَابُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالمُوتِمَة وَاسْتَقْبَلَتْهُمُ بِالسُّيُوفِ المُسْلِمَة[12]
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمة ضَرْبًا فَلا يُسْمَعُ إِلاَّ غَمْغَمَة[13]
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَة لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَة [14]
وانتهى أمر الأوباش بسرعة، وكف المسلمون عن القتال.
وروي أنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعا خالدًا فسأله: ((لِمَ قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟))
قال: يا رسول الله، هم بدؤُونا بالقتال، وقد كفَفْتُ يدي ما استطعت.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((قضاء الله خير)).
ونزل الرسول – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح في القبة التي ضربت له في الحجون، فاستراح بها بعض الوقت.
وقال له أسامة بن زيد: أين تنزل غدًا يا رسول الله؟
قال له: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟))؛ رواه البخاري.
وكان عقيل بن أبي طالب قد باعها فيما باع.
وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في رواية أخرى عند البخاري: ((منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف[15] بني كنانة، حيثُ تقاسَمُوا على الكفر)).
أي: حيث تَحالَفُوا أن لا يبايعوا بني هاشم، ولا يُناكِحُوهم، ولا يؤوهم، وكانوا قد حصروهم في الشعب.
(تقاسموا): من القسم وهي اليمين التي حلفوا عليها.
وأبى الرسول – صلى الله عليه وسلم -أن ينزل في بيت أحد، وقال: ((لا أنزل في البيوت)).
وترك الرسول – صلى الله عليه وسلم – المجاهدين معه يوم الفتح، ليستجمُّوا، ويأخذوا قليلا من الراحة، إثر النصب الذي نصبوه في رحلة الجهاد.
ونَهض الرسول – صلى الله عليه وسلم – من قبَّته في الحجون، ومعه خَلْقٌ كثير من المهاجرين والأنصار، قد أحاطوا به، ودخل المسجد الحرام، ومعهم جُمْهُور ممن أسلم من أهل مكة يومئذ، وممن لم يسلم.
فأقبل الرسول إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود، ثم طاف بالبيت على راحلته سبعًا، يستلم الرُّكْن بِمحجن[16] في يده.
قالوا: وكان في يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، مشدود بالرصاص، فجعل يطعن كلا نمها بقوسه، ويقول: ((جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)).
((جاء الحق وما يبدئُ الباطل وما يعيد)).
فتتساقط الأصنام على وجوهِهَا أو أقفائِها، فما أشار إلى صنم منها لوجهِه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قَفاه إلا وقع لوجهه.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله, كم من صنم في هذا الزمان يرنو إلى قوسك الطاهر, ويراعك النقي ليخر صريعًا على وجهه في الثرى, أصنام الآراء والأفكار المسعورة, أصنام العلمنة والحداثة, أصنام النعيق والتبعية واللهث وراء الغرب الكافر, ألا كم من صنم في هذا الزمان لا يسجد له ولا يتمسح به, لكنه أشد على الإسلام من ألف صنم وحجر.
فلمَّا أتَمَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – طوافه، دعا “عثمان بن طلحة” سادن الكعبة، فأخذ منه مفتاحها، فأمر بفتح بابها ففتحه له، فدخلها، فرأى في داخلها صورًا للملائكة وغيرهم، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – يستقْسِمان بالأزلام، فقال: ((قاتلهم الله، والله ما استَقْسما بِها قط)).
وقال: ((جعلوا شيخَنا يستقْسِمُ بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام؟ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67])).
ورأى في الكعبة تمال حمامة من عيدان، فكسره بيده ورماه، وأرم بالصور فطمست.
ثم أغلق عليه باب الكعبة ليخلو بربِّه في عبادة وصلاة، وكان معه فيها “أسامة بن زيد” و”بلال”. فاستقبل الجدار الذي يُقابل الباب، وتقدَّم حتَّى إذا كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع وقف. وجعل عمودَيْن عن يسارِه، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، إذ كان سقف البيت يومئذ على ستة أعمدة.
ثم صلى حيث وقف، ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله.
ثُمَّ وقف على باب الكعبة، وقد اجتمع في المسجد خلق كثير، وقد استكفوا له (أي: وقفوا ينظرون إليه من بعيد، وقد وضعوا أكفَّهم على جباههم ليساعدهم ذلك على النظر، ولعل الشمس كانت تِجاه وجوههم) فخطب الناس يومئذ فقال فيما ذكر ابن إسحاق: ((لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صَدَقَ وعده ونصر عبدَه، وهزم الأحزاب وحده.
ألا كل مأثرة (أي: من مفاخر الجاهلية) أو دمٍ أو مالٍ يُدعَى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.
ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلَّظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونِها أولادُها.
يا معشر قريش، إنَّ الله قد أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهليَّة وتعظمها بالآباء.
الناس من آدم وآدم من تراب.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)).
قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
قال موسى بن عقبة: (وانصرف الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى زمزم، فاطلع فيها، فدعا بماء فشرب منه وتوضَّأَ، والناس يبتدرون وضوءَه، والمشركون يتعجبون من ذلك ويقولون: “ما رأينا ملكًا قط، ولا سمعنا به مثل هذا”.
وأخر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومئذ مقام إبراهيم، وكان ملصقًا بالبيت.
ثم جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليْك.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أيْنَ عُثمان بن طلحة؟)).
فدُعي له، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((هاك مفتاحُكَ يا عُثْمان، اليوم يوم بر ووفاء)).
ورُوي أنه قال لعثمان بن طلحة: ((خذوها يا بني شيبة خالدةً تالدةً، لا يَنْزِعُها عنكم إلا ظالم)).
وإنَّه قال لعلي: ((إنَّما أعطيكم ما ترزءون، لا ما ترزءون)).
أي: ما تبذلون فيه معروفًا للناس بالسقاية، لا ما تنالون به من النَّاس مالا بالحجابة.
ثم انتقل الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى خيف بني كنانة، عند منحدر الجبل المقابل للشعب.
وقضى المسلمون يومهم وليلتهم يهللون، ويكبرون، ويحمدون الله، ويسبحونه، ويذكرونه، ويشكرونه على ما وهبهم من وهبهم من فتح مبين، وصاروا يتبادلون التهاني، ويكثرون من الطواف بالبيت تعبدا وشكرًا.
روى البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: “لما كان ليلة دخل النَّاس مكَّة، ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير وتَهليل، وطواف بالبيت حتى أصبحوا”.
أيها المسلمون
وها نحن في اليوم التالي ليوم الفتح ، فقد روى ابن إسحاق، عن أبي شريح الخزاعي، أنه لما كان الغد من يوم الفتح، عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك.
فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فينا خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله، ثم قال: ((يا أيها الناس، إنَّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة. فلا يحلُّ لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد بها شجرًا (أي: ولا يقطع بها شجرًا). لم تحلَّ لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلَّ إلا هذه الساعة، غضبًا على أهلها، ألا ثُمَّ رجعتْ حُرْمَتُها اليوم كحرمتها بالأمس. فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم، إن رسول الله قد قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلَّها لرسولِه ولم يحلَّها لكم)).
وعند البخاري زيادة: ((لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد)).
الخلى: الرطب من لا نبات، وخلَّى الخلى واختلاه إذا جزه.
فقال العباس بن عبدالمطلب: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بدَّ منه للدفن والبيوت.
فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: ((إلا الإذخر؛ فإنه حلال)).
الإذخر: حشيش طيب الريح.
ثم قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فلقد كثُر القتل إن نفع، لقد قتلتم …. …..، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين:
* إن شاءوا فدم قاتله.
* وإن شاءوا فعقْلُه)).
فعقله: أي فديته.
ثم إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – دفع دية ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة لأهله من هذيل.
أيها المسلمون
ومن الأحداث والوقائع التي صاحبت فتح مكة
1 – قالت “أم هانئ هند ابنة أبي طالب” أخت علي – رضي الله عنهما: لما نزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأعلى مكة، فرَّ إلي رجلان من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
فدخل عليَّ عليُّ بن أبي طالب أخي، فقال: “والله لأقتلنَّهُما”.
فأغلقت عليْهِما باب بيتي، ثم جئتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إنَّ فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشَّح به، ثُمَّ صلَّى ثَمانيَ ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: ((مرحبًا وأهلاً يا أم هانئ، ما جاء بك؟))
فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي فقال: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما)).
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة [17].
2 – وروى البخاري بسنده عن أم هانئ هند بنت أبي طالب: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اغتسل في بيتها يوم الفتح، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى. وأنها قالت: لم أره صلَّى صلاة أخف منها، غير أنَّه يتم الركوع والسجود.
ولا بدَّ أن يكون هذا في غير اليوم الأول للفتح، ويطلق يوم الفتح على اليوم الأول وعلى الذي بعده، جمعًا بين الحادثة الأولى والثانية.
3 – لما دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -الكعبة، ودخل معه بلال، ثم خرج الرسول، تخلَّف بلال داخل الكعبة، فدخل عبدالله بن عمر على بلال فسأله:
أين صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ ولم يسأله كم صلى.
فكان ابن عمر بعد ذلك إذا دخل البيت فعل كما فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فصلى في المكان الذي صلَّى فيه.
4 – ورُوي أنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – دخل الكعبة في بعض أيام الفتح ومعه بلال، وحان وقت صلاة الظهر، فأمر بلالا أن يؤذن، فأذن للصلاة.
وكان بفناء الكعبة من قريش: “أبو سفيان بن حرب، وعتَّاب بن أَسِيد، والحارث بن هشام”.
فقال عتَّاب بن أَسيد: “لقد أكرم الله أَسيدًا (أي: أباه) ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه” كبر جاهلي عن أن يؤذن حبشي على الكعبة.
فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنَّه مُحِقٌّ لاتَّبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلَّمت لأخبرت عني هذه الحصى.
فخرج عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((قد علِمْتُ الذي قلتُمْ، ثم ذكر ذلك لهم)).
فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنَّك رسول الله، والله ما اطَّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك.
5 – وأراد “فضالة بن عمير بن الملوح الليثي” قتْلَ النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يطوف بالبيت أيَّام الفتح.
فلمَّا دنا منه رسولُ الله قال له: ((أفضالة؟))
قال: نعم فضالة يا رسول الله؟.
قال له: ((ماذا كنت تحدث به نفسك؟))
قال: لا شيء، كنت أذكر الله.
فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: ((استغفر الله)).
ثم وضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يده على صدر فضالة، فسكن قلبه.
فكان “فضالة” يقول: والله ما رفع رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يده عن صدري، حتَّى ما من خلق الله شيء أحبّ إليَّ منه.
قال “فضالة”: فرجعت إلى أهلي، فمررْتُ بامرأةٍ كنتُ أتحدَّث إليها. فقالت: هلم إلى الحديث.
فقلت: لا.
وانبعث فضالة يقول:
قَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الحَدِيثِ فَقُلْتُ: لا يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ وَالإِسْلامُ
لَوْمَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ بِالفَتْحِ يَوْمَ تُكَسَّرُ الأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ
6 – وكان “صفوان بن أمية بن خلف” من رؤوس الذين حملوا أشد العداء للرسول، وكان قد دفع عمير بن وهب لقتل الرسول – صلى الله عليه وسلم – في المدينة بعد بدر، وكشف الرسول – صلى الله عليه وسلم- لعُمير تآمره مع أمية، مع أنه لم يكن معهما أحد فأسلم.
وكان قد حرَّض أوباش قريش على قتال المسلمين يوم الفتح، فرأى أنه مقتول مهدور الدم.
فخرج فارًّا يُريد جدَّة ليركب منها إلى اليمن.
فقال عمير بن وهب: يا نَبيَّ الله، إنَّ صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك، ليقذف نفسه بالبحر، فأمنه صلّى الله عليك.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((هو آمن)).
فأعطاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عمامته التي كان متعممًا بها معتجرًا إذ دخل مكة فاتحًا.
فخرج عمير بها وانطلق حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال له: يا صفوان، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد جئتك به.
قال صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فإنَّك كذاب.
قال عمير: فداك أبي وأمي، أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.
قال صفوان: إني أخاف على نفسي.
قال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
فرجع صفوان مع عمير، فلمَّا وقفا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((صدق)).
قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين.
قال الرسول له: ((أنت بالخيار فيه أربعة أشهر)).
ثم أسلم “صفوان بن أمية” وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يتألَّف قلبه، ويعطيه مع مَن يعطي من المؤلفة قلوبهم، وكان نصيبه في العطاء مع الذين بلغ نصيبهم مائة من الإبل.
وكانت زوجته “فاختة بنت الوليد” قد أسلمت، فلمَّا أسلم صفوان أقرَّها الرسول عنده على النكاح الأول.
7 – ولما أهدر الرسول – صلى الله عليه وسلم – دم عكرمة بن أبي جهل، فر قاصدًا اليمن، حتى وصل إليها.
وكانت امرأته “أم حكيم بنت الحارث” قد أسلمت، فطلبت الأمان لزوجها عكرمة بن أبي جهل، من الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فأمنه.
فلحقت به إلى اليمن، فجاءت به، فأسلم، وأقرهما على النكاح الأول.
ورُوي أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما رآه مقبلا عليه، نهض قائما وقال له: مرحبا بمن جاء مسلمًا مهاجرًا.
ثم سأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يستغفر له مما كان منه، فاستغفر له.
فكان من القادة، ومن أبطال الفتوحات الإسلامية.
8 – وكان من أمر “هند بن عتبة بن ربيعة، زوجة أبي سفيان بن حرب” أنها اختفت أيام الفتح الأولى، ثم جاءت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأعلنت إسلامها، فعفا الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنها.
فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم أصبح اليوم ما أهل أحب إلي أن يعزُّوا من أهل خبائك.
9 – ولما رأى أهل مكة ما كان من عفو الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – عنهم، وإكرامه لهم، دخلوا في دين الله أفواجًا، رجالا، ونساء، أحرارًا وعبيدًا، وتتابع الناس بعدهم يدخلون في دين الله أفواجًا، فكان فتح مكة فتحًا للإسلام عظيمًا.
10 – وجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الصفا ليبايع الناس، فتوافد الناس عليه يبايعونه رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا، أحرارًا وعبيدًا، وبدأ بِمُبايعة الرجال:
فبايعهم على الإسلام والسمع والطاعة لله ورسوله، فيما استطاعوا.
ولما فرغ من مبايعة الرجال بايع النساء دون أن يصافح أيًّا منهنَّ:
فبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف.
وكان بين المبايعات “هند بنت عتبة” وكانت مُنْتَقِبة متخفية فلما قال النبي: ((ولا يسرقن)) قالت “هند”: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجُلٌ شحيح، لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ من حرج إذا أخذتُ من ماله بغيره علمه؟
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لها: ((خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف)).
ولما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مبايعته النساء: ((ولا يزنين)) قالت هند: وهل تزني الحرة؟
وعرفها الرسول – صلى الله عليه وسلم – من صوتِها فقال لها: ((وإنَّك لهند بنت عتبة؟)).
قالت: نعم، فاعفُ عمَّا سلف عفا الله عنك.
11 – وروى البيهقي عن ابن مسعود أنَّ رجلاً كلَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح، فأخذته الرعدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((هوِّنْ عليْكَ، فإنَّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)).
القديد: هو اللحم المجفف بالشمس مع الملح.
12 – وروى ابن سعد أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج من الكعبة وأبو سفيان بن حرب جالس في المسجد، فقال أبو سفيان في نفسِه: ما أدري بم يغلبنا محمد؟
فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم – فضرب صدْرَه وقال له: ((بالله نغلبك)).
فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله.
13 – وروى الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، وروى ابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي: قالوا: رأى أبو سفيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمشي، والناس يطئون على عقبه، فقال: لو عاودت هذا الرجل القتال، وجمعت له جمعًا.
فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى ضرب في صدره فقال: ((إذا يخزيك الله)).
فقال أبو سفيان: أتوبُ إلى الله، وأستَغْفِرُه، ما أيقنت أنَّك نبيٌّ إلا الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك.
14 – جاء في مرسل يحيى بن سعيد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما فتح الله له مكة فتحا مبينا، وهي بلده، وموطنه، ومولده، وأحب بلاد الله إليه، وتم له الأمر، رآه الأنصار ذات يوم قد علا من الصفا حتى يرى الكعبة، فرفع يديه، وجعل يحمد الله ويذكره، ويدعو بما شاء الله له أن يدعو في تضرع وخشوع، وكانوا مجتمعين تحته في سفح الصفا، فقال بعضهم لبعض:
أترون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها، أم يرجع إلينا؟!
فلمَّا فرغ من دعائه أخبره الوحي بما قالوا: فتوجه الرسول – صلى الله عليه وسلم – لهم وقال: ((ماذا قلتم؟)).
قالوا: لا شيء يا رسول الله.
فلم يزل يتلطَّف بِهم حتى أخبروه بما قالوا.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((معاذ الله، المَحْيا مَحْياكم، والممات مَمَاتُكم)).
وروى الإمام مسلم والإمام أحمد وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لمَّا فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت، فرفع يديه وجعل يحمد الله تعالى ويذكره، ويدعو بما شاء الله أن يدعو، والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته.
قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه. فلمَّا قضى الوحي قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الأنصار)).
قالوا: لبيك يا رسول الله.
قال صلوات الله عليه: ((قلتم، أمَّا الرجل، فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته)).
قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله.
قال: ((ما اسمي إذا؟. كلا، إنِّي عبدالله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)).
فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله يا رسول الله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – لهم: ((فإن الله ورسوله يعذرانِكم، ويصدقانِكم)).
وقد تضمَّنَتْ هذه الرواية أنَّهم قالوا: “أمَّا الرجل” وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عاتبهم على هذه الكلمة، وقال لهم: ((ما اسمي إذا؟)) وأنَّه زَجَرَهُم على سوء الأدب في الحديث عنه بقوله: “كلا” وأنَّه أبان لهم وصفه الذي كان يجب أن يصفوه به بقوله: ((إني عبدالله ورسوله)) لذلك أقبلوا إليه يبكون ويعتذِرُون عن مقالتهم.
وبعد ذلك طمأنهم فقال لهم: ((هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)).
ورأى الزرقاني الجمع بين الروايتين بأنَّ فريقًا منهم قال المقالة الأولى، وفريقا منهم قال المقالة الثانية. على أنَّ رواية أبي هريرة هي الواردة في الصحيح.
تطهير ضواحي مكة من الأصنام:-
وأقام الرسول بمكة بضعة عشرة يوما ينظم شئونها ويفقه أهلها فى الدين وفى هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة على الإسلام لا للقتال ولتحطيم الأصنام من غير سفك الدماء فوجه خالد بن الوليد لهدم صنم “العزى” أكبر أصنام قريش وأرسل عمرو بن العاص لهدم”سواع” وهو أكبر أصنام هذيل وبعث سعد بن زيد الاشهلي لهدم “مناة” وقد عادت كل هذه السرايا مكللة بالنجاح وذهبت هيبة الأوثان من النفوس وزال سلطانها , ونادى المنادي بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره.
سرية خالد بن الوليد إلى بنى خزيمة :-
فى شوال سنة ثمان قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي وقد بعثه عليه الصلاة والسلام لما رجع من هدم العزى والرسول مقيم بمكة وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا داعيا الى الإسلام
حرمة مكة:-
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكة خطيبا فأعلن حرمة مكة إلى يوم القيامة “لا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد (يقطع) بها شجرة” وقال : “لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي” ثم إنصرف راجعا إلى المدينة
اثر فتح مكة :-
وكان لفتح مكة أثر عميق فى نفوس العرب فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام ، وأقبلوا على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك وصاروا يدخلون فى دين الله أفواجا