خطبة عن ( من رضي بالْخَطِيئَة ) مختصرة
سبتمبر 25, 2021( دروس عن قصة نبي الله سليمان عليه السلام )
سبتمبر 28, 2021(دروس عن قصة نبي الله داود عليه السلام )
بداية : من هم أنبياء بني إسرائيل (يعقوب )؟ : (لا يوجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة نصٌّ واضحٌ وصريحٌ يحدِّدُ جميعَ أسماء أنبياء بني إسرائيل ورسلهم، إلا أنَّه تمَّ ذكر بعض الأسماء منهم، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في محكم التنزيل ،أو ذكرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة، (وقد جاء عددهم في كتب اليهود (41 نبيا) آخرهم زكريا ويحي) ،إلا أنَّه يجبُ على المسلم أن يؤمنَ بجميع أنبياء الله تعالى ورسله سواءً علمَ بأسمائهم أو لم يعلم، ويؤمنَ بكل من وردَ ذكره في نصٍ صحيح،
وأكثر الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله تعالى كانوا في بني إسرائيل، فقد كانوا قومًا أصحابَ عنادٍ وكفر ما إن يغادرهم نبيٌّ حتى يكفروا بما أنزله الله إليهم ويفسدوا في الأرض ويضلوا من بعد علم، لذلك فإنَّ معظم الأنبياء والرسل من بني إسرائيل، والذين ذكروا في القرآن الكريم ( 25 نبيا ) منهم (11) قبل اسرائيل(يعقوب) وهم: (آدم ،ادريس ، نوح، هود ،صالح، شعيب، إبراهيم، لوط ،إسماعيل، اسحاق، يعقوب)، ومن جاء ذكرهم في القرآن من أنبياء بني إسرائيل (13 نبيا) وهم : (يوسف ،أيوب ،ذا الكفل ،يونس ،موسى ،هارون ،اليسع ،إلياس ،داوود ، سليمان ،زكريا ،يحيي ،عيسى ) ،( 1) وهو محمد صلى الله عليه وسلم من نسل إبراهيم ، وقد وردَ في حديث أبي ذر الغفاري أيضًا أنَّه قال: “قلتُ يا رسولَ اللهِ كم الأنبياءُ؟، قال: مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفًا، قلتُ: يا رسولَ اللهِ كم الرسلُ منهم ؟، قال: ثلاثُمائةٌ وثلاثةَ عشرَ جمًّا غفيرًا،)
===================
أولا : نبي الله داود ( عليه السلام )
نعيش اليوم -إن شاء الله- لحظات طيبة ،مع قصة نبي من أنبياء الله ،جعله الله ملكا نبيا ،فهو قد جمع بين الملك والحكم ،وبين النبوة والرسالة ،إنه نبي الله داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام ،وقبل البدء بقصة داود عليه السلام، لنرى أولا الأوضاع التي عاشها بنو إسرائيل في تلك الفترة.
فقبل بعثة سيدنا داود عليه السلام ، انفصل الحكم عن الدين في بني اسرائيل .. فآخر نبي من بني اسرائيل كان ملكا ، هو يوشع بن نون.. أما من بعده ، فكانت الملوك تسوس بني إسرائيل وكانت الأنبياء تهديهم. وزاد طغيان بني إسرائيل، فكانوا يقتلون الأنبياء، نبيا تلو نبي، فسلط الله عليهم ملوكا منهم ظلمة وجبارين، ظلموهم ،وطغوا عليهم ،وأذاقوهم سوء العذاب وتوالت الهزائم على بني إسرائيل، حتى إنهم أضاعوا التابوت، وكان في التابوت بقية مما ترك آل موسى وهارون، فقيل أن فيه بقية من الألواح التي أنزلها الله على موسى، وعصاه، وأمورا أخرى. وكان بنو إسرائيل يأخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا النصر، فلما أضاعوا التابوت تشردوا وساءت أحوالهم. في هذه الظروف العصيبة، ذهب بنو إسرائيل لنبيهم في ذلك الزمان.. وسألوه: ألسنا مظلومين ؟ قال: بلى.. قالوا: ألسنا مشردين ؟ قال: بلى.. قالوا: ابعث لنا ملكا يجمعنا تحت رايته، كي نقاتل في سبيل الله ونستعيد أرضنا ومجدنا. قال نبيهم وكان أعلم بهم: هل أنتم واثقون من القتال لو كتب عليكم القتال؟ قالوا: ولماذا لا نقاتل في سبيل الله، وقد طردنا من ديارنا، وتشرد أبناؤنا، وساءت حالنا؟ قال نبيهم: إن الله اختار لكم طالوت ملكا عليكم .وقد ذكر القرآن الكريم محاورتهم مع نبيهم ،فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) البقرة 246 ، 247،
فماذا كان جوبهم ؟ ،وهنا ظهر عناد بني إسرائيل ،ومخالفتهم لأمر الأنبياء ،ونقضهم للعهد الذي عاهدوا نبيهم عليه ،فقالوا: كيف يكون طالوت ملكا علينا ؟، وهو ليس من أبناء الأسرة التي يخرج منها الملوك ؟-أبناء يهوذا- كما أنه ليس غنيا ،وفينا من هو أغنى منه؟
قال لهم نبيهم: إن الله قد اختاره، وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه.
قال تعالى (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة 247، ولما رأى القوم أن هذا هو اختيار الله جل وعلا ،قالوا: ما هي آية ملكه؟ وما هي علامة اختيار الله له ؟ ،قال لهم نبيهم: يسترجع لكم التابوت تحمله الملائكة. قال تعالى (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) البقرة 248،
وبالفعل وقعت هذه المعجزة.. وعادت إليهم التوراة يوما.. ثم تجهز جيش طالوت ،واشترط عليهم ملكهم طالوت أن من يتبعه في قتال الأعداء ،أن يخلص نيته لله ،ويكون صادقا معه ، ولا يشغله شاغل من أمور الدنيا ،ومطالب الحياة ،وسار الجيش طويلا حتى أحس الجنود بالعطش.. وأراد الله سبحانه وتعالى أن يختبر صدق إيمانهم ،وطاعتهم لله ،وطاعتهم لنبيهم ، وملكهم وقائدهم ،وليصفي من أفراد الجيش من كان غير مؤهل للقتال ،وغير صادق في نيته وايمانه وتوجهه ، وطاعته لأمر ربه
فقال الملك طالوت لجنوده: إننا سنصادف نهرا في الطريق، يختبر الله به قوة إيمانكم ، واحتمالكم وصبركم ،وصدق عزائمكم ،فمن أحجم عنه ولم يشرب من مائه طاعة لربه فهو مني ،ويستمر في السير لقتال العدو معي ،ومن شرب منه فليخرج من الجيش، ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش..
ووصلوا إلى النهر ،فشرب معظم الجنود، وخرجوا من الجيش، وكان هذا الامتحان ليميز الخبيث من الطيب ،ومن يطيعه من الجنود ومن يعصاه، وليعرف أيهم قوي الإرادة ويتحمل العطش، وأيهم ضعيف الإرادة ويستسلم بسرعة. لم يبق إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، لكن جميعهم من الشجعان.
قال تعالى (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ )
هكذا وبعد هذا الاختبار أصبح عدد أفراد جيش طالوت قليلا، وكان جيش العدو كبيرا وقويا.. فشعر بعض -هؤلاء الصفوة- أنهم أضعف من جالوت وجيشه وقالوا: كيف نهزم هذا الجيش الجبار..؟! ويصف لنا القرآن الكريم حالهم وينقل لنا قولهم، وجدالهم مع ملكهم
قال تعالى :(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) البقرة 249
فقال المؤمنون من جيش طالوت: النصر ليس بالعدة والعتاد، إنما النصر من عند الله.. (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ).. فثبّتوهم.
والتقى الجمعان ، واستعد الجيشان ، وبدأت المعركة
برز جالوت الملك الطاغية في دروعه الحديدية وسلاحه، وهو يطلب أحدا يبارزه.. وخاف منه جنود طالوت جميعا.. وهنا برز من جيش طالوت راعي غنم صغير هو داود.. كان داود مؤمنا بالله، وكان يعلم أن الإيمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون، وأن العبرة ليست بكثرة السلاح، ولا ضخامة الجسم ومظهر الباطل.
كان ملك بني اسرائيل قد قال لهم: من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي.. ولم يكن داود يهتم كثيرا لهذا الإغراء.. بل كان يريد أن يقتل جالوت لأن جالوت رجل جبار وظالم ولا يؤمن بالله.. وأظهر في الأرض الفساد ، وقهر واستعبد العباد ،وسمح الملك لداود أن يبارز جالوت..
وتقدم داود بعصاه وخمسة أحجار ومقلاعه (وهو نبلة يستخدمها الرعاة).. وتقدم جالوت المدجج بالسلاح والدروع.. وسخر جالوت من داود وأهانه وضحك منه، ووضع داود حجرا قويا في مقلاعه وطوح به في الهواء وأطلق الحجر. فأصاب جالوت فقتله.
وبدأت المعركة وانتصر جيش طالوت على جيش جالوت. قال تعالى (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ) البقرة 250 ، 251،
وبعد فترة أصبح داود -عليه السلم- ملكا لبني إسرائيل، فجمع الله على يديه النبوة والملك مرة أخرى. وبعد أن تولى داود الحكم والملك ،وجعله الله نبيا ،لم يصرفه ذلك عن طاعة ربه ،
ولذلك كان يقوم الليل ساجدا لله ،ويصوم النهار تقربا إليه ،ففي صحيح البخاري (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ لَهُ « أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا »
ولذلك فقد وصفه الله تعالى في محكم آياته بأنه كان ذا قوة في العبادة والعمل الصالح ،فقال سبحانه 🙁 وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص 17،
ولقد أكرم الله نبيه الكريم داود بعدة معجزات.
فأنزل عليه الزبور ، قال تعالى :(وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)،
وآتاه جمال الصوت، ونغما حسنا ، لم يعطه الله أحدا من خلقه فكان عندما يسبّح، تسبح الجبال والطيور معه، والناس ينظرون. يقول سبحانه (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص 18 ، 19 ،
وقال سبحانه (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) سبأ 10 ، أي أمر الله الجبال والطير أن تسبح معه، وفي صحيح البخاري (عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ لَهُ « يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ » ،قال العلماء: المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن،
وإذا كان الله قد منح سيدنا داود جمال الصوت ،وعذوبة اللحن ،فقد خفف الله عليه قراءة الزبور ، ففي البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – الْقُرْآنُ ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ ، وَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ »
وكان سيدنا داود لا يأكل إلا من عمل يده ، كما في صحيح البخاري (عَنِ الْمِقْدَامِ – رضى الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » . ،
وكان مما اختص الله به نبيه داود عليه السلام ، أن ألان الله في يديه الحديد، حتى قيل أنه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع، وقد تكون هذه الإلانة بمعنى أنه أول من عرف أن الحديد ينصهر بالحرارة. فكان يصنع منه الدروع.
قال تعالى (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) سبأ10) ، وكانت الدروع الحديدية التي يصنعها صناع الدروع في زمانه ثقيلة ولا تجعل المحارب حرا يستطيع أن يتحرك كما يشاء أو يقاتل كما يريد. فقام داوود بصناعة نوعية جديدة من الدروع.
صنع درعا يتكون من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة، وتحمي جسده من السيوف والفؤوس والخناجر.. وهي أفضل من الدروع الموجودة أيامها..
فقال تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) الانبياء 80، و قال تعالى ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) سبأ 11،
وشد الله ملك داود، وجعله الله منصورا على أعدائه دائما.. وجعل ملكه قويا عظيما يخيف الأعداء حتى بغير حرب ،قال تعالى (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) ص 20،
فزاد الله من نعمه على داود فأعطاه الحكمة وفصل الخطاب، نعم ، لقد أعطاه الله مع النبوة والملك حكمة وقدرة على تمييز الحق من الباطل ومعرفة الحق ومساندته.. فأصبح نبيا ملكا قاضيا. قال تعالى : (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) ،
ويروي لنا القرآن الكريم بعضا من القضايا التي عرضت على داود -عليه السلام. فقد حكمَ داود عليه السلام في بني إسرائيل وقضى بينهم في الخصومات، فكان الحاكم العادل والقاضي الفاصل ،وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم من قصص حكمه وقضائه قصتين:
القصة الأولى: في قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) ص (21) :(26)
والقصة الثانية : في قوله تعالى : ((وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) الانبياء 78، 79،
فقد جاءه رجل صاحب حقل ،ومعه رجل آخر صاحب غنم ..وقال له صاحب الحقل: سيدي النبي.. إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل، وأكلت كل عناقيد العنب التي كانت فيه.. وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض.. فقال داود لصاحب الغنم: هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟ قال صاحب الغنم: نعم يا سيدي.. قال داود: لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي أكلته. وهنا قال سليمان.. وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورثه من والده ، قال : أنا عندي حكم آخر يا أبي.. قال داود: قله يا سليمان.. قال سليمان: أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم.. ويصلحه له ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب، وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها ويأكل منه، فإذا كبرت عناقيد العنب ،
وعاد الحقل سليما كما كان، أخذ صاحب الحقل حقله ،وأعطى لصاحب الغنم غنمه..
قال داود: هذا حكم عظيم يا سليمان.. الحمد لله الذي وهبك الحكمة..
وهناك قصة ثالثة في قضاء داود عليه السلام قريبة من القصة السابقة ، وهي لم تذكر في القرآن، وإنما ثبتت في السنة، فقد جاء في صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا .فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى »
قال العلماء: يحتمل أن داود عليه السلام قضى به للكبرى؛ لشبه رآه فيها، أو أنه كان في شريعته الترجيح بالكبير، أو لكونه كان في يدها، وكان ذلك مرجحًا في شرعه. وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، فأوهمهما أنه يريد قطعه؛ ليعرف من يشق عليها قطعُه فتكون هي أمَّه، فلما أرادت الكبرى قطعه عرف أنها ليست أمه، فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن مراده أنه يقطعه حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما؛ لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها، ولعله استقر الكبرى فأقرت بعد ذلك به للصغرى، فحكم للصغرى بالإقرار لا بمجرد الشفقة المذكورة
ونبي الله داود عليه السلام لم يُلهه ملكه وحكمه عن الإكثار من عبادة ربه تبارك وتعالى، فقد كانت روحُه المتألقة في سماء الطاعة تزداد رقيًا وصعوداً على أجنحة العبادة ومعارج الخلوة بربه سبحانه وتعالى؛ ولذلك كان ذا عبادة عظيمة، وتزلّف كثير؛ ولهذا أثنى عليه الله تعالى بكثرة التوبة والرجوع إليه، فقال تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص:17]. وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الصيام والصلاة، وأخبر أن خير الصلاة النافلة في الليل صلاتُه، وخير الصيام المستحب صيامه، ففي الصحيحين : (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ لَهُ « أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا »
وقد جمع الله لنبيه داود عليه السلام خيري الدنيا والدين، فقد أنعم عليه بنعم كثيرة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا ﴾ [سبأ:10]. وذكر ذلك أيضًا ابنه سليمان عليه السلام في معرض التحدث بالنعمة والشكر لله عليها، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل:15].
عاش نبي الله داود عليه السلام مائة سنة كما جاء سنن الترمذي : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلاَئِكَةِ إِلَى مَلإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَقُلِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. قَالُوا وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ قَالَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّى وَكِلْتَا يَدَىْ رَبِّى يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ. ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَا هَؤُلاَءِ فَقَالَ هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ. قَالَ يَا رَبِّ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ قَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ يَا رَبِّ زِدْهُ فِي عُمْرِهِ. قَالَ ذَاكَ الَّذِى كَتَبْتُ لَهُ. قَالَ أَيْ رَبِّ فَإِنِّى قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِى سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ. قَالَ ثُمَّ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا فَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ. قَالَ فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ قَدْ عَجِلْتَ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ بَلَى وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لاِبْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنَسِىَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ. قَالَ فَمِنْ يَوْمِئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ ».
وأما عن قصة موته كما جاء عند الإمام أحمد في مسنده : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ دَاوُدُ النَّبِيُّ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ – قَالَ – فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ فَأَقْبَلْتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ الدَّارَ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ وَاللَّهِ لَتُفْتَضَحُنَّ بِدَاوُدَ. فَجَاءَ دَاوُدُ فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا الَّذِى لاَ أَهَابُ الْمُلُوكَ وَلاَ يَمْتَنِعُ مِنِّى شَىْءٌ فَقَالَ دَاوُدُ أَنْتَ وَاللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَمَرْحَباً بِأَمْرِ اللَّهِ. فَرَمَلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَيْثُ قُبِضَتْ رُوحُهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَلعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ أَظِلِّى عَلَى دَاوُدَ. فَأَظَلَّتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ اقْبِضِى جَنَاحاً جَنَاحاً ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُرِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ -صلى الله عليه وسلم- وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ). المضرحية : جمع المضرحي وهو الصقر طويل الجناحين أو النسر