خطبة عن ( ما هي عقيدة التوحيد ؟)
ديسمبر 21, 2016خطبة عن (معاملة الرسول للمشركين وأهل الكتاب)
ديسمبر 24, 2016(ندوات ودروس عن ( معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الآخرين )
أولا : الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأسوتنا : يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وقال سبحانه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
وفي صحيح البخاري (عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى ، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً ، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ » ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً كاملةً في جميع جوانب سيرته، إيمانيًّا وتعبديًّا وخُلقًا وسلوكًا وتعاملاً مع غيره، وفي جميع أحواله، كانت سيرته مثاليةً للتطبيق على أرض الواقع، ومؤثرةً في النفوس البشرية؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل، ولا ريب أن القدوة العملية أقوى تأثيرًا في النفوس من الاقتصار على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله تعالى الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله سبحانه الرسولَ صلى الله عليه وسلم ليكون للناس أسوةً حسنةً يقتدون به، ويتأسون بسيرته.. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ) الأنعام 90 ، ولقد شهد لرسول الله صلى الله وسلم الجميع -مسلمون وغير مسلمين- قديمًا وحديثًا بهذه الشهادة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وأَثْنَوْا على صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم. وما من إنسان يُمكن أن يُوضع في مقارنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو السابق في كل الأمور في التقوى والشجاعة
أيها المسلمون
بداية ، فقد صنف بعض العلماء العبادة الى صنفين ..شعائرية .. وتعاملية.. فالشعائرية.. هي التي تحتوي على الشعائر التي يؤديها العبد المؤمن من ( صلاة ، وصوم ، وحج ، وذكر ، وتلاوة قرآن ، وغيرها ….).. أما العبادة التعاملية ..فهي تشمل الأخلاق والتعامل مع الآخرين ،( كتعاملك مع الوالدين والزوجة أو الزوج والأولاد ..وتعاملك مع الصديق والجار والزميل في العمل .. وتعاملك في البيع والشراء ..وفي الزراعة والصناعة والتجارة.. وفي تعاملك مع الناس في الطريق ووسائل المواصلات .. وتعاملك مع الحيوانات ..كل ذلك عبادات تعاملية … واذا كنا قد نجحنا في أداء العبادات الشعائرية ..فقد فشلنا فشلا زريعا في العبادات التعاملية .. وأخشى على نفسي وعليكم من عاقبة ذلك ..
فالتهاون في العبادات التعاملية قد يكون سببا في ضياع أجر الصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة ..وتكون النهاية الى الإفلاس ثم إلى النار أعاذنا الله منها .. وخير شاهد ما رواه مسلم (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
« أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ »قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)
ولذا سوف يكون لقاؤنا اليوم إن شاء الله عن ( معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الآخرين ) ليكون لنا في معاملاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع من حوله أسوة وقدوة حسنة نهتدي بها إلى الطريق المستقيم ، ونتقرب بها إلى رب العالمين ،ونبدؤها بمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بيته وأخلاقه معهم : أولا : مع زوجاته : فقد كان صلى الله عليه وسلم مثالاً يُحتذى به، وقدوة حسنة يستفيد منها البيت المسلم على مرِّ القرون والأزمان ، وكيف لا وهو القائل : « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي » رواه ابن ماجة . فهناك صور رائعة من خلال عَلاقته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته؛ فقد وصفت السيدة عائشة -رضي الله عنها- حال رسول الله كزوج داخل بيته،
فقد قِيلَ لِعَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ ) رواه أحمد .
وفي البخاري سُئلت عَائِشَة ( مَا كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ – تَعْنِى خِدْمَةَ أَهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ
فكان تعامله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته من منطلق الرحمة والحب، كما أنه تعامل أيضًا من منطلق أنه بشر مثل باقي البشر الأسوياء، الذين لا يَرَوْنَ غضاضة في مساعدة أزواجهم.
ومن عظيم محبَّته لهن -رضي الله عنهن- أنه كان يشاركهن المأكل والمشرب من نفس الإناء، ففي صحيح مسلم (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ ).
وكان يخرج معهن للتنزُّه لزيادة أواصر المحبَّة، فيروي البخاري: “كَانَ النَّبِيُّ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ” .
بل وكان يسابق زوجته مداعبة لها وترويحا عليها ، ففي سنن أبي داود (عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ « هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ».
وفي قصة زواجه صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين صفية نراه يجعل ركبته سلما لتصعد عليها زوجته، فقد روى البخاري ( …. فَبَنَى بِهَا ، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ » . فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى صَفِيَّةَ ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ، قَالَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يُحَوِّى لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ ، حَتَّى تَرْكَبَ)
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يحترم مشاعر زوجته الصغيرة ، ويساعدها في لعبها ، ففي البخاري (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي ). وأخرج أبو داود والنسائي عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِى سَهْوَتِهَا سِتْرٌ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ
فَقَالَ « مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ». قَالَتْ بَنَاتِي. وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ
فَقَالَ « مَا هَذَا الَّذِى أَرَى وَسْطَهُنَّ ». قَالَتْ فَرَسٌ. قَالَ « وَمَا هَذَا الَّذِى عَلَيْهِ ». قَالَتْ جَنَاحَانِ.
قَالَ « فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ ». قَالَتْ أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ قَالَتْ فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ. “؛ (صححه الألباني في المشكاة ).
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يمتدح زوجاته ويثني عليهن ، ويتودد بذلك إليهن ، فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتدح عائشة -رضي الله عنها- قائلاً:
« فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ »متفق عليه
بل ويداعب ويمازح زوجته وهي مريضة ففي مسند أحمد (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَجَعَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعاً فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ وَا رَأْسَاهُ. قَالَ « بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهُ ».
قَالَ « مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ ثُمَّ صَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ ».
قُلْتُ لَكِنِّى أَوْ لَكَأَنِّي بِكَ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ. قَالَتْ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بُدِئَ بِوَجَعِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ)
كما تجلَّت رحمته ورأفته على زوجاته في هذا الموقف ، ففي البخاري (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضى الله عنه – قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ « مَا هَذَا الْحَبْلُ » . قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ ، حُلُّوهُ ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ »
وقال ابن كثير: «وَكَانَ مِنْ أَخْلَاق النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنّهُ جَمِيل الْعِشْرَة، دَائِم الْبِشْر، يُدَاعِب أَهْله، وَيَتَلَطّف بِهِمْ، وَيُوسِعهُمْ نَفَقَته، وَيُضَاحِك نِسَاءَهُ…». إلى أن قال: «وكان -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَع نِسَاءَهُ كُلّ لَيْلَة فِي بَيْت الّتِي يَبِيت عِنْدهَا، فَيَأْكُل مَعَهُنّ الْعَشَاء فِي بَعْض الْأَحْيَان، ثُمّ تَنْصَرِف كُلّ وَاحِدَة إِلَى مَنْزِلهَا )،
وكثيرًا ما يحلُم رسول الله على زوجاته، ويقابل جفوتهن بصدر رحب، وبشاشة وحُبٍّ، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا وَقَالَ لاَ أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَحْجُزُهُ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ « كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ ». قَالَ فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا فَقَالَ لَهُمَا أَدْخِلاَنِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا » رواه أبو داود .
وكان صلى الله عليه وسلم ينتصر للمظلومة منهن من الأخرى حتى ترضى : فعَنْ أَنَسٍ قَالَ بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ بِنْتُ يَهُودِيٍّ . فَبَكَتْ فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهِىَ تَبْكِى فَقَالَ « مَا يُبْكِيكِ ». فَقَالَتْ قَالَتْ لِي حَفْصَةُ إِنِّي بِنْتُ يَهُودِيٍّ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّكِ لاَبْنَةُ نَبِيٍّ وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ ».
ثُمَّ قَالَ « اتَّقِى اللَّهَ يَا حَفْصَةُ » رواه الترمذي .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقابل غَيرة زوجاته مقابلة فيها كثير من الحلم والأناة، وإعطاء كل زوجة حقَّها من التقدير والاحترام، فها هي ذي عائشة -رضي الله عنها- تغار من كثرة ذكر الرسول لخديجة -رضي الله عنها- وشدَّة حُبِّه لها، رغم وفاتها قبل أن يتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ،
ففي الصحيحين (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِى فِي خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ )
وفي رواية في البخاري (مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا. قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَيَقُولُ « أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ ». قَالَتْ فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ خَدِيجَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ».
ومن مواقفه في معالجة الغيرة عند نسائه صلى الله عليه وسلم ما جاء في البخاري (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فِلَقَ الصَّحْفَةِ ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ « غَارَتْ أُمُّكُمْ » ، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِىَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا ، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ ). وانظروا كيف عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرة زوجته عليه ، وخوفها من أن يذهب إلى غيرها ففي مسند أحمد (قَالَتْ عَائِشَةُ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ بَلَى. قَالَ قَالَتْ لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّى قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْداً وَانْتَعَلَ رُوَيْداً وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْداً فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى أَثَرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ « مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَاءَ رَائِبَةً ». قَالَتْ قُلْتُ لاَ شَيْءَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ « لَتُخْبِرِنَّنِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ « فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِى رَأَيْتُ أَمَامِي ». قُلْتُ نَعَمْ فَلَهَزَنِي فِي ظَهْرِي لَهْزَةً فَأَوْجَعَتْنِي
وَقَالَ « أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ عَلَيْكِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ». قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
قَالَ « نَعَمْ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَدْخُلَ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنَّكِ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي
فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ جَلَّ وَعَزَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ».
قَالَتْ فَكَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « قُولِي السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلاَحِقُونَ »
ورغم ما كان يجد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات من نسائه، إلاَّ أنه لم يضرب امرأة له قطُّ
روى مسلم (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ).
ومن أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومعاملاته مع زوجاته أنه صلى الله عليه وسلم كان يشركهن في المواقف العظيمة ويأخذ برأيهن في أحداث تهمُّ الأُمَّة بأجمعها، ففي يوم الحديبية أمر رسول الله أصحابه أن ينحروا الهدي ثم يحلقوا، فلم يفعل ذلك منهم أَحد،
ففي البخاري (…..فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَ اللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ .
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ .
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا )
فرغم خطورة هذا الموقف إلاَّ أن رسول الله استحسن رأي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فكان خيرًا وبركة على الأُمَّة كلها.
فالناظر إلى سيرته يجد أن رسول الله كان يُقَدِّر أزواجه حقَّ التقدير، ويُولِيهم عناية فائقة ومحبَّة لائقة، فكان نِعْمَ الزوج .
ثم ننتقل إلى معاملات الرسول صلى الله عليه وسلم مع أولاده وأحفاده
فقد جاء الإسلام بمعيار حقيقي للعَلاقة بين الأب وأبنائه، هذا المعيار قائم على الرحمة، والرأفة، والشفقة، والتوجيه، والرعاية الصحيحة لهؤلاء الأبناء في كل شئون حياتهم،
فالأب هو الحصن الذي يأوي إليه الأبناء في كل وقت؛ ولذلك فإن القرآن قد خلَّد هذه العَلاقة عندما ذكر نداء لقمان -رحمه الله- لابنه، والذي يفيض بكل معاني التربية، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وتعالوا معًا ننظر إلى خصوصيَّة العَلاقة الرائعة بين الأب وابنته في موقف الرسول الذي ترويه عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم
(فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةً فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَرْحَبًا بِابْنَتِي ». فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَاطِمَةُ ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضًا
فَقُلْتُ لَهَا مَا يُبْكِيكِ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- . فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ.
فَقُلْتُ لَهَا حِينَ بَكَتْ أَخَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثِهِ دُونَنَا ثُمَّ تَبْكِينَ وَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا فَقَالَتْ إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي « أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِى وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ ». فَبَكَيْتُ لِذَلِكِ ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي فَقَالَ « أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ ». فَضَحِكْتُ لِذَلِكِ ) .
هكذا كانت تربية الرسول لابنته، تربية قائمة على الحبِّ والعطف والحنان.
أمَّا عند وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد تجلَّت عظمته ، وظهرت مشاعر الأب الجياشة تجاه ولده ففي سنن ابن ماجة ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلاَ نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ لَوْلاَ أَنَّهُ وَعْدٌ صَادِقٌ وَمَوْعُودٌ جَامِعٌ وَأَنَّ الآخِرَ تَابِعٌ لِلأَوَّلِ لَوَجَدْنَا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَفْضَلَ مِمَّا وَجَدْنَا وَإِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ » ،
وفي سنن ابن ماجة (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا قُبِضَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-
« لاَ تُدْرِجُوهُ فِي أَكْفَانِهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ ». فَأَتَاهُ فَانْكَبَّ عَلَيْهِ وَبَكَى ) .
وكما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاده فقد اهتمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحفاده وأحبهم ، وعنى باختيار أجمل الأسماء لهم، ففي مسند أحمد (عَنْ عَلِىٍّ قَالَ لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْباً
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَرُونِي ابْنِى مَا سَمَّيْتُمُوهُ ». قَالَ قُلْتُ حَرْباً. قَالَ « بَلْ هُوَ حَسَنٌ ». فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْباً فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَرُونِي ابْنِى مَا سَمَّيْتُمُوهُ ». قَالَ قُلْتُ حَرْباً. قَالَ « بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ ».
فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ سَمَّيْتُهُ حَرْباً فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَرُونِي ابْنِى مَا سَمَّيْتُمُوهُ ».
قُلْتُ حَرْباً. قَالَ « بَلْ هُوَ مُحَسِّنٌ ». وكان صلى الله عليه وسلم من شدَّة حُبِّه ولهفته على أحفاده يقطع احيانا خطبته من أجل أن يضمهم إلى صدره الحنون ، ويشملهم بعطفه وحبه وشفقته وحنانه
فقد روى ابن ماجة (قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَأَقْبَلَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَهُمَا فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ
فَقَالَ « صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ ».
ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ).
وكذا كان حُبُّه صلى الله عليه وسلم لبقيَّة أحفاده، فقد كان يُصَلِّي وهو حامل أُمامة بنت ابنته زينب -رضي الله عنها-
ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يُصَلِّى وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا)
وفي صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِى قَيْنُقَاعَ ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ
فَقَالَ « أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ ». يَعْنِى حَسَنًا فَظَنَنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لأَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ ».
وها هو ذا رسول الله يخرج على المسلمين في إحدى صلاتي الْعَشِيِّ -الظهر أو العصر- وهو حاملٌ أحدَ ابنيه: الحسن أو الحسين، فتقدَّم رسول الله فوضعه عند قدمه اليمنى، فسجد رسول الله سجدةً أطالها، قال أَبِي : فرفعتُ رأسي من بين الناس، فإذا رسول الله ساجد، وإذا الغلام راكب على ظهره فعُدْتُ فسَجَدْتُ، فلمَّا انصرف رسول الله ، قال الناس: يا رسول الله، لقد سجدْتَ في صلاتكَ هذه سجدةً ما كنتَ تسجدها، أ فشيء أُمِرْتَ به؟ أو كان يُوحى إليكَ؟ قال: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ” رواه الحاكم في المستدرك.
ولم تكن هذه المواقف مواقف عابرة في حياته ، ولكنها كانت صفة أصيلة من صفاته ؛
صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يُرْوَى في الصحيحين (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا .
فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا .
فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ » .
ومع ذلك فلم يكن هذا الحبُّ العظيم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأولاده وأحفاده يدفعه إلى الجور على المسلمين من أجلهم، ففي الصحيحين (عَلِىٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ – عَلَيْهَا السَّلاَمُ – اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أُتِىَ بِسَبْىي ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ ،
فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ « عَلَى مَكَانِكُمَا » حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ « أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ »
هكذا كان يُعَلِّمُ رسول الله أولاده، يُعَلِّمهم أنه لن يحابيهم -رغم محبته الشديدة لهم- على حساب المسلمين،
بل ويعلمهم -كذلك- أن يرتبطوا بالله فهو خير مُعين على كل أعمالهم، فالاستعانة به وحده سبحانه وتعالى تُسْعِد الإنسان في حياته وآخرته.
إخوة الإسلام
مِنْ نِعَمِ الله على الأُمَّة الإسلاميَّة نعمة الحُبِّ في الله ، والتي بها توثَّقت العَلاقة بين المسلمين منذ بداية الدعوة، فبعدما كانوا في جاهليتهم متباغضين متقاتلين، انقلبوا بفضلٍ من الله إلى إخوة متحابِّين،
قال تعالى في شأنهم: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]،
ثم جعل الله الأُخُوَّة الصادقة دليلاً على إيمان العبد بربِّه، فقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات: 10
كما مدح رسول الله المتحابِّين في الله، وكشف عن عظيم ثمار هذا الحبِّ في الآخرة،
فقال : “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ..” فذكر منهم: “… رَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ…” متفق عليه .
كما ذمَّ رسول الله التناحر والتخاصم بين الأصحاب، فقال : “لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ” متفق عليه
أيها المسلمون
ونقدم صورة مختصرة من معاملات الرسول صلى الله عليه وسلم مع أرحامه وأقاربه وأصحابه فمن حبه صلى الله عليه وسلم لقرابته وأرحامه ،ورحمته بهم وشفقته عليهم فقد بدأ بهم في الدعوة إلى الاسلام ، والنجاة من النار ، ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ
فَقَالَ « يَا بَنِى كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ
يَا بَنِى مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ
يَا بَنِى عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ
يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ
يَا بَنِى هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ
يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ
يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِى نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا ».
وانظروا إلى تعامله مع ابن عمه وزوج ابنته على بن أبي طالب ( ففي البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِىٍّ – رضى الله عنه – إِلَيْهِ لأَبُو تُرَابٍ ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا ، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلاَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم –
غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَتْبَعُهُ ، فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَامْتَلأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ يَقُولُ « اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ »
وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يدعو أهله إلى الطاعات وإلى ما يقربهم من رب الأرض والسموات ، ففي الصحيحين (عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – لَيْلَةً فَقَالَ « أَلاَ تُصَلِّيَانِ » .
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا . فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا . ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ
« وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً »
وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بمقدم أرحامه وأقاربه من السفر ، ففي مسند البزار (قَالَ جَعْفَرٌ ابن أبي طالب عند عودته من الحبشة : ( فَخَرَجْنا مِنْ عِنْدِهِ ( أي النجاشي ملك الحبشة ) إِذَا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ ، فَتَلَقَّانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَنَقَنِي ،وَقَالَ : مَا أَدْرِي أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ؟)
وانظروا كيف يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس بكلمات تحمل الحب والود والخير ( ففي سنن ابن ماجة (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
« يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ أَلاَ أُعْطِيكَ أَلاَ أَمْنَحُكَ أَلاَ أَحْبُوكَ أَلاَ أَفْعَلُ لَكَ عَشْرَ خِصَالٍ إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَقَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ وَخَطَأَهُ وَعَمْدَهُ وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ وَسِرَّهُ وَعَلاَنِيَتَهُ عَشْرُ خِصَالٍ أَنْ تُصَلِّىَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ ….الحديث كما في صلاة الأوابين )
وهذا موقفه مع عمه أبي طالب الذي رباه ودافع عنه ، ففي البخاري
(أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ
« أَيْ عَمِّ ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ » .
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ » .
فَنَزَلَتْ ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) وَنَزَلَتْ ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ )
أيها المسلمون
وبعد أن تعرفنا على بعض الصور لتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع أقاربه وأرحامه ، فتعالوا بنا نتعرف على بعض الصور من معاملات الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامل أصحابه معاملة تدلُّ على حُبِّه لهم جميعًا؛ وكأنه يخصُّ كل صحابي بحبٍّ خاصٍّ يختلف عن باقي أصحابه؛ حيث نجد رسول الله يصف أصحابه بصفات تُعَزِّز من الألفة والتقارب بينه وبينهم،
فيصف الزُّبير بن العوام بأنه حواريه ، ويصفُ أبا بكر وعمر بأنهما وزيراه ، وجعل حذيفة بن اليمان كاتم سرِّه ، ولقَّب أبا عبيدة عامر بن الجرَّاح بأنه أمين الأُمَّة .
كما نجده صلى الله عليه وسلم يشارك أصحابه في مأكلهم ومشربهم؛ وذلك تقوية لأواصر الصحبة والمحبَّة،
ففي صحيح مسلم (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا فِي دَارِى فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَشَارَ إِلَىَّ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ فَدَخَلَ ثُمَّ أَذِنَ لِى فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا فَقَالَ « هَلْ مِنْ غَدَاءٍ ». فَقَالُوا نَعَمْ. فَأُتِىَ بِثَلاَثَةِ أَقْرِصَةٍ فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَىَّ ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ بِاثْنَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَىَّ ثُمَّ قَالَ « هَلْ مِنْ أُدُمٍ ». قَالُوا لاَ. إِلاَّ شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ. قَالَ « هَاتُوهُ فَنِعْمَ الأُدُمُ هُوَ ».
ويشارك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كذلك في مزاحهم ولهوهم – ولم يكن مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ حقًّا- فمزاح الأصحاب سبب من الأسباب الرئيسة في التلاحم والقرب،
ومن هذه المواقف الرائعة التي أُثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
( فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِراً وَكَانَ يُهْدِى لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ زَاهِراً بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ ».
وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلاً دَمِيماً فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْماً وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلاَ يُبْصِرُهُ فَقَالَ الرَّجُلُ أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ لاَ يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ يَشْتَرِى الْعَبْدَ ».
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذاً وَاللَّهِ تَجِدَنِي كَاسِداً.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ ». أَوْ قَالَ « لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ » رواه احمد.
هكذا كان يتعامل رسول الله مع نفسيَّة أصحابه فيُعلي من شأنهم، فيسعد لسعادتهم ويحزن لحزنهم.
ومن مزاحه معهم : مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على صهيب وبه رمدٌ وهو يأكل تمرًا، فقال له:
((أتأكل التمرَ وأنت رَمِدٌ؟))، فقال صهيب رضي الله عنه: إنَّما آكلُ بالشِّق الآخَرِ يا رسولَ الله، فتبسَّم صلى الله عليه وسلم؛ ) أخرجه ابن ماجه بسند حسن، ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم كذلك: ما رواه أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضى الله عنه – يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لأَخٍ لِي صَغِيرٍ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » رواه البخاري
وفي أحلك لحظات المسلمين شدَّة وجدنا رسول الله مع أصحابه كواحد منهم، يعاني ممَّا يعانون، ويتألَّم ممَّا يتألَّمون، ويلتمس أي شيء يكون سببًا في إشباعهم من الجوع، وإسعادهم من الحزن، فرغم جوع المسلمين في الخندق، ورغم قلَّة الطعام الذي أعدَّه جابر بن عبد الله إلاَّ أنَّ رسول الله لم يأكل دون إشراك أصحابه معه؛
ففي الصحيحين (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهما – قَالَ لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – خَمَصًا شَدِيدًا ، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خَمَصًا شَدِيدًا . فَأَخْرَجَتْ إِلَىَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي ، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَتْ لاَ تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَبِمَنْ مَعَهُ . فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ . فَصَاحَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ
« يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَىَّ هَلاً بِكُمْ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ » . فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي ، فَقَالَتْ بِكَ وَبِكَ .
فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ الَّذِى قُلْتِ . فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا ، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ « ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا ، وَهُمْ أَلْفٌ ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا ، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ ،وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ ) .
كما نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشارك أصحابه في أزماتهم ومصائبهم مشاركة فعَّالة بتبشيرهم تارة بثواب ونعيم الله في الآخرة، وبحلِّ مشاكلهم حلاًّ عمليًّا تارة أخرى؛ فها هو ذا يبشِّر عبد الله بن جحش عندما شكا له أن أبا سفيان قد أخذ دَارَهُم في مكة بعد الهجرة وباعها، فقال له: “أَلا تَرضَى يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ بِهَا دَارًا خَيرًا
مِنْهَا فِي الجنَّة؟” قال: بلى. قال: “فَذَلِكَ لَكَ” .ويأتي صحابي آخر قد أُصيب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، ففي مسلم (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ». فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِغُرَمَائِهِ « خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ ».
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويخصهم بدعائه في صلاته ففي صحيح البخاري (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَقَالَ « اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ »
ويدعو لمن يدافع عنه بشعره وهو الصحابي حسان بن ثابت ،
ففي البخاري « يَا حَسَّانُ ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » .
ويدعو لأناس بأسمائهم وصفاتهم ، ففي البخاري (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ « اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بالغيث والمطر إذا تأخر نزوله ، ففي البخاري (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَبَيْنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا . فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً ، فَوَ الَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ – صلى الله عليه وسلم – فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ ، وَمِنَ الْغَدِ ، وَبَعْدَ الْغَدِ وَالَّذِى يَلِيهِ ، حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى ،
وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ – أَوْ قَالَ غَيْرُهُ – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا . فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ « اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ، وَلاَ عَلَيْنَا » .
فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلاَّ انْفَرَجَتْ ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا ، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ ).
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين والمنفقين في سبيل الله ، ففي البخاري (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ « اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ » . فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ ، فَقَالَ « اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى »
ويدعو صلى الله عليه وسلم للمحلقين والمقصرين في الحج والعمرة ، ففي البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ » . قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ .
قَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ » . قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ . قَالَهَا ثَلاَثًا . قَالَ « وَلِلْمُقَصِّرِينَ » .
بل تعدى دعاؤه صلى الله عليه وسلم الأحياء ، فدعا للأموات من المسلمين ، وكذا الشهداء
ففي صحيح مسلم (قَالَ « فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ».
قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « قُولِي السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ».
وروى ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج إلى أحد فدعا لشهداء أحد)
وعند الإمام مالك في الموطإ (عَنْ أَبِى النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ « هَؤُلاَءِ أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَلَسْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِإِخْوَانِهِمْ أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَلَى وَلَكِنْ لاَ أَدْرِى مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِى ». فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ بَكَى ثُمَّ قَالَ أَئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَكَ)
وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة أصحابه ففي البخاري (أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – لِعُرْسِهِ ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهْىَ الْعَرُوسُ ، فَقَالَتْ أَوْ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا أَنْقَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ ).
ومما جاء في اجابته لدعوة أصحابه وطعامه عندهم ففي البخاري (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ضَعِيفًا ، أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ . فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِى وَلاَثَتْنِي بِبَعْضِهِ ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِي رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ » . فَقُلْتُ نَعَمْ . قَالَ بِطَعَامٍ . فَقُلْتُ نَعَمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لِمَنْ مَعَهُ « قُومُوا » . فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِالنَّاسِ ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ . فَقَالَتِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِىَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ » . فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَفُتَّ ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ، ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ » . فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ، ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ » . فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ، ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ » . فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ » . فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا ، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ – أَوْ ثَمَانُونَ – رَجُلاً ).
وفي مسند أحمد (عَنْ أَبِى عُبَيْدٍ َأنَّهُ طَبَخَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِدَراً فِيهَِا لَحْمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا ». فَنَاوَلْتُهُ فَقَالَ « نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا ». فَنَاوَلْتُهُ فَقَالَ « نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا ». فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ
قَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ سَكَتَّ لأَعْطَتْكَ ذِرَاعاً مَا دَعَوْتَ بِهِ ».
وكان صلى الله عليه وسلم يحنك صبيانهم ويسميهم تألفا لهم ، ففي صحيح مسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ذَهَبْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ وُلِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي عَبَاءَةٍ يَهْنَأُ بَعِيرًا لَهُ فَقَالَ « هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ ». فَقُلْتُ نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ تَمَرَاتٍ فَأَلْقَاهُنَّ فِى فِيهِ فَلاَكَهُنَّ ثُمَّ فَغَرَ فَا الصَّبِىِّ فَمَجَّهُ فِي فِيهِ فَجَعَلَ الصَّبِىُّ يَتَلَمَّظُهُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حُبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرَ ». وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ).
وكان صلى الله عليه وسلم يخص بعض أصحابه ويصلى لهم في بيوتهم ففي البخاري ( أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ – وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَنْصَارِ – أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِى ، وَأَنَا أُصَلِّى لِقَوْمِي ، فَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِى بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِىَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّىَ بِهِمْ ، وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّىَ فِي بَيْتِي ، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى .
قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ » . قَالَ عِتْبَانُ فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَذِنْتُ لَهُ ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ « أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّىَ مِنْ بَيْتِكَ » . قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ ،
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَكَبَّرَ ، فَقُمْنَا فَصَفَّنَا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، قَالَ وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ . قَالَ فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا ،)
و لا يجد حرجا ممن يتطيب بعرقه صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلُتُ الْعَرَقَ فِيهَا فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِى تَصْنَعِينَ ».
قَالَتْ هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ).
وكان صلى الله عليه وسلم يعود مرضاهم ، ويدعو لهم ، ففي سنن النسائي (عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قَالَ فَالشَّطْرَ قَالَ لَا قَالَ فَالثُّلُثَ قَالَ الثُّلُثَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ)
وكان صلى الله عليه وسلم يصلح بين المتخاصمين والمتقاتلين من أصحابه ويؤلف بين قلوبهم ، ففي صحيح البخاري تقول عائشة في حديث طويل(….فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ – قَالَتْ – فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ)
وكان صلى الله عليه وسلم يعفو عمن أساء إليه ، ففي البخاري (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ – قَالَ – حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ، ابْنُ سَلُولَ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ، ثُمَّ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا .
فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ ، إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ ، إِنْ كَانَ حَقًّا ، فَلاَ تُؤْذِينَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا ، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ ، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ . فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا ،
ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ » . يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ « قَالَ كَذَا وَكَذَا » . قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ ، فَوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ، لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ ، لَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِى أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ ما رَأَيْتَ . فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ).
وكان كريما في عطائه ففي صحيح مسلم (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَ اللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ. فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا).
وفي صحيح البخاري (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ أُتِىَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ « انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ » . وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِىَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى الصَّلاَةِ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَاهُ ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِى وَفَادَيْتُ عَقِيلاً ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « خُذْ » .
فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُهُ إِلَىَّ .
قَالَ « لاَ » . قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَىَّ . قَالَ « لاَ » . فَنَثَرَ مِنْهُ ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَىَّ . قَالَ « لاَ » . قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَىَّ . قَالَ « لاَ » . فَنَثَرَ مِنْهُ ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِىَ عَلَيْنَا ، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ )
وكان صلى الله عليه وسلم يعفو عن أهل الجفاء ، ففي البخاري (…..فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اتَّقِ اللَّهَ . قَالَ « وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ » . قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ « لاَ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى » .
فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ »
وفي رواية للبخاري (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ قِسْمًا فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ – رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ – يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ . قَالَ « وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ » فَقَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ . قَالَ « لاَ…)
وها هو صلى الله عليه وسلم يعفو عمن اغلظ له القول ، ففي سنن أبي داود (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُحَدِّثُنَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ فَقَالَ لَهُ الأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لاَ تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلاَ مِنْ مَالِ أَبِيكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لاَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لاَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لاَ أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَبْذَتِكَ الَّتِي جَبَذْتَنِي ».
فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الأَعْرَابِيُّ وَاللَّهِ لاَ أَقِيدُكَهَا.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ دَعَا رَجُلاً فَقَالَ لَهُ « احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا وَعَلَى الآخَرِ تَمْرًا ». ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ « انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى ».
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نِعْمَ الصاحب لأصحابه؛ يقف معهم في أفراحهم وأتراحهم، وفي قوَّتهم وضعفهم، فلم يتميَّز عنهم بمزيَّة، بل كان كواحد منهم في المأكل والمشرب والملبس، وهو ما جعل كثير من المشركين يتعجَّبون لهذه الرابطة القويَّة التي جمعته بأصحابه، فقال أبو سفيان بن حرب قبل إسلامه: “ما رأيتُ من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا كحُبِّ أصحاب محمد محمدًا!!” .
أيها المسلمون
ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد ، وتعامله مع جنده ، وأيضا تعامله وأخلاقه مع الجاهلين بأحكام الدين ،
ونبدأ بتعامل القائد مع جنده : فلشخصيَّة القياديَّة فطرةٌ حَبَا اللهُ بها أشخاصًا معيَّنِين، فكانوا قادة أفذاذًا، وعلى رأس هؤلاء القادة الأفذاذ يأتي أنبياء الله، الذين قادوا الأمم والشعوب إلى طاعة الله ،
وقد تناول القرآن قصصهم مع شعوبهم؛ لتكون نموذجًا ومثالاً يحتذي به كل قائد؛
لذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]،
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم على خُطا هؤلاء الأنبياء، فكان أعظمَ قائدٍ عرفته البشريَّة. فإذا نظرنا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجده قائدًا محنَّكًا -في كل أمور الحياة؛ إداريَّة، واجتماعيَّة، واقتصاديَّة، وسياسيَّة، وعسكريَّة- يعرف جيِّدًا قيمة جنوده وقدراتهم، فعمل رسول الله القدوة والمثل في ذلك
فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لزعماء قريش عندما عرضوا عليه الدنيا: “مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأَمْرِ اللهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ” .
فالهدف واضح في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثقته كبيرة بنصر الله له، رغم التكذيب والعناد الذي يلاقيه.
فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل ثقته إلى أتباعه ففي البخاري (عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ، فقَالَ « كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ،وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)
ثم نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع كل رجل مناسب في مكانه المناسب وهذه من صفات القائد الناجح ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف جيِّدًا قدرات رجاله، فهم -في نظره- العناصر الرئيسة التي يعتمد عليها القائد، ومعرفتُه بهم تصنع بينهم وبينه انسجامًا متبادَلاً، وتدفعهم لتقديم الجهود؛ بل والإبداع في عملهم، فلننظر إلى سيرته سنجدها خيرَ شاهدٍ على ذلك،
والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف بوضوح إمكانات كل صاحب له ؛ حتى لا يتردَّد في وصف كل واحد منهم بوصف يوضِّح تفوُّقه على أقرانه في مجال معيَّن،
فأبو بكر أرحم الأُمَّة، وعمر بن الخطاب الفاروق، وعثمان بن عفان أصدقهم حياءً، وعلي بن أبي طالب أقضى الصحابة، وجعفر بن أبي طالب أخير الناس للمسكين، وخالد بن الوليد سيف من سيوف الله، ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام، وزيد بن ثابت أعلمهم بالفرائض، وأُبَيّ بن كعب أقرأ الأُمَّة، وحمزة بن عبد المطلب أسد الله .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بمشورة أصحابه : ففي غزوة بدر يُشير الحُباب بن المنذر – وهو الخبير بالأمور العسكريَّة- على رسول الله بقوله: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب ، ثم تبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً، فنشرب ولا يشربون. فيقول رسول الله له: “لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ” .
وقَبْل المعركة بدأ النبي في تنظيم صفوف جنوده؛ ليكونوا على استعداد تامٍّ في مواجهة مشركي قريش، ولمَّا ابتدأت المعركة بالمبارزة، اختار رسول الله ثلاثة من جنده الأشدَّاء في مواجهة خصومهم، وقد كان اختياره موفَّقًا لأبعد حدٍّ؛ لِعِلْمِه -وهو القائد- بحقيقة جنده وحالهم،
فقال رسول الله : “قُمْ يَا عُبَيْدَة بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ”. فقَتَل اللهُ عتبةَ وشيبةَ ابني ربيعة، والوليدَ بن عتبة، وجُرِحَ عبيدةُ، فسبَّب ذلك هزيمة نفسيَّة للمشركين قبل لقائهم الفعلي مع المسلمين، فقتل المسلمون منهم سبعين، وأسروا سبعين آخرين .
ورأيناه صلى الله عليه وسلم قائدا يخطِّط للهجرة؛ فمن بداية من اختياره للرفيق وهو خير أصحابه أبو بكر الصديق ، ثم للطريق الذي يسلكه؛ حيث اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا غير معهود لقريش، وهو طريق السواحل، وكذلك مكثه في غارٍ بجبل ثور ثلاث ليالٍ؛ حتى تهدأ الأمور، ثم اختيار عبد الله بن أُرَيْقِط المشرك دليلاً، وإرساله عبد الله بن أبي بكر ليأتي بخبر قريش، وانتهاءً برعي عامر بن فهيرة للغنم حول الغار حتى يوفِّر الأمان، ثم تتجلَّى عظمته القيادية في توكُّله بعد ذلك على الله، واطمئنانه إلى معيَّته ، فيقول لأبي بكر: “مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟” .
وفي غزوة الأحزاب نجده صلى الله عليه وسلم يرفع معنويَّات جنوده، ويُدخل السرور عليهم عندما يشاركهم بنفسه في حفر الخندق، وهو يرتجز بكلمات ففي البخاري
(أن الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ ، وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّى الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ ، وَهْوَ يَنْقُلُ مِنَ التُّرَابِ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا قَالَ ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا ). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حازما عادلا فلننظر إلى حزمه عندما نادى في صحابته بعد انتهاء غزوة الأحزاب: ففي صحيح البخاري (قَالَ ،قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَوْمَ الأَحْزَابِ
« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِى قُرَيْظَةَ » . فكان قرارًا حازمًا من القائد لجنوده، فخرج الجميع لمواجهة مَنْ خان العهد وتعاون مع الأعداء.
فأمَّا عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جنوده فقد ضرب فيه المثل الذي لا يُضَاهَى؛ ففي غزوة بدر كان رسول الله ينظِّم صفوف أصحابه وفي يده قدح يعدل به القوم،
( فرَأَى رَجُلاً مُتَخَلِّقًا فَطَعَنَهُ بِقِدْحٍ كَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا
فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ قَدْ عَقَرْتَنِي فَأَلْقَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِدْحَ فَقَالَ لَهُ :« اسْتَقِدْ ».
فَقَالَ الرَّجُلُ إِنَّكَ طَعَنْتَنِي وَلَيْسَ عَلَىَّ ثَوْبٌ وَعَلَيْكَ قَمِيصٌ فَكَشَفَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَبَّلَهُ) كما في سنن البيهقي .
أيها المسلمون
ثم ننتقل إلى تعامله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الجاهلين بأحكام الدين ، وأصحاب الجفاء والطباع الغليظة ، فقد كان صلى الله عليه وسلم نعم المعلم ونعم المهذب لأخلاقهم ، والصابر على جفوتهم وغلظتهم وكيف لا وقد قال الله تعالى عنه (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4) القلم ، وقال سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (107) الأنبياء
ومن صور معاملاته صلى الله عليه وسلم للجاهل بأحكام الدين ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَرَدَّ وَقَالَ
« ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَرَجَعَ يُصَلِّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » ثَلاَثًا .
فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي . فَقَالَ « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا »فانظروا كيف علَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة بكلمات موجزة سريعة، ولم يُشِرْ أثناء تعليمه أي إشارة إلى سوء طريقته في الصلاة.. فلقد بدا واضحًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُدرك أن مشكلة هذا الرجل الأساسية هي الجهل، وبالتالي فإن الحلَّ -ببساطة- هو العلم! ومن ثَمَّ لم ينفعل أبدًا، إنما أوصل له المعلومة في هدوء رحيم، وأدب جمٍّ.
وفي تعليمه للجاهلين بأمر الدين ،ما روي في صحيح مسلم (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّى سَكَتُّ
فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَ اللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي
قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ».
أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ « فَلاَ تَأْتِهِمْ ».
وهذا موقف آخر للجاهلين بأحكام الدين وكيف تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَسْجِدِنَا هَذَا وَفِى يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ فَرَأَى فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ». قَالَ فَخَشَعْنَا ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ». قَالَ فَخَشَعْنَا ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ». قُلْنَا لاَ أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ « فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قِبَلَ وَجْهِهِ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا » . ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ « أَرُونِي عَبِيرًا ».
فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَىِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ)
وفي الصحيحين (قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ).
فلقد تعاظمت رحمته حتى شملت هذا الأعرابي، الذي لم يتخلَّق بعدُ بأخلاق المدينة، بل ظلَّ على جفاء البادية.. لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يقطعوا عليه بوله، وأخذ في تعليمه في هدوء عجيب حقًا، ثم إنه أمر رجلاً من الصحابة أن يسكب دلوًا من الماء على البول ليُطَهِّره، ولم يأمر الأعرابي أن يصلح ما أفسد لكي لا يُريق ماء وجهه!!
أيها المسلمون
ومع صور من معاملاته صلى الله عليه وسلم مع المخالفين له في الدين من المشركين وأهل الكتاب)
فمن أبرز الدلائل على نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تعاملاته الراقية مع من لا يعرف؛ لأننا قد نتجمَّل أمام بعضنا البعض، ونتعامل بجفاء مع من لا يعرفنا،
ولكن الله سبحانه وتعالى قد مَنَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم برقَّة القلب مع مَنْ يعرف، ومَنْ لا يعرف، فقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
فقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة بطريقة فذَّة فريدة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل إنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور،
ورغم عنادهم وقسوتهم في التعامل معه صلى الله عليه وسلم ومع من أسلم من أصحابه، إلاَّ أنه كان مصرًّا على دعوتهم إلى الإسلام الذي يُحَقِّق لهم الفلاح في الدنيا والآخرة.
ومن صور تعامله وأخلاقه معهم
أولاً: دعاؤه لهم بالهداية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصُّ بدعائه كل المشركين، بل ومن ناصبه العداء كأبي جهل وعمر بن الخطاب قبل إسلامه، وكانا من ألدِّ وأشهر وأقوى أعداء رسول الله ، فكان يدعو ويقول: “اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَكَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ” رواه الترمذي .
ثانيًا: سمة التبشير فحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال مبنية على التبشير، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخرج عن هذا الطبع على الرغم من قسوة المشركين عليه؛
فعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِىِّ – وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ – فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا ». وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً يَقُولُ شَيْئاً وَهُوَ لاَ يَسْكُتُ يَقُولُ « أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا ». إِلاَّ أَنَّ ورَاءَهُ رَجُلاً أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ.
فَقُلْتُ َمنْ هَذَا قَالُوا ُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ.
قُلْتُ مَنْ هَذَا الَّذِى يُكَذِّبُهُ قَالُوا َمُّهُ أَبُو لَهَبٍ) رواه احمد.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَ أَبِى طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ قَالَ « إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّى إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ ». قَالَ كَلِمَةً وَاحِدَةً قَالَ « كَلِمَةً وَاحِدَةً ». قَالَ « يَا عَمِّ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».
فَقَالُوا إِلَهًا وَاحِدًا (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ)
قَالَ فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ (ص َالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) إِلَى قَوْلِهِ (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) رواه الترمذي .
فلم يَعْبَسْ رسول الله في وجوهم، ولم يقاطع مجالسهم، ولم ينظر لهم نظرة المتكبِّر المُعْرِض، إنما تلطَّف وتودَّد إليهم، ويبشِّرهم بمُلْكِ الدنيا ونعيم الآخرة.
ثالثًا: حوار رسول الله مع المشركين
فامتثالاً للمنهج القرآني الذي ورد في آيات كثيرة منها قوله تعالى:
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 24-26]
وهذه – ولا شكَّ – أرقى وسيلة ممكنة من وسائل التحاور، لا تحمل أي صورة من صور العصبية والتَّزمُّت، إنما فيها كل الأدب، وكل التقدير للطرف الآخر.
رابعًا: صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، فعن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم –
قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُصَلِّى فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا ،
فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] رواه البخاري.
كما رموه صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون وهو منه براء ، إمعانًا في تسفيه ما جاء به، وهو الحقُّ من رب العالمين،
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ.
فَقَالَ لَوْ أَنِّى رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَىَّ – قَالَ – فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَرْقِى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِى عَلَى يَدِى مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ)
قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَىَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ. فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مَرَّاتٍ – قَالَ – فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ
هَؤُلاَءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ – قَالَ – فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلاَمِ – قَالَ – فَبَايَعَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَعَلَى قَوْمِكَ ». قَالَ وَعَلَى قَوْمِي – قَالَ – فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلاَءِ شَيْئًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً. فَقَالَ رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمُ ضِمَادٍ) رواه مسلم .
كما اشتدَّ الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت عمِّه أبي طالب، فيروي ابن هشام قائلاً: “فلما مات أبو طالبٍ نالت قريشٌ من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالبٍ، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريشٍ، فنثر على رأسه ترابًا… فلمَّا دخل رسول الله بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله يقول لها: “لا تَبْكِي يَا بُنَيَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاكِ” .
ورغم هذا الإيذاء الذي سقنا طرفًا منه إلاَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع التعامل معهم، بل ظلَّ على حُسْن المعاملة من بيع وشراء، ودليلنا على ذلك ما فعلته قريش مع المسلمين في العام السابع من البعثة ، عندما فرضت عليهم حصارًا اقتصاديًّا ظالمًا.
ومن فرط رحمته صلى الله عليه وسلم وحرصه عليهم لم يَدْعُ الله عليهم بالهلاك، ففي الصحيحين (أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ
قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا »
ومن صور عفوه عن من اراد قتله من الكفار ففي البخاري (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قِبَلَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَفَلَ مَعَهُ ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ
« إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا » .
فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى فَقُلْتُ « اللَّهُ » . ثَلاَثًا وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ ).
وكان صلى الله عليه وسلم وفيا في عهوده ومواثيقه حتى مع أعدائه ، ففي مسلم (حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى – حُسَيْلٌ – قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ
فَقَالَ « انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ».
وفي قصة اسلام ثمامة بن أثال خير دليل على حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين ففي الصحيحين (سَعِيدُ بْنُ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » .
فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ . حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ .
فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ ، فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ .
فَقَالَ « أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ » ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ،
يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَىَّ ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ . قَالَ لاَ ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -)
وها هو صلى الله عليه وسلم يطلق صراح أسيرا كافرا رحمة بأولاده ففي سنن البيهقي (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أَبَا عَزَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الْجُمَحِيَّ وَكَانَ شَاعِرًا
وَكَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي خَمْسَ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ شَيْءٌ فَتَصَدَّقْ بِي عَلَيْهِنَّ فَفَعَلَ وَقَالَ أَبُو عَزَّةَ : أُعْطِيكَ مَوْثِقًا أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ وَلاَ أُكَثِّرَ عَلَيْكَ أَبَدًا فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
فَلَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ : اخْرُجْ مَعَنَا.
فَقَالَ : إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُ مُحَمَّدًا مَوْثِقًا أَنْ لاَ أُقَاتِلَهُ.
فَضَمِنَ صَفْوَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتِهِ مَعَ بَنَاتِهِ إِنْ قُتِلَ وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالاً كَثِيرًا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ
فَأُسِرَ وَلَمْ يُؤْسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أُخْرِجْتُ كَرْهًا وَلِى بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَىَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَيْنَ مَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ لاَ وَاللَّهِ لاَ تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنَ ».
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنَ يَا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ قَدِّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ». فَقَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ).
هكذا كان تعامل رسول الله مع مشركي قريش تعاملاً قائمًا على الرحمة والشفقة ما ينقض عهده ، وكان هذا دليلاً أكيدًا على نبوَّته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعامل مع مشركي قريش إلاَّ من منطلق المنهج الرباني الذي استقاه من القرآن الكريم.
أيها المسلمون
بعد هجرة رسول الله إلى المدينة أصبح سيدًا عليها، ومن ثَمَّ عاشت معه في داخل المدينة أقلية غير مسلمة من المشركين واليهود، وعندما امتدَّت الدولة الإسلامية إلى مساحات أوسع صارت فيها أقليات من النصارى – كذلك- تمتعت كلها بالحرية الدينية، فكل أقلية تمارس شعائرها كما تحبُّ، وهذا الحرية أقرَّها الإسلام كمبدأ منذ نزول الوحي على رسول الله ؛ لترتقي بها الإنسانية، وتسعد في ظلِّها البشرية.
وسيرة رسول الله خير شاهد على تمتع الأقلية غير المسلمة بالحرية الدينية، رغم ما قاساه الصحابة الكرام الأوائل من مشركي مكة، إلاَّ أن رسول الله – الذي اكتوى أيضًا بنار القسوة والتعذيب – لم يَرُدَّ على الكافرين والمشركين بهذا الأسلوب، ولم يعاملهم بالمثل عندما أنعم الله عليه بالنصر والتمكين، ولم يرتضِ يومًا أن يفرض عليهم عقيدة لم يقتنعوا بها بعدُ، امتثالاً لأوامر القرآن الكريم التي يقول الله فيها:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]،
وهو ما طبَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل منه دستورًا للمسلمين في تقرير الحرية الدينية.
ومما يؤكِّد هذه الحقيقة ما ورد في سبب نزول الآية:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]،
فقد جاء أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث رسول الله ، ثم قَدِمَا المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما،
وقال: لا أدعكما حتى تُسلما. فأبيا أن يسلما؛ فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟!
فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية، فخلَّى سبيلهما .
وهكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والد الابنين المتنصرين والمخالفَين له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة بأن يَدَعَهُما وما يعتقدان، ويخلِّي بينهما وبين ما يعبدان، حتى وإن كان له عليهما حقُّ الطاعة!
كما أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرية الدينية -كذلك- في أول دستور للمدينة، وذلك حينما اعترف لليهود بأنهم يشكِّلون مع المسلمين أُمَّة واحدة .
فأما عن تعامله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع اليهود ، فقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاهدات بينه وبين كل الطوائف غير المسلمة في عصره، فكان وفيًّا بكل ما عاهدهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].
ويُعَلِّق ابن كثير على هذه الآية قائلاً: “وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكَّدة” .
على هذه المبادئ سارت حياة رسول الله ، بل وربَّى أصحابه عليها، فقال رسول الله : مُعَلِّمًا إياهم قيمة الوفاء بالعهد: “مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً، وَلا يَحُلُّهَا، حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ” رواه أحمد وأبو داود والبيهقي
والوفاء بالعهد والمعاهدات واجب ديني يُحَاسَب عليه المسلم أمام ربه؛ وحول هذا المعنى يقول الشيخ محمود شلتوت مُبَيِّنًا قيمة المعاهدات عند المسلمين: (الوفاء بالمعاهدة واجب ديني، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله، ويكون الإخلال بها غدرًا وخيانة )
ومن صور معاملات الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود ، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا على دعوتهم إلى الله
ففي صحيح البخاري (عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ « أَسْلِمْ » . فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ – صلى الله عليه وسلم – . فَأَسْلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ يَقُولُ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ »
وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاهدة مع يهود المدينة بعد هجرته إليها مباشرة وفي أوائل أيامه بها؛ مما يدل دلالة قاطعة على فكره التعايش ورغبة رسول الله في مسالمة غير المسلمين، وتثبت هذه الوثيقة بما لا يدع مجالاً للشكِّ ما كانت عليه الدولة الإسلامية -وهي في هذه المرحلة الأولى من البناء والتأسيس- من حرية تامَّة، وإفساح للغير للمشاركة والمعايشة القائمة على احترام الآخر، كما يظهر ذلك من خلال القراءة المتأنية لبنود هذه الوثيقة أنها تقبل الآخر، وتشرع القوانين من أجله، ولأجل ما ينظِّم حياته بين أفراد المجتمع المسلم، ويحفظ له حقوقه ويرد عنه الظلم إن وقع عليه.
وقد حَرَصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون -رغم ما واجهوه من صعوبات بالغة ومكائد متكررة- على استمرار تطبيق بنود هذه المعاهدة، فكان التعايش السلمي الآمن مع مَنْ يعيش من اليهود مع رسول الله والمسلمين هو سمة الحياة داخل المدينة؛
فبدأ التبادل التجاري بينهم حيث امتلأت أسواق اليهود في المدينة بالمسلمين، ومن أشهر أسواق اليهود سوق بني قينقاع. وإتمام عمليات البيع والشراء لا تتم إلا بين قوم يأمن بعضهم بعضًا،
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالط كل من يقيم بالمدينة، مسلمين وغير مسلمين، ويجلس معهم ويحدِّثهم ويحدِّثونه،
وها هو صلى الله عليه وسلم يقوم لجنازة يهودي ( ففي الصحيحين (كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا . فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ ، أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالاَ إِنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ .
فَقَالَ « أَلَيْسَتْ نَفْسًا » .
فهو ذا النبي صلى الله عليه وسلم يُعِّلم أُمَّته احترام غير المسلمين حتى الموتى منهم.
وكان من تعامله صلى الله عليه وسلم مع اليهود أن يعفو عمن أساء منهم ، ففي صحيح البخاري (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِى بَنِى حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَسَارَا حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ، فَإِذَا فِى الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ ، وَفِى الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ،
فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ ابْنُ أُبَىٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا . فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا ، فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِى مَجَالِسِنَا ، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا فِى مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ .
فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –
« أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ – يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ – قَالَ كَذَا وَكَذَا » . فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ ، فَوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِى أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ . فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) الآيَةَ ،
وَقَالَ ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ )
ورغم حرص رسول الله على التعايش السلمي مع اليهود في المدينة إلاَّ أن اليهود قاموا بأفعال مستفزَّة، لكن رسول الله كان يقابلها بسعة صدر كبيرة، وبحكمة بالغة. وسنكتفي هنا بذكر أمثلة من أفعال اليهود الاستفزازية؛
ومن ذلك ما نسبوه إلى رب العالمين من الفقر، وهذه بمفردها كارثة تستوجب أشدَّ العقاب، ليس فقط لضعف إيمانهم، وإنكارهم الحق الذي يعرفونه؛ ولكن لأنهم بهذا التعدِّي يطعنون في المرجعية الأساسية للمسلمين؛ وبذلك فهم يحضُّون الناس على رفض التشريع الذي يحكمهم، وفي هذا فتنة كبيرة في المدينة، ومن ذلك ما نسبوه إلى رب العالمين سبحانه وتعالى من الفقر، وفيهم أنزل الله : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]
وكذلك تعدِّيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يمرُّون عليه، ويَدْعُون عليه بالموت في وجهه، وهم يحاولون أن يُظهِروا عكس ذلك، فيقول أحدهم: السام عليك. والسام هو الموت، ففي الصحيحين (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتِ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ . فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ » . قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ »
وفي رواية (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَلَّمَ نَاسٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ « وَعَلَيْكُمْ ».
فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَغَضِبَتْ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « بَلَى قَدْ سَمِعْتُ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُجَابُونَ عَلَيْنَا ».
وفي الصحيحين (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ.
قَالَ « مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ ». قَالَ أَوْ قَالَ « عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا أَلاَ نَقْتُلُهَا
قَالَ « لاَ ». قَالَ فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-) .
وها هم يهود المدينة يظهرون عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتصاره في غزوة بدر
ففي سنن ابي داود (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِى قَيْنُقَاعَ فَقَالَ
« يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا ».
قَالُوا يَا مُحَمَّدُ لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا لاَ يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى ذَلِكَ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ)
ومن ذلك -أيضًا- تعدِّيهم على الأنبياء والقرآن وإثارة الشحناء بين المهاجرين والأنصار.. وغير ذلك، ولكن لو بقي حال اليهود على ما هو عليه لكان الأمر محتملاً ومقبولاً؛ ولكنهم تطاولوا أكثر من ذلك، وما زادهم حلم رسول الله إلاَّ جهلاً، فارتكبوا من الأمور ما لا يمكن احتماله، ومن ثَمَّ كان هذا نقضًا صريحًا للمعاهدة، يتعذَّر معه صفح
فها هم يهود بني قينقاع ينقضون عهدهم معه ، ففي سنن البيهقي (أَنَّ بَنِى قَيْنُقَاعَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُوَادَعَةٌ وَعَهْدٌ فَأَتَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى صَائِغٍ مِنْهُمْ لِيَصُوغَ لَهَا حُلِيٍّا وَكَانَتِ الْيَهُودُ مُعَادِيَةً لِلأَنْصَارِ فَلَمَّا جَلَسَتْ عِنْدَ الصَّائِغِ عَمَدَ إِلَى بَعْضِ حَدَائِدِهِ فَشَدَّ بِهِ أَسْفَلَ ذَيْلِهَا وَجَنْبِهَا وَهِىَ لاَ تَشْعُرُ فَلَمَّا قَامَتِ الْمَرْأَةُ وَهِىَ فِى سُوقِهِمْ نَظَرُوا إِلَيْهَا مُتَكَشِّفَةً فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ مِنْهَا وَيَسْخَرُونَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَابَذَهُمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ.)
وفي سنن أبي داود (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ يَهُودَ بَنِى النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَنِى النَّضِيرِ وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلاَدَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَّنَهُمْ وَأَسْلَمُوا وَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بَنِى قَيْنُقَاعَ وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وَيَهُودَ بَنِى حَارِثَةَ وَكُلَّ يَهُودِيٍّ كَانَ بِالْمَدِينَةِ).
وخرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب المشركة بهدف حصار المسلمين، فكانت غزوة الأحزاب، التي تجمَّع فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل من المشركين؛ لإبادة المسلمين في المدينة، ولكن الله مَنَّ على المسلمين بنصره فيها،
ولكن خيبر أصبحت بؤرة خطرٍ عظيمٍ على المسلمين؛ لذلك كان لا بُدَّ من تأديبهم، ومحاسبتهم على بعض ما اقترفوا من جرائم في حقِّ الدولة الإسلامية.
فخرج النبي لمحاربتهم في العام السابع من الهجرة، وبعد معارك عديدة وحصار لحصونهم الواحد تلو الآخر طلب اليهود أن ينزلوا على الصلح، وأن يتفاوضوا مع رسول الله ، وقَبِلَ رسول الله منهم ذلك، وكانت خلاصة الأمر أن تمَّ التصالح على حقْن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المقاتلة والذُّرِّيَّة والنساء، وعلى أن يتركوا خلفهم الديار، والسلاح، والأموال، والذهب، والفضة، ويخرجوا دون شيء، كما اشترط رسول الله في هذه المعاهدة عليهم شرطًا مهمًّا فقال:
“وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا “. أي لو أن أحدًا من اليهود أخفى شيئًا من الأموال أو من الذهب أو الفضة؛ فللرسول أن يقتله بهذا الإخفاء . وقَبِل اليهود هذا الصلح، وبدءوا في الخروج من خيبر، وقد حقن الرسول دماءهم جميعًا بهذا الصلح، وذلك رغم ما قدَّمت أيديهم من سوء، ولم يقتل إلاَّ مَنْ برزتْ خيانته لهذا العهد، كما وقع لكنانة بن أبي الحقيق .
إلى هذا الحدِّ كان الأمر كله بيد المسلمين، وليس أمام اليهود اختيار غير الخروج، ومع ذلك ولرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعايش السلمي مع الآخر قَبِلَ بالطرح الذي قدَّمه اليهود؛ لقد طلب اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزرعوا هذه الأرض مناصفة مع المسلمين، ففي البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا ، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا .
وكان هذا الصلح بمنزلة الإحسان التامِّ من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، وإنقاذًا لهم من الخروج إلى الصحراء، فقد كانت المعاهدة الأولى تنصُّ على إجلائهم تاركين خلفهم كل شيء، لقد جرت الحياة بصورة طبيعية مع أهل خيبر، الذين ظلُّوا في أعمالهم يقومون بها بحُرِّيَّة تامَّة، ولم تُؤثَر أية مواقف تدلُّ على تعنُّت المسلمين معهم.
بهذه الأخلاق الراقية وبهذا الحب العظيم للآخر عقد رسول الله معاهداته مع اليهود، ولكنهم لم يحافظوا عليها ونقضوها واحدة تلو الأخرى.
أيها المسلمون
ومن صور تعامله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين ، فقد كان تعامله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين بالعدل
ومن ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ – رضى الله عنهما – قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ » . فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ ، فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا ، فَقَالَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – « بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً – أَوْ قَالَ – أَمْ هِبَةً » . قَالَ لاَ ، بَلْ بَيْعٌ . فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً ،
فَصُنِعَتْ وَأَمَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى ، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِي الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ إِلاَّ قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا ، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ ، وَشَبِعْنَا ، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ .
فهذا رسول الله في فرقة من جيشه قوامها مائة وثلاثون رجلاً يحتاجون إلى طعام، يمرُّ بهم رجل مشرك بغنم، فيشتري رسول الله منه شاة بثمنها، ولم يتَّجه إلى إكراه الرجل على إعطائهم الشاة بدون ثمن مع توافر القوَّة لدى رسول الله ، ومع شدَّة احتياجهم، ومع كفر الرجل وفساد عقيدته؛ إنه العدل في أرقى صوره.
وأما عن تعامله صلى الله عليه وسلم مع ملوك ورؤساء الدول فكان تعاملا يليق بمنزلتهم عند قومهم ، فمن صور معاملاته صلى الله عليه وسلم مع حكام وملوك الأرض
فنجد رسول الله يرسل عدَّة رسائل إلى ملوك الأرض حينذاك؛ يدعوهم فيها إلى الإسلام. فقد أرسل الله رسوله محمدًا للعالمين بشيرًا ونذيرًا،
واللافت للنظر أنه في كل رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم كان يصف المَلِكَ أو الزعيم بالعظمة، ولم يتحرِّجْ من وصف رجل غير مسلم بهذا الوصف،
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى قيصر الروم:
“مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ…” .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك في رسالته إلى كسرى فارس:
“مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِس…” .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى المقوقس زعيم مصر:
“مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى الْمُقَوْقس عَظِيمِ الْقِبْطِ…”
وإلى النجاشي زعيم الحبشة:
“هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إِلَى النَّجَاشِيِّ الأَصْحَم، عَظِيمِ الْحَبَشَةِ…” .
وأما عن تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسل الملوك والوفود
فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يُكرم رسولي كسرى مع كونهما جاءا برسالة غير مقبولة من كسرى عظيم فارس، ليأخذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقر داره بالمدينة إليه،
ومع ذلك فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هدوئه وأدبه ورقة طباعه، بل وكان يُكرم كل الوفود التي تأتي إلى المدينة المنورة بصرف النظر عن الموقف السياسي والديني الذي يُتَوَقَّع من هذه الوفود،
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم اهتمام خاصٌّ بالوفود؛ استقبالاً وضيافةً وتجمُّلاً وجوائز؛ فكان يُجري عليهم الضيافة، ويُحسن استقبالهم، ويسائلهم ويتردَّد عليهم، ويلبس أحسن الثياب لاستقبالهم .
كما خصَّص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الديار لاستقبالهم كما جاء عند استقباله لوفد سلامان؛ حيث قال لثوبان غلامه: “أَنْزِلْ هَؤُلاءِ الْوَفْدَ حَيْثُ يَنْزِلُ الْوَفْدُ” وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحَمِّلَ هذه الوفود بالهدايا والجوائز، وكثيرًا ما تكون هذه الجوائز من الفضة .
ومن تعامله صلى الله عليه وسلم مع ملوك الدول في ذلك الوقت ، قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا منهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدايا من الدول غير الإسلامية إمعانًا في التآلف والمودة، ولا سيما إن لم يكن من جانبهم غدر أو قتال؛ كما فعل رسول الله مع هدايا المقوقس عظيم قبط مصر .
ومن أعظم صور تعاملات رسول الله صلى الله عليه وسلم الدبلوماسية في حياته ما فعله مع النجاشي ملك الحبشة ، بداية من مدح رسول الله له قائلاً لأصحابه:
كما في سنن البيهقي (قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَالْحَقُوا بِبِلاَدِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ».
ثم مرورًا بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بوكالة النجاشي -رغم بقائه في ذلك الوقت على دينه على ما يبدو للسيدة أم حبيبة رضي الله عنها، والتي تنصَّر زوجها عبيد الله بن جحش في الحبشة، فأراد رسول الله أن يكافئها بزواجه إياها، فزوَّجها إيَّاهُ النَّجاشيُّ ومهرها أربعة آلافٍ، ثمَّ جهَّزها من عنده، فبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة، وجهازها كلُّه من عند النَّجاشيِّ، ولم يرسل إليها رسول الله بشيءٍ .
واثمرت هذه العلاقة الطيبة أن أسلم النجاشي وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ففي سنن البيهقي (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- خُفَّيْنِ سَاذَجَيْنِ أَسْوَدَيْنِ ، فَلَبِسَهُمَا وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) . وفي سنن أبي داود (عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَنْطَلِقَ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ فَذَكَرَ حَدِيثَهُ قَالَ النَّجَاشِيُّ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَّهُ الَّذِى بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَلَوْلاَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لأَتَيْتُهُ حَتَّى أَحْمِلَ نَعْلَيْهِ)وفيه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى
الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. ) .