خطبة عن (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)
نوفمبر 13, 2023خطبة حول معنى قوله تعالى ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ )
نوفمبر 18, 2023الخطبة الأولى ( لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْنَا لِعَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ: أَخْبِرْنَا بِشَيْءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَىَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ وَلَكِنِّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: « لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ الْمَنَارَ»
إخوة الإسلام
في هذا الحديث النبوي الكريم يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذبح لغير الله ،ومن إيواء المحدث ، وسب الوالدين ولعنهما ،ومن التلاعب في علامات الأرض وحدودها ،وبين صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء جميعا يستحقون اللعنة والطرد من رحمة الله ،ما لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله ،ويستغفروه من ذنوبهم وأخطائهم ،وقوله صلى الله عليه وسلم : (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ) : فالذبح لغير الله عبادة لغير الله ،قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162، 163] ،وقال الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2] ،فالعبادة كلها لله وحده، ومن جملتها الذبح ، فكما أن الصلاة لله ، فالذبح لا يكون إلا لله ،وليس لأحد أن يتقرب بذبح ناقة أو بقرة أو شاة أو غيرها لغير الله؛ لأن المقصود بالذبح هو التقرب، فإذا تقرب المرء بشيء لغير الله يرجو إحسانه ،أو يعتقد أنه ينفعه ،كان هذا هو الشرك ،قال الله جل وعلا: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن:18] ، فالدعاء يشمل: دعاء العبادة كالذبح والصلاة ،ودعاء المسألة: كأن يقول في دعائه (انصرني ،عافني) ونحو ذلك، وقال الله جل وعلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وقال الله تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5] ،
وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم ،ويتقربون إليها بالذبائح ،فحذر الله من ذلك ،ومن جميع أنواع الشرك، كما قال جل وعلا: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة:72]، وقال الله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13] ،وقال تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:88] ،وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48].
وقوله صلى الله عليه وسلم : (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ) : فيه بيان بأن الذبح لغير الله كبيرة من كبائر الذنوب ، وأن صاحبه ملعون، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: ﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة:173]: ظاهره أنه ما ذُبح لغير الله ،مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، فهو شرك .
أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا) : والمحدث : (يروى بكسر الدال وفتحها) ،فمعنى 🙁 محدث) بالكسر ،أي : من نصر جانيا ،أو آواه وأجاره من خصمه ،وحال بينه وبين أن يقتص منه ، ومعنى (محدث)، بالفتح : فهو المبتدع نفسه ،ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به ، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة ،وأقر فاعلها ،ولم ينكر عليه ،فقد آواه ” ، وقال الشوكاني في ” نيل الأوطار قوله : (آوَى مُحْدِثًا) بكسر الدال: هو من يأتي بما فيه فساد في الأرض ،من جناية على غيره أو غير ذلك، والمؤوي له : المانع له من القصاص ونحوه ” ، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي هذا الفعل في الكبائر ،وقال : ” إيواء المحدثين ،أي منعهم ممن يريد استيفاء الحق منهم ،والمراد بهم : من يتعاطى مفسدة يلزمه بسببها أمر شرعي ”
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ) : أي أباه وأمه وإن عليَا، أو كان سببا في سبهما وشتمهما ،كما في الصحيحين : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضى الله عنهما – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ » . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ « يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أَمَّهُ » ، فمن أشد أنواع اللعن ،لعن الرجل والديه والعياذ بالله ،وهما سبب وجوده في هذه الحياة ،وقد قرن الله حقهما بحقه، وطاعتهما بطاعته فقال الله سبحانه : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [ النساء 36 ] ، وقال الله تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الاسراء (23)، (24) ، هذه هي وصية الله تعالى بالوالدين ،طاعتهما ،وبرهما ،والإحسان إليهما ، وعدم التعرض لإيذائهما ،ولو بكلمة أف، فكيف بمن يلعن والديه ،لهو من أشد المخاطر ،وأسوأ النتائج ،(فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : ” نَعَمْ ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَشْتُمُ أَبَاهُ ، وَيَشْتُمُ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ “ [ متفق عليه ]
أيها المسلمون
وقوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ الْمَنَارَ) قال النووي: منار الأرض علاماتها وحدودها، وقيل: تغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها، فيكون هذا من ظلم الأرض ، وفي مسند أحمد : (عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ يُخَاصِمُ فِى دَارٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « من ظَلَمَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ».، فهذا دليل على أن تغيير منار الأرض من كبائر الذنوب، ولهذا قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك وبالعقوق وبالإحداث، مما يدل على أن أمره عظيم، وأنه يجب على المرء أن يحذر منه، وأن يخاف الله- سبحانه وتعالى- حتى لا يقع فيه؛ وقال ابن الجوزي: أما منار الأرض: فهي أعلامها التي تضرب على الحدود ليتميز بها الأملاك بين الجارين، فإذا غيرت اختلطت الأملاك، وإنما يقصد مغيرها أن يدخل في أرض جاره. ،وقال القرطبي: إن أضافها إلى ملكه فهو غاصبٌ، وإن لم يضفها إلى ملكه فهو متعدٍّ ظالِمٌ مفسدٌ لِمُلك الغير. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (من غصب شبرًا من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين). ،وأدخل بعض العلماء في معنى (منار الأرض) العلامات التي يُهتدى بها في الطرقات؛ قال ابن هبيرة: وأما تغيير منار الأرض قد يكون بين الشريكين، فلا يحل لأحد الشريكين أن يقدم الحد ولا يؤخره، وقد يكون أيضًا من الأعلام في الطرق التي يهتدي بها المسافرون، فلا يحل لأحد تغييرها؛ فيؤول إلى إضلال الناس عن طريقهم ومقاصدهم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الفوائد التي يمكن أن نستخلصها من هذا الحديث النبوي الكريم : تحريم الذبح لغير الله، وأن الذبح عبادة يجب صرفها لله وحده. – تحريم لعن الوالدين مباشرة أو تسبباً. تحريم تغيير المراسيم لاغتصاب أراضي الغير، فالذي يغير منار الأرض فهو ملعون، لأنه قد يؤدي إلى المشاكل والمصائب والمقاتلة. تحريم مناصرة المجرمين والرضا بالبدع. وفي الحديث دليل على جواز لعن الفسّاق كقوله: ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) ونحو ذلك. قال النووي: (وأما اللعن بالوصف فليس بحرام، كلعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة ،وآكل الربا وموكله، والمصورين، والظالمين، والفاسقين، والكافرين، ولعن من غير منار الأرض، وغير ذلك مما جاءت النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان) وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان ذكرهما شيخ الإسلام بن تيمية. أحدهما: أنه جائز، واختاره بن الجوزي وغيره. الثاني: أنه لا يجوز، واختاره أبو بكر عبد العزيز، وشيخ الإسلام قال: ( المعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله، وأن يقول كما قال الله تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].
الدعاء