خطبة عن (زمنُ الغربة)
نوفمبر 27, 2024خطبة عن (الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ)
ديسمبر 1, 2024الخطبة الأولى ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (127)، (128) النحل ، وقال الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (67) :(70) النمل
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم ،نتلو هذه الآيات ،ونتدبرها ،ونتفهم معانيها، ونغوص في بحار مراميها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ،ففي قوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) النحل (127) ، وقوله تعالى : (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (70) النمل ،يأمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالصَّبر المتواصل، وأن صبره صلى الله عليه وسلم لا يكون إلَّا بالركون إلى الله، كما أمره سبحانه بعدم الحزن ممَّا اقترفه الأعداء في حقِّ الإسلام والمسلمين، ثمَّ حثَّه ألَّا يضيق أبدًا من حِقدهم وكيْدهم ومكرِهم، فهو تعالى محيطٌ بكلِّ ذلك ،وربَّما كان حال المسلمين اليوم من حولنا يَحتاج لمثل هذه الوصايا، خاصَّة مع اضطراد مكرِ أعداء المسلمين ،وازدياد الحِقد، وتواصل التحدِّي والتشفِّي من الإسلام وأهله، فالمتأمل لأحوال المسلمين في هذا الزمان ،يتبين له أنه قد تصاعدَت الشدائد على المسلمين ،وتزايدَت المكايد ،وترادفَت الضوائق، وأصبح المؤمن الحق يُكابِدها جميعًا، وإن شاء الله يَخرج منها أقوى إيمانًا ،وأوسَع صدرًا، وأثْبت يقينًا ،وأعمَق ثِقة في الله؛ في قضائه وقدَره، وفي عدله وفضلِه، وفي نصره وعزِّه،
لقد امتنَّ الله تعالى على هذه الأمَّة الاسلامية ،التي استقبلَت دعوةَ الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم ،ومن أوسطِهم، يعرفون حسَبَه ونسَبَه، وتاريخَه وأخلاقَه، وقد كان صلى الله عليه وسلم محبًّا لقومه حريصًا على هدايتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]؛ وهو القائل: (إنَّما مَثلي ومثَل أمَّتي كمثَل رجل استوقد نارًا، فجعلَت الدَّواب والفَراش يقعنَ فيه، فأنا آخِذ بحُجَزكم وأنتم تقَحَّمون فيه)؛ رواه مسلم ،لذلك؛ حزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قومه؛ لِما رأى مِن كفرهم وعنادهم وتكبُّرهم عن قبول الحق، وهو يريد لهم الهداية والصَّلاح؛ فلمَّا ذاق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حلاوةَ الإيمان أحبَّ أن يشاركه قومُه هذه المتعة الإيمانية ، والحق سبحانه وتعالى في هذه الآيات يسلِّي رسولَه، ويخفِّف عنه ما صُدم في قومه، فيقول الله تعالى له: ﴿ ولَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، ولا تحمِّل نفسَك فوق طاقتها، فما عليك إلَّا البلاغ، كما خاطبَه ربُّه في آية أخرى: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]؛ وقال تعالى : ﴿ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]؛ وهذا الضيق في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتَج عن مواقفٍ، ومنها : أن المشركين لمَّا ظفروا بالمسلمين في غزوة أُحد ،مثَّلوا بالشهداء تمثيلًا لم تَعرفه العرب؛ فبقروا بطونَهم، وصلموا آذانَهم، وجدعوا أنوفَهم، إلى غير ذلك ممَّا يُقال من أنَّ المشركين ونساءهم فَعلوه بالشهداء؛ تشفِّيًا لِما أصابهم في يوم بدر، حتى لَيقال: إنَّ هند بنت عتبة – زوج أبى سفيان – بقرَت بطنَ حمزة رضى الله عنه وأخذَت كبدَه، وأكلَت شيئًا منها! ،فالنبيَّ صلى الله عليه وسلم حين رأى ما فعَل المشركون بحمزة وغيرِه من الشهداء ،حزنَ لذلك حزنًا شديدًا، وحلف لئن أظفَرَه الله تعالى بالمشركين أن يمثِّل بسبعين منهم، وكذلك فعَل كثيرٌ من المسلمين، فنزلت هذه الآيات من الحق العدل سبحانه وتعالى : ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 126 – 128]،فالحقُّ سبحانه وتعالى يَنهى رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يكون في ضيقٍ من مكْر الكفَّار؛ لأنَّ الذي يَضيق بأمرٍ ، فهو لا يجد في مجال فكرِه وبدائله ما يَخرج به من هذا الضيق، إنَّما الذي يَعرف أنَّ له منفذًا ومخرجًا فلا يكون في ضيق ،فالمعنى: لا تكُ في ضيقٍ يا محمد؛ فالله معك، سيجعل لك من الضيق مخرجًا، ويردُّ على هؤلاء مكرَهم: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]. ،واليوم وفي هذا الزمان يَتكالب الأعداء وأذيالُهم على المسلمين في كلِّ مكان، وهناك ضيق يتملُّك القلب عند المسلم، ولا بدَّ أن نسمع للقرآن، وندرس الآيات، ونقف عند المواقف المماثلة في السِّيرة؛ ها هو رسولُ الله يُخاطَب من الله: ﴿ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾.، ولذلك يقال: لا كرب ولك رب، فساعةَ أن تَضيق بك الدنيا والأهل والأحباب، وتَضيق بك نفسُك، فليسعك ربُّك، ولتكن في معيَّته سبحانه؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾.[النحل: 126 – 128]،
أيها المسلمون
ليكن معلوما لديكم أن المؤمنين هم المنصورون ، مهما كانت عدة العدو وعتاده ،ومهما كان عدده وقوته وسطوته ،ومهما كان علوه أو شدة باسه، فالله سبحانه وتعالى اشد بأسا ،واشد تنكيلا ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (171) :(173) الصافات، فيا أيها الأخ المسلم : زن الأمور بميزانها الحقيقي ،ولا يغررك ما ترى من علو للباطل ،فالحق أبلج ،فانك إن فعلت ذلك انكشف لك الأمر ،وتبين لك أن قافلة الإيمان سائرة ،والمؤمنون يحدوهم إيمانهم في قافلة الخير -غير عابئين بمن نكص ،ولا بمن تخلى ،ولا بمن عادى أو تولى- هم دوما ثابتون واثقون مستيقنون ،يعلمون أن النصر مع الصبر ،وان الله تعالى معهم ،وهو أبدا لن يخذلهم ، قال الله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) البقرة (143)، وفي الصحيحين : ( أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ».والمؤمنون حين يرون البلاء ،ويعيشون الابتلاء ،يتذكرون قول الله تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (32) :(34) الانعام ، وقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (109) :(111) يوسف، ويتذكرون قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (214) البقرة ،ويذكرون قوله – جل وعلا – : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (31) محمد ، فإذا تذكروا ذلك ،زادهم الله تعالى إيمانا وتسليما ، قال الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (21) ،(22) الأحزاب ،فمما سبق يتضح لنا تدبير الله تعالى لأوليائه من المؤمنين وعنايته سبحانه وتعالى بهم وحفظه لهم ، ففي صحيح مسلم من حديث صهيب الرومي – رضي الله عنه – وهو حديث الغلام والساحر والملك وهو حديث طويل نأخذ منه موضع الشاهد وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ).فقد كفاه الله ووقاه ،ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ويحكي الله – تعالى – عن مؤمن آل فرعون قوله : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (44) ،(45) غافر) ،ويحكي الله سبحانه عن نبيه – صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام – رضي الله عنهم – أجمعين ،فقال الله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (172): (174) آل عمران .،فالقضية ليست في مخططات الأعداء وكيدهم ومكرهم ومؤامراتهم ،فهل ينتظر المسلمون من العدو خلاف ذلك ،ولكن القضية أنهم يمكرون ونحن غافلون ،القضية أنهم يتآمرون ونحن فيما بيننا متناحرون ومختلفون هم يتحدون ونحن نختلف وهم يعملون ونحن نائمون وفي الشهوات غارقون فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العاقبة للمتقين وان الله مع المتقين ، قال الله تعالى : (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (23) المائدة ،فمن قدر الله حق قدره علم أن الله لا يخلف الميعاد وان النصر آت لا محالة فلنحقق شروطه ولنعمل لتحقيقه وشرطه تحقيق التقوى والإيمان والصبر واليقين متى حققنا ذلك قلنا لأعدائنا بملء أفواهنا : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) آل عمران (119).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (13) :(17) [الطًّارق] ،فالله تعالى يمكر بمن يمكر به وبأوليائه، ويكيد بمن يكيد به أو بهم ،فما من نبي ولا أتباع نبي إلا كاد بهم أعداؤهم ومكروا بهم، وتلك سنة ماضية في القرون، يلقاها أتباع الرسل من أعدائهم، وفي هذا يقول الله تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123] ،ففي كل زمان وفي كل مكان وفي كل مدينة وفي كل قرية مجرمون يكيدون بأهل الإيمان ويمكرون بهم، ويسعون لاجتثاثهم، ويؤذونهم في دينهم، فقوم أول الرسل نوح عليه السلام مكروا به مكرا عظيما، وصفه الله تعالى بقوله :{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22]، وكُبَّاراً: مُبَالَغَةٌ في وصف المكر، أَيْ كَبِيرًا جِدًّا، وَقَدْ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْحِيلَةَ لِقَتْلِ نُوحٍ وَتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى أَذَاهُ وَأَذَى أَتْبَاعِهِ ، وفي مكر قوم صالح عليه السلام به قال الله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] ، وكان هود عليه السلام يعلم ما يدبره أعداؤه له من الكيد العظيم بسبب دعوته إلى التوحيد، وبراءته من شركهم؛ ولذا تحصن في مواجهة كيدهم بالتوكل على الله تعالى {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 – 56] ، والخليل عليه السلام كاد به قومه كيدا عظيما بسبب تحطيمه لأصنامهم، ودعوتهم إلى توحيد الله تعالى، وبلغ من كيدهم أن أصدروا حكما بحرقه وهو حي أمام الناس، فرد الله تعالى كيدهم عليه، وحفظ سبحانه نبيه عليه السلام من شرهم {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68 – 70] وفي آية أخرى {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصَّفات:98] ، والكليم موسى عليه السلام ناله من فرعون أعظم الكيد، فجمع له السحرة وخاطبهم يأمرهم أن يكيدوا بموسى عليه السلام أمام الملأ، ويسقطوا دعوته في قلوب الناس، قال فرعون كما حكى الله تعالى عنه {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[طه:64] وفي آية أخرى {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60] ،ولكن العاقبة كانت وبالا على فرعون وجنده، وقلب الله تعالى كيدهم عليهم، ورد مكرهم إليهم، فآمن سحرتهم، وخروا لله تعالى سجدا، وكسر كيد فرعون أمام ملئه ومملكته، وصدق الله تعالى حين قال {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: خسران وهلاك ، فقد أحاط به كيده، ورد عليه مكره، فخسر دنياه وآخرته، خسر سلطانه وهيبته، ومات غريقا حقيرا ذليلا، وخسارته في الآخرة أشد وأعظم ، والمسيح عليه السلام مكر به كفار بني إسرائيل، وأجمعوا على صلبه أمام الناس، فنجاه الله تعالى من كيدهم، ورد مكرهم عليهم، وألقى شبهه على واحد منهم، ورفعه إليه عزيزا كريما، وفي مكرهم بعيسى قال الله تعالى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 54- 55].
وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد مكر به المشركون واليهود والمنافقون، وأجمعوا كيدهم ضده، فحاولوا قتله أكثر من مره، وسموه وسحروه وأخرجوه، وعذبوا أتباعه، وصدوا عن دعوته، وما تركوا مكرا إلا مكروه، ولا كيدا إلا فعلوه، وفي هذا يقول الله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وأمره الله تعالى أن يتحداهم ومكرهم، وأن يعلن توكله عليه سبحانه وتعالى {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 195-196] ، وكان عاقبة أولئك المتآمرين من صناديد مكة الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو ليحبسوه أو ليخرجوه أن الله تعالى مكر بهم، ورد عليهم كيدهم، فجرهم إلى بدر ليصرعوا فيها {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ} [الطُّور:42] قال البغوي في معناها: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً: أي: مَكْرًا بِكَ لِيُهْلِكُوكَ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، أَيْ: هُمُ الْمَجْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَيَحِيقُ مَكْرُهُمْ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
فجميع الرسل عليهم السلام قد مكر بهم أقوامهم، وكادوا بهم، ونال أولى العزم منهم أشد الكيد والمكر؛ لأن الأصل في الكفار والمنافقين أنهم يكيدون بالمؤمنين، ويمكرون ضدهم، فإذا وجد ذلك الكيد والمكر علم أن الدعوة دعوة حق؛ لأن الأعداء لم يرضوا عنها، ويريدون اجتثاثها ،وإذا علم المسلمون أن مكر الكفار والمنافقين بالمؤمنين سنة ماضية إلى يوم القيامة فعلى المؤمنين أن لا يجزعوا منه ولا يخافوا {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] ولا يتنازلوا عن شيء من دينهم لاتقائه، بل يواجهونه بالتوكل على الله تعالى، والاعتصام به، واجتماعهم على كلمة سواء؛ فإن كيد الكفار ومكرهم لا يمضي في المؤمنين إلا في حال اختلافهم وفرقتهم وتمزقهم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
الدعاء