خطبة عن (أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)
يناير 9, 2025خطبة عن (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا)
يناير 11, 2025الخطبة الأولى ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (21) يوسف
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم ،نتلو هذه الآية ،ونتدبرها ،ونتفهم معانيها، ونغوص في بحار مراميها ،ونجمع من لآلئها، ونرتشف من رحيقها المختوم ،مع قوله تعالى :(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (21) يوسف ،فالله -تعالى- عزيز غالب على أمره، لا يُمانـَع ولا يُغالَب؛ فإذا أراد شيئًا فلا يُرَد؛ لأن الأمر كله لله، فالخلق خلقه ،والملك ملكه ،قال سبحانه :(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)، وقال تعالى :(بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا) (الرعد:31)، فما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وأمره نافذ، وحكمه ماض، وقضاؤه لا يرد، فلا معقب لما حكم، ولا مبطل لما أمر، ولا مؤخر لما عجل ،ولا معجل لما أخر، ولا ممسك لما أرسل، ولا مرسل لما أمسك، ولا ناصر لمن خذل، ولا خاذل لمن نصر، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لقلة اليقين، وضعف الإيمان، وعدم التدبر لآيات الله وسننه في الكون والآفاق، وعبر التاريخ، وقيام الدول وسقوطها، مع أَن المتَأَمل في أحوال الدُّنْيا، وتقلب أحداثها، يتيقن أن الأمر كله لله، وأنه إذا جاء أمر الله بطلت كل حيلة، وخسأ كل معاند، وقُضي بالحق، وخسر هنالك المبطلون، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين ، فمن توكل على الله كفاه ،ومن اعتصم به نجاه ،ومن لجأ إليه آواه ،ومن طلب رضاه أرضاه ،
فنرى كثيرًا ما يريد الناس أمرًا ،ويريد الله أمرًا آخر، فيغلب الله تعالى الناس على أمره ، ويقهرهم على ما أراد ،وتتهيأ الظروف والأحوال ليقع أمر الله، وقد نزل هذا التعقيب في الآية الكريمة في سياق قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) ،في لحظة لا تظهر فيها بوضوحٍ ما دبَّره الله ليوسف من تمكينه في الأرض، فتأمل كيف كان أول ما قال يعقوب لولده يوسف عليهما السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، فلم يقصص يوسف عليهم؛ فهو الولد المعلَّم الطائع، وهم لم يحضروا قطعًا مجلس يوسف وأبيه، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، فكادوا له، ولم يغنِ حذر من قدر، فوقع ما كان يحذر يعقوب -عليه السلام، وتأمل كيف أرادوا بفعلتهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، وينفردوا بمحبته، وينزعوا حب يوسف من قلبه، ولكن :{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، لقد ظل يعقوب يحبه ،ويرجف قلبه بمحبته ، حتى بعد فقد أخيه ،فما قال إلا: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84]! فتأمل كيف كان يوسف في سويداء قلبه، وقال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، فلم ينسه، وتطاولت الأزمان والسنون {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف أرادوا أن يجعلوه في قاع الجب، فرفعه الله إلى قمة المُلك، وقال المَلِك له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] نعم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. وتأمل كيف أرادوا بيعه بيع العبيد فاشتراه من مصر عزيزها ليحيا فيها حياة الملوك وأبناء الملوك -بل ملكها هو بعد ذلك، وأرادوا بذلك إهانته فقال الذي اشتراه من مصر لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]؛ لتعلم أن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}! وتأمل كيف قالوا: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]، أي تائبين، فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب، وأصروا عليه حتى أقروا به بين يدي يوسف -عليه السلام- بعد سنين، وقالوا لأبيهم: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97].
وتأمل كيف كادت به امرأة العزيز، وغلقت الأبواب، وطلبت وقت غيبة العزيز؛ ليبعد ذلك عن علمه وعلم الناس، ولكن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، كشف الأمر وهتك الستر: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]، وشاع الأمر حتى {قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30]؛ لتعلم أن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. وتأمل كيف ابتدرته بالكلام بين يدي العزيز؛ لتغلبه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}؛ فأظهر الله براءته بشهادة شاهد من أهلها حتى استقر الحق في نفس العزيز، فقال لها: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف كادت به هي والنسوة، وتعالت صيحتها وهي تقول: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، فأرادت إدخال الوحشة عليه بالسجن؛ فآنس الله وحشته بذكره لربه وإحسانه للخلق {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. وقالت: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} فغلب أمر الله، وقال المَلِك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]، فأرادت إذلاله -عليه السلام؛ فأعزه الله، وجعل أقوات الخلق بين يديه! {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف دبر يوسف -عليه السلام- أن يخلص من السجن فطلب من ساقي الخمر أن يذكر شأنه للمَلِك فغلب أمر الله تعالى؛ إذ أراد أن يمكث يوسف في السجن بضع سنين، فأنسى الشيطانُ الساقي ذكر قصة يوسف للملك؛ فلبث يوسف في السجن بضع سنين {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف دبر يوسف شأن نفسه ليخرج من السجن في أول الأمر، ولكن أراد الله ألا يكون لأحد عليه منة، وأن يعلي قدره جزاء إحسانه؛ فأرى اللهُ الملكَ الرؤيا ليخرج يوسف مطلوبًا لا طالبًا، مرغوبًا لا راغبًا، ويقول الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف حاول الساقي إخفاء أنها رؤيا الملك فقال: {أَفْتِنَا} [يوسف:46]، ولم يقل: أفتِ الملك، وقال: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} [يوسف:46]، ولم يقل: إلى الملك، حتى بادي الأمر قال:{فَأَرْسِلُونِ}، ولم يذكر جهة إرساله فتكتم قبل خروجه وحين جاء يوسف، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، ففهم الملك وكشف الله الأمر له، وما نفع هذا الرجل ما فعل، وكان حقه أن يحسن لمن أحسن إليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف أراد يعقوب -عليه السلام- حفظ أولاده أن يصيبهم أذى فقال: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67]، وهو يعلم أنه لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد فعلوا {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [يوسف:68]، ولكن غلب أمر الله ففقدوا واحدًا منهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف صنع الإخوة واستعدوا لبذل واحد منهم مكان أخيهم، ولكن غلب أمر الله، وما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله -وقد شاء، فغلب أمر الله {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل بعد هذا كله كيف كان تدبير الله ليوسف أن ينقل من كنف بيت النبوة إلى بلاط الملك والسياسة؛ ليكون هذا هو محل دعوته، ومكان عمله {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وفي هذا كله… تأمل حفظ الله لأهل مصر! وكيف أخرج لهم من الشام يوسف -عليه السلام-؛ ليدبر لهم شأنهم في السنين العجاف؛ ولتبقى مصر سلة الغلال وخزانة الدنيا، تأتيها الناس لتطلب ميرتها منها، وما ذلك إلا بتدبير الله لها {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وتأمل كيف كان قدر الله لبني يعقوب -بني إسرائيل- أن يأتوا إلى مصر ليستوطنوها، لتبدأ دورة أخرى في حياة البشر، ليأتي بعد ذلك فرعون فيستعبدهم، ثم يبعث الله موسى -عليه السلام؛ ليستنقذهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}؛ لتعلم بعد هذه الكلمات : أن الله عزيز؛ إذا أراد شيئًا وأراد كل الخلق شيئًا؛ كان ما أراد الله، ولا مغالب لما أراد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
فلا تكن بعد هذا كله ممن قال الله فيهم في آخر السورة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]
أيها المسلمون
وفي قول الله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21) ،فلو تتبعنا مسار التاريخ ،ومسيرة الإنسان ،لوجدنا أن هذه الحقيقة لا تشذ أبداً، ولا تتخلف مطلقاً، فالله غالب على أمره، لا يقع في ملكه إلا ما يريد، والعباد -بمن فيهم الطواغيت المتجبرون- أضعف من الذباب، قال الله تعالى :{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } (الحج:73)، وهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحداً إلا بأمر الله ،وهذه الانتكاسات في حياة البشرية، لن يكتب لها البقاء، ولن يكون إلا ما يريده الله سبحانه من إعزاز دينه، ونصره عباده، قال تعالى : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (التوبة:32)، وقال تعالى : {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (الصافات:173)، فأمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب.
والإنسان حينما ينسى قدره وضعفه، وينسى قوة ربه وخالقه وينسى تلك القاعدة الإلهية التي وضعها الله في كتابه بقوله تعالى:{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف :21) لقد كان قتل فرعون للأطفال بسبب خوفه أن يولد طفلٌ من بني إسرائيل يكون سبباً في زوال ملكه!. فيرسل العليم العظيم له ذلك الطفل يسعى ويدخل قصره في تابوت خشبي، فيأخذه فرعون ولا يقتله لأنه جاهل حقير لا يعلم أن هذا هو الذي سيذهب ملكه على يديه، قال الله تعالى : {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص :8).{…وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
ليس هذا فحسب ،بل يجند فرعون جنوده لخدمة الطفل يبحثون له عن مرضعة ترضعه، فيفرض ذلك الطفل الرضيع على الطاغية الكبير أن لا ترضعه إلا أمه، فلا يُقْبِل على ثدي مرضع حتى تتدخل أخته التي كانت تتابع أمر أخيها دون أن يعلموا أنها أخته فتقول:{..هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ..} (طـه :40).
فما أشد عناية الله بعباده الصالحين؛ فانظر أخي : فكأنك ترى أم موسى ترضع ولدها قريرة العين ،وتأخذ على ذلك أجراً من الخزينة الفرعونية ،والأمهات يبكين أولادهن الذين قتلهم ويقتلهم فرعون وجنوده، فلا إله إلا الله ، فما أعظمك يا الله {…وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
ثم يغذي فرعون ذلك الطفل بعد فطامه بأطايب الطعام والشراب ،ويلبسه أفضل اللباس؛ وما شعر للحظة واحدة أنه يغذي عدوه الذي سيذهب ملكه على يديه، فأين تدبيره؟. وأين احتياطاته التي اتخذها لعدم زوال ملكه؟. لكنها الغفلة عن قاعدة:{…وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
لقد أراد الله لذلك الطفل موسى أن ينشأ في داخل القصر الفرعوني ليرى الظلم الذي يلحق ببني إسرائيل، ثم أراد الله له بعد أن تكاملت قوته وشبابه أن يمر بمرحلة تربوية أخرى جديدة لتصنع منه نبياً رسولاً؛ فعاش مرحلة الخوف والتشرد بعد قتل الفرعوني وهروبه إلى مدين، فكانت أول خطوة أن ساعد الفتاتين ثم لما اختلا بنفسه نظر فإذا هو بعد العز والشبع والنعمة أصبح خائفاً طريداً جائعاً فرفع يديه يطرق أبواب السماء مبتهلاً إلى ربه قائلاً:{… رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}( القصص :24).فجاءته الإجابة الفورية:{…إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لنَا}،{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ( القصص 25).{..إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ…} (القصص 27).
اللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ : مال ،وأمن ،وطمأنينة، وزواج، وعمل ،فليس الرزق بيد فرعون ، وليست النعمة بيد فرعون ، فـ:{..اللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
ثم بعد أن تنتهي المدة ويقرر موسى عليه السلام العودة لوطنه يكون الاصطفاء{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طـه 13) .وتكون الرسالة والتكليف:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ( طه:24) وبيان المنهج:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ( طـه:44). والتأييد:{..لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ( طه:46).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثم عاد موسى إلى فرعون فما قتله غيلة وما فجره ،وإنما اتبع منهج الأنبياء والرسل السديد؛ واستمع معي كأنك تسمع موسى وهو يقيم عليه الحجج العقلية والمادية، وكان آخرُ ما استقر رأيُ فرعون في موسى أنه ساحر وطلب منه أن يحدد موعداً للمناظرة :{.. فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى} (طه :58). فأجابهم بلهجة الواثق من نصر ربه : {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ( طه:59).
فجمع فرعون جهابذة السحر في زمانه ،الذين جاءوا معهم بسحر عظيم ،فلما رأى السحرة حقيقة آية موسى لم يتمالكوا وهم العالمون ببواطن السحر إلا أن يخروا سجداً أمام العظمة الإلهية ليعلنوا إيمانهم أمام تلك الجموع العظيمة:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (طه:70). أنظر وتأمل معي للمشهد كأنك تراه والسحرة سجداً لله فيهتز بدنك ويقشعر جلدك من هول المنظر ويطرب فؤادك لذاك النصر الذي حققه الله لموسى عليه السلام
{..وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. فلما عجز فرعون اتبع طريقة العاجزين ألا وهي قتل موسى ومن معه، وحشد لذلك جيشاً عظيماً، فانظر انظر هناك ها هو البحر قد تجمدت ذراته وشق لموسى ومن معه طريقاً يبساً حتى نجو، ثم انظر لقد تحول البحر إلى وحش كاسر ابتلع فرعون وجيشه العظيم، فها هي صرخات استغاثتهم تصم الآذان، فلا إله إلا الله ، فما أهون الخلق على الله متى حاربوا دين الله ودعوة الله، قال الله تعالى :{..حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (90) :(92) يونس.
أيها المسلمون
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]..إنه الافتقار والاحتياج إلى الله الغالب.. تجعل العبد القانت مرتفعاً في المطالب والمناقب، ويرى على شدة الظلمة الفرج يلوح، ويشاهد بأنسه بربه انبلاج الفجر بشذاه يفوح، وقد ظن المشركون أنهم غلبوا على أمرهم، لما منعوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- من عمرة الحديبية، فغلب أمر الله تعالى حتى سمى ذلك المنع فتحاً مبيناً، ومكن للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- به تمكيناً، إنها قدرة الله الغالبة، لا تقف في طريقها قوة، وهو سبحانه وتعالى مالكُ أمره، فلا يخيب ولا يتوقف ولا يضل،
وقد ربى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه على هذه العظمة الإيمانية في الشعور بتدبير الله للكون، ومن أشهر المواقف ما رواه أحمد والبزار عن عُبيد بن رِفاعة الزرقي عن أبيه -رضي الله عنه- قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِىَ عَلَى رَبِّى ». فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً فَقَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِى لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ اللَّهُمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رَجْزَكَ وَعَذَابَكَ اللَّهُمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ » ،إنها رحلة اليقين العظيمة في ثنايا القانون الثابت الذي لا يتغير -لو كان المترددون يفقهون-.. قانون: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
الدعاء