خطبة حول حديث ( الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَاللِّسَانُ يَزْنِى وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلاَنِ يَزْنِيَانِ )
سبتمبر 13, 2025الخطبة الأولى ( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ ».
إخوة الإسلام
هذا الحديث النبوي الكريم هو من أدعية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المأثورة ، ومن جوامع كلمه، فهو يتضمن الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، فقد دعا صلى الله عليه وسلم أولاً بصلاح الدين الذي هو رأس الأمر وزمامه، ثم دعا بصلاح الحال في الدنيا التي يعيش فيها ،وعليها يترتب المصير في الآخرة، ثم دعا صلى الله عليه وسلم بصلاح الآخرة التي إليها المصير والمعاد، ثم دعا الله تعالى أن تكون الحياة الدنيا سبباً في زيادة الخير ،ورفع الدرجات، وأن يكون الموت -إذا حان الأجل- سبباً وخلاصاً من شرور الدنيا ،وآفاتها وأكدارها، وبهذا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف ندعو إذا دعونا الله تعالى، وأن ندعو بخيري الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) {البقرة:201}.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث 🙁اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) ،فالدعاء بإصلاح الدين هو أعظم المقاصد، ومن أهم المطالب؛ لأن العبد إذا فسد دينه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة، وسؤال اللَّه تعالى إصلاح الدين معناه : أن يُوفق إلى التمسك بالكتاب والسنة ،وفق هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين في كل الأمور، وذلك يقوم على ركنين عظيمين: أولهما : الإخلاص للَّه وحده في كل عبادة ،وثانيهما :والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون (خالصاً صواباً). فإن التمسك بهذين الأصلين عصمة للعبد من الشرور كلها، أسبابها، ونتائجها ونهاياتها، ومن مضلات الفتن، والمحن, والضلالات التي تضيع الدين والدنيا . وقوله صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي)، أي أني أعتصم به من النار، فإنه لا ينجي الإنسان من عذاب الله تعالى إلا تمسكه بدينه، فهو يعتصم به من النار، ويعتصم به أيضا من الشر والفتن وجميع أموره، لأنه إذا فسد الدين، فلم يصلح للإنسان دين ولا دنيا، فهناك تلازم وترابط وثيق بين إصلاح الدين وإصلاح الدنيا وإصلاح الآخرة، فلا صلاح للدنيا بدون إصلاح الدين، ولا صلاح للدين بدون صلاح الدنيا، ولا صلاح للآخرة بدونهما ،قال الله تعالى :{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30] ،فبيَّن سبحانه أنه يُسعدُ المحسنَ بإحسانه في الدنيا وفى الآخرة، كما أخبر سبحانه وتعالى أنه يُشقى المسيءَ بإساءته في الدنيا والآخرة ،فقال الله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] فقوله تعالى :{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ، وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَج لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّم ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ، وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قلبه فِي قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( َجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي )) رواه البخاري ،ويؤكد هذا المعنى أيضا ما جاء في تفسير قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}. [الأعراف: 152] ،وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رحمه الله-: مَا مِنْ مُبْتَدِعٍ إِلَّا وَتَجِدُ فَوْقَ رَأْسِهِ ذِلَّةٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رحمه الله-: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. وقال ابن تيمية -رحمه الله-: فالعاصي يناله من الذلة والكبت بحسب معصيته ، وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُمْ – يعنى العصاة- وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ.
أيها المسلمون
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي) : أي أصلح لي عيشي في هذه الدار الفانية القصيرة، بأن أُعْطَى الكفاف والصلاح، فيما أحتاج إليه، وأن يكون حالي فيها حالاً مُعيناً على طاعتك، وعبادتك ،وعلى الوجه الذي ترضاه عني، وأسألك صلاح الأهل، من الزوجة الصالحة، والذرية المؤمنة ،والمسكن الهنيء، والحياة الآمنة الطيبة ،ومنشأ ذلك كله أن يصلح العبد ما بينه وبين ربه تبارك وتعالى، باجتناب السيئات ،وعمل الصالحات، قال الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ،وقد ذكر (الماوردي) عدة أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُ وأسس إصلاح الدنيا ، ومن أهمها: (دِينٌ مُتَّبَعٌ وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ وَعَدْلٌ شَامِلٌ وَأَمْنٌ عَامٌّ ) ،فالدين هو الأساس الأول والأعظم في إصلاح الدنيا ،قال الماوردي -رحمه الله-: الدِّينَ أَقْوَى قَاعِدَةٍ فِي صَلَاحِ الدُّنْيَا وَاسْتِقَامَتِهَا ، وَأَجْدَى الْأُمُورَ نَفْعًا فِي انْتِظَامِهَا وَسَلَامَتِهَا) ، وفي صحيح مسلم : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ».، وفي سنن الترمذي : (عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « طُوبَى لِمَنْ هُدِىَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ »، أما الأساس الثاني من أسس صلاح الدنيا : فهو السلطان :قال ابن جماعة -رحمه الله-: (الْخلقُ لَا تصلح أَحْوَالهم إِلَّا بسُلْطَان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم) ، وقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان -رضي الله عنه-: (إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآن) ، وقال ابن تيمية -رحمه الله-: (يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ؛ بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ) ،فالدين والسلطان متلازمان لا قيام لأحدهما بدون الآخر، فإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ ، أما الأساس الثالث من أسس صلاح الدنيا :العدل ،فالمجتمع الفاضل يقوم على القضاء العادل ، ومن العدل أن يوفي المسلم الميزان والكيل، ويزن بالعدل، ولا ينقص الناس حقوقهم ، ومن العدل أن يعدل المسلم مع زوجته فيعطيها حقوقها، وإذا كان له أكثر من زوجة فإنه يعدل بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والنفقة، والمسلم يعد بين أولاده ، فيسوِّي بين أولاده حتى في القُبْلَة، فلا يُفَضِّل بعضهم بهدية أو عطاء، حتى لا يكره بعضهم بعضًا، وحتى لا تُوقَد بينهم نار العداوة والبغضاء، والدل يكون مع كل الناس كافرهم ومؤمنهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، أبيضهم وأسودهم، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، فعندما يتوفر العدل في مجتمع، فإنه يهيئ المناخ المناسب لإيجاد الشاب العابد، والرجل المعلق بالمساجد، والمحب في الله الواحد، يوفر المناخ للخائفين من الله، والمتصدقين في الله، والذاكرين لله ،ومن الأسس لصلاح الدنيا :أساس الأمن : فالأمن تَطْمَئِنَّ إلَيْهِ النُّفُوسُ وَتَنْتَشِرُ فِيهِ الْهِمَمُ. فَلَيْسَ لِخَائِفٍ رَاحَةٌ وَلَا لِحَاذِرٍ طُمَأْنِينَةٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْأَمْنُ أَأَنْ عَيَشٍ، وٍالْعَدْلُ أَقْوَي جَيْشٍ؛ لْنَّ الْخَوْفَ يَقْبِضُ النَّاسَ عَنْ مَصَالِحِهِمْ )
أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي): أي وفّقني للعمل الصالح الذي يرضيك عني، وملازمة طاعتك، والتوفيق إلى حسن الخاتمة حتى رجوعي إليك يوم القيامة، فأفوز بالجنان، وإصلاح الآخرة يكون بشيئين، بالنجاة من النار، وبدخول الجنة، فإنه إذا حصل للإنسان هذان الأمران، فهذا هو إصلاح الآخرة، وسؤال العبد ربه صلاح آخرته يشتمل على ثلاثة أركان وهي :التوفيق لفعل الطاعات والتسديد في فعلها ،والمداومة على ذلك حتى يلاقاه ، والتوفيق لحسن الخاتمة
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ) : أي اجعل يا اللَّه الحياة سبباً في زيادة كل خير يرضيك عني من العبادة والطاعة ،ويُفهم من ذلك أن طول عمر المسلم زيادة في الأعمال الصالحة الرافعة للدرجات العالية في الدار الآخرة، ففي سنن الترمذي 🙁عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ قَالَ « مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ». فقوله صلى الله عليه وسلم: (وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ) منبه على ان من سعادة العبد في الحياة الدنيا طول العمر مع صلاح العمل، فهو يتقرب الى الله تعالى والدار الآخرة بالأعمال الصالحة الى أن يأتيه الأجل، فكل يوم يعمره العبد الصالح من هذه الأيام؛ فانه يتقرب فيه إلى ربه بكثرة الصلاة والصيام، كما أخرج أحمد وابن ماجه : (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ إِسْلاَمُهُمَا جَمِيعاً وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَاداً مِنْ صَاحِبِهِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّىَ قَالَ طَلْحَةُ فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّى عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِهِمَا وَقَدْ خَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّىَ الآخِرَ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَا إِلَىَّ فَقَالاَ لِي ارْجِعْ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ. فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَاداً ثُمَّ اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَخَلَ هَذَا الْجَنَّةَ قَبْلَهُ. فَقَالَ « أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً ». قَالُوا بَلَى. « وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ » قَالُوا بَلَى. « وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ » قَالُوا بَلَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ». فطول العمر مع حسن العمل مما يحمد عليه الله تعالى لأنه فضل منه ومنة، فالعبد يحمد ربه على صالح عمله الذي هدي اليه فكان سببا لدخول الجنة، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (42) ، (43) الاعراف
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) : أي اجعل الموت راحة لي من كل هموم الدنيا وغمومها ، ومن الفتن ومن المحن، ومن الابتلاءات بالمعصية والغفلة, ويُفهم من ذلك أن المؤمن يستريح غاية الراحة بالموت ، ويسلم السلامة الكاملة عند خروجه من هذه الدار، كما جاء في الصحيحين: أن رسول اللَّهِ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ:(مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ)، وكأن المعنى: فأمتني إذا كان في موتي مصلحة، وهي الراحة من جميع الفتن، كما جاء في الحديث الذي رواه الامام مالك في الموطأ 🙁عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ »، وقيل للإمام أحمد -رحمه الله-: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة. وقال ابن القيم -رحمه الله-: ليس للعابدين مستراحٌ إلا تحتَ شجرة طوبى، ولا للمحبين قرارٌ إلا يوم المزيد، فمثلْ لقلبك الاستراحةَ تحت شجرة طوبى يَهنْ عليك النصب، واستحضر يوم المزيد يهن عليك ما تتحمل من أجله. وفي الحديث دلالة على أنه يجوز الدعاء بالموت إذا خاف المؤمن على نفسه الفتنة ، وحاجة العبد الى ان يعافيه الله تعالى مما يفسد دينه من الشبهات، ويسلمه في دنياه فلا يبتلى بما يعكر عليه صفوها من ادمان الشهوات، ويعصمه في آخرته فلا يوافيه الاجل وهو هائم بأودية الشرور والغفلات. فعلى العبد ان يعتصم باليقين عن الوقوع في الشبهات، وأن يتترس بدرع الصبر ليقي نفسه من سهام الشهوات، فلا يتمنين الموت لضعف اليقين او قلة الصبر، فان كان متمنيا لا محالة فليفوض الى الله الامر، كما اخرج البخاري ومسلم : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن أبرز فوائد وأحكام هذا الحديث النبوي الكريم : أولا: استحباب الدعاء بهذه الكلمات الجامعة، قال القرطبي رحمه الله: «هذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة، والدين والدنيا، فحق على كل سامع له أن يحفظه، ويدعو به آناء الليل وآناء النهار، لعل الإنسان يوافق ساعة إجابة فيحصل على خير الدنيا والآخرة». ثانيا: إنما كان هذا الدعاء من الأدعية الجامعة، لأن الداعي به يسأل ربه أن يجعل عمره مصروفا في طاعة الله، وأن يُصلح له أمر دينه ودنياه، وأن يدخله الجنة، ويعيذه من النار، ويكفيه شر الفتن. ثالثا: أن الدين عصمة للإنسان يمنعه من الأعمال السيئة، والأخلاق الرذيلة، وهو عصمة له في الآخرة يُزَحزح به عن النار ويُدخل به الجنة. رابعا: دل هذا الحديث على أنه لا بأس أن يسأل الإنسان ربه إصلاح معاشه، لقوله (وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي) لأن الإنسان إذا صلُح معاشه كان عونا له على طاعة الله عز وجل، أما إذا فسد معاشه فربما انشغل بتحصيل المعاش عن طاعة الله عز وجل. خامسا: أن الآخرة هي معاد الإنسان لقوله (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) وبهذا يتبين خطأ قول بعض الناس (شُيِّع فلانٌ إلى مثواه الأخير) فإن القبر ليس هو المثوى الأخير، وإنما من بعده بعث ونشور وجزاء وحساب وجنة ونار، بل إن هذه المقولة تُوهم إنكار البعث، وإن كان قائلها قد لا يقصد ذلك، لكنها توهم هذا المعنى، فينبغي البعد عنها. سادسا: يُستحب للمسلم أن يسأل الله تعالى أن يجعل حياته زيادة في الخيرات، لقوله (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) وهل يستحب الدعاء بطول العمر؟ يقول: أطال الله عمرك، كره هذا بعض أهل العلم، والصحيح أنه لا يُكره ذلك بشرط تقييد ذلك بطاعة الله، لأن طول العمر مع طاعة الله تعالى نعمة، فإنه يكون زيادة للإنسان في العمل الصالح، يزيد به أعمالا صالحة، ويقربه من الله تعالى ذلك العمل الصالح، أما طول العمر مع سوء العمل نقمة على الإنسان، لأنه يكون سببا لكثرة ذنوبه وسيئاته، ولهذا ينبغي عند الدعاء بطول العمر أن يقيد ذلك بطاعته: أطال الله عمرك على طاعته. ومما يدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بطول العمر، فأطال الله عمره حتى جاوز المائة عام، لكن ينبغي تقييد ذلك بأن يكون على طاعة الله. سابعا: أن الموت قد يكون راحة للإنسان من الشرور والفتن، لقوله (واجعل الموت راحة لي من كل شر) ولذلك يُستحب الدعاء بهذا: (واجعل الموت راحة لي من كل شر) ومثله (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)، وهذا ليس من تمني الموت، لأن الداعي لم يقل: يا رب أمتني، إنما قال (اجعل الموت راحة لي من كل شر)، فهو يسأل الله تعالى أنه إذا كان شرور وفتن مقبلة أن يميته الله قبل ذلك.
الدعاء