خطبة عن (قِصَّةُ مُوسَىٰ مَعَ الخَضِر: فِقْهُ الاِبْتِلَاءِ وَحِكْمَةُ القَضَاءِ)
أكتوبر 9, 2025الخطبة الأولى ( وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه 🙁عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- « اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ »، وفي رواية له :« إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لاَ يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ وَلاَ يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ ».
إخوة الإسلام
في هذا الحديث النبوي الكريم يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأفضل في الدعاء والمسألة، وسؤال ما ينفع في الدار الآخرة, ومن أهمها سؤال المعافاة من عذاب النار وعذاب القبر؛ فالدعاء بالنجاة من عذاب النار عبادة أمرنا الله بها، وأما الدعاء بطول الأجل فليس عبادة، وإن كان جائزًا ،وفي هذا الحديث : سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّ حَبيبةَ زَوجَه وهيَ تَدعو: (اللَّهمَّ مَتِّعْني بزَوجِي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبِأبي أَبي سُفيانَ، وبأَخِي مُعاويةَ) ،أي: أَبْقِهم أَحياءً حتَّى أَتمتَّعَ بِهم؛ فَقال لَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّكِ سَألتِ اللهَ “لآجالٍ مَضروبةٍ)، أي: لِأَعمارٍ مُقرَّرةٍ، “وآثارٍ مَوطوءَةٍ”، وهي ما يَخلُفُ مِن بَعدِ الإنسانِ منَ الأَعمالِ الَّتي عَمِلها، وأَرزاقٍ مَقسومةٍ ومُقدَّرةٍ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لا يُعجِّلُ شَيئًا مِنها قبلَ “حِلِّه” أي: قبلَ مَجيءِ وَقتِه وحينِه ،وَلا يُؤَخِّرُ مِنها شيئًا بعدَ حِلِّه، ولَو سَألتِ اللهَ أن يُعافيَك مِن عذابٍ في النَّارِ، وعَذابٍ في القبرِ، لكانَ خيرًا لكِ؛ فالمسلم يؤمن بأن الآجال محدودة ،وأن كل انسان له أجلٌ محدود ،وأمدٌ ممدود ،ينتهي إليه لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وقد علم الله تعالى: جميع ذلك بعلمه الذي هو صفته، وجرى به القلم بأمره يوم خلقه، ثم كتبه الملك على كل أحد في بطن أمه بأمر ربه عز وجل عند تخليق النطفة ،فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ،ولا يغير ولا يبدل عما سبق به علم الله تعالى ،وجرى به قضاؤه وقدره، وأنَّ كُلَّ إنسانٍ مات أو قتل أو حرق أو غرق أو بأَيِّ حتف هلك بأجله لم يستأخر عنه ولم يستقدم طرفة عين، وأن ذلك السبب الذي كان هو فيه حتفه هو الذي قدره الله تعالى عليه ،وقضاه عليه ،وأمضاه فيه ،ولم يكن له بد منه ،ولا محيص عنه ،ولا مفر له ولا مهرب ولا فكاك ولا خلاص، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ) [آل عمران:145] ،وقال الله تعالى: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران: 154] ،وقال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء:78] وقال الله تعالى: (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:61 – 62] وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) [فاطر:11] يقول:(ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله تعالى: (وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر:11] يقول كل ذلك في كتاب عنده) ،وأما حديث أنس في (الصحيحين) وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سَرَّهُ أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) فإنه يفسر بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه عند ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى: قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: (إنَّ الله تعالى: لا يؤخِّر نفساً إذا جاء أجلها، وإنّما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادةُ العمر) ،وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق:» إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُوْنُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُوْنُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ » ،ففي هذا الحديث قضايا من أمور الغيب يجب الإِيمان بها، واليقين الجازم بصدقها، ومنها : الأجل والرزق. فقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله كتب الآجال والأرزاق، فلا يزيد فيهما حرص حريص، ولا يردهما كراهية كاره. وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:» كَتَبَ اللهُ مَقَادِيْرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِيْنَ أَلفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» ،وقد ظن بعض المنافقين أن تأخرهم عن الجهاد في سبيل الله وجبنهم عن ملاقاة الأعداء سيكون مانعًا لهم من الموت، فقطع الله تلك الآمال الكاذبة بقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، ومثل الأجل الرزق، فإن ما كُتب للعبد منه سيناله لا محالة، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. وقال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22 – 23]. وروى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أبي أمامة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِنَّ رُوْحَ القُدُسِ نَفَثَ فِيْ رُوْعِي: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوْتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوْا فِيْ الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ» ،فما كُتب للعبد من رزق وأجل لا بد أن يستكمله قبل أن يموت. وروى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث جابر – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ المَوْتُ» ،فالله سبحانه وتعالى حاشاه أن يحرم أحدًا من الرزق ،لكنه سبحانه يدعوك إلى الأخذ بأسباب الرزق، مع التوكل عليه، والسعي لأجله، حركة وإيمانًا ،فلا تخش ضياع رزق، والله قد كفله لك قبل أن تولد.
أيها المسلمون
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ) ،فعلى المؤمن أن يسأل الله أن يعيذه ويسلمه وينجيه من عذاب النار وعذاب القبر ،وفي صحيح مسلم (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ : ( قُولُوا : اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ) ،وفيه أيضا : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ » ، فالاستعاذة من عذاب جهنم في التشهد الأخير مشروعة ،والتعوذ: هو اعتصامٌ بالله والالتجاء إليه ،لطلب النجاة والسلامة والخلاص من المؤلم الذي يخشى المرء منه ،ولهذا فإن مدار الاستعاذات المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام كلها تعوذٌ من المؤلم أو من الأسباب المفضية إلى الإيلام ،وإذا تأملت في هذه التعوذات فإن التعوذ من النار وعذاب القبر تعوذٌ من أعظم المؤلمات ،والتعوذ بالله من النار يتناول التعوذ من الأسباب المفضية إليها ،كما جاء في الدعاء الآخر ، كما في سنن ابن ماجه : (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ « ..اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ .. ».، ففي تعوذك بالله من النار تعوذ بالله من أن تعمل السوء الذي يفضي إلى النار ، وأن يوفقك الله إلى التوبة من السوء الذي عملته وهو يفضي بعامله إلى النار
وكذلك التعوذ بالله من عذاب القبر؛ فهو تعوذٌ بالله من أمر عظيم مفقِع ،فإن الناس يعذبون في قبورهم بسبب جرائمهم وآثامهم، حتى إن عذاب القبر يتناول فيما يتناول عصاة الموحدين ، ففي الصحيحين : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ « أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ » ، فمن المقرر عقيدةً أن عذاب القبر ونعيمه حقٌّ؛ فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ»، وهذا ثابت في الإسلام بأدلة متكاثرة، منها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رواه الترمذي؛ فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» دليل على أن عذاب القبر ثابت ، والقبر أول منازل الآخرة، وهو إمَّا نعيمٌ وإمَّا عذاب، وكان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ دومًا من عذاب القبر؛ فقد روى البخاري عنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ المَدِينَةِ، فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ عَجُوزَيْنِ، وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: “صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا”. فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)، فلْنوقن أننا قريبًا سنكون في قبورنا في حاجة للأمن به، فلْنكثر من الاستعاذة من عذابه، عسى الله أن يرحمنا ،ويحمينا من عذاب القبر ،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومما ينجي المرء من عذاب القبر أن يكون المسلم مستعداً للموت ،مشمراً له ،حتى إذا فاجأه الموت لم يعض أصْبعَ الندم ،ومن الاستعداد للموت الإسراع في التوبة ،وقضاء الحقوق ، والإكثار من الأعمال الصالحة ،فإن الإيمان والصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وذكر الله عز وجل وغيرها من صالح الأعمال تحفظ العبد المؤمن ، وبها يجعل الله له من كل هَمّ فرجاً ،ومن كل ضيق مخرجاً ،وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأعمال الصالحة تحرس الإنسان في قبره، ففي الحديث الذي رواه أبو حاتم في صحيحه ،وابن حبان في صحيحه : (عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتي من قبل رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل)، فالاستقامة على أمر الله تعالى سبب للنجاة من عذاب القبر ،قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصِّلت:30] ،ومن الأعمال الصالحة التي تنجي من عذاب القبر: الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لقوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصَّف:11] والعذاب الأليم في الآية عام؛ فتكون النجاة بالجهاد من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر ومن عذاب يوم القيامة ، والشهادة في سبيل الله تعالى سبب للأمن من عذاب القبر، فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن للشهيد خصالا عند الله تعالى، وذكر منها: وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ. وكذلك الرباط في سبيل الله تعالى سبب للنجاة من فتنة القبر، كما في حديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ “رواه أحمد وصححه ابن حبان. كما جاء في سورة الملك أنها منجية ومانعة، تنجي من عذاب القبر، والظاهر أن ذلك لمن يكثر قراءتها، ولا سيما أنه قد جاء في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ” رواه أحمد. والموت بداءٍ في البطن سبب للنجاة من عذاب القبر، وهذا من فضل الله تعالى على المرضى؛ فإن أمراض البطن كثيرة ومؤلمة. قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ يَقْتُلُهُ بَطْنُهُ، فَلَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ” رواه أحمد. ومن أهم أسباب النجاة من عذاب القبر: الدعاء، وقد كثر تعوذ النبي عليه الصلاة والسلام من عذاب القبر، فإذا أتى العبد بكل الأسباب المنجية من عذاب القبر وفتنته كان حريا أن ينجيه الله تعالى من عذاب القبر وفتنته، وإذا قصّر في المنجيات من عذاب القبر، وأتى بأسباب العذاب فيخشى عليه من عذاب القبر، فعلى المؤمن أن يجانب ما يوبقه، ويجتهد فيما ينجيه.
الدعاء