خطبة عن (أثر الصدق في حياة المسلم)
أكتوبر 30, 2025الخطبة الأولى ( إِنَّ رَحَى الإِسْلاَمِ سَتَدُورُ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام أحمد في مسنده وصححه أحمد شاكر ،والألباني في صحيح أبي داود : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ رَحَى الإِسْلاَمِ سَتَدُورُ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ فَإِنْ يَهْلِكْ فَكَسَبِيلِ مَنْ أُهْلِكَ وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَاماً ». قَالَ :قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبِمَا مَضَى أَمْ بِمَا بَقِيَ قَالَ « بَلْ بِمَا بَقِيَ ».
إخوة الإسلام
في هذا الحَديثِ النبوي الشريف يقول النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : “تَدورُ رَحى الإسْلامِ” : والرَّحى هي الحجَرُ الَّذي تُطحَنُ عليهِ الحُبوبُ لتَصيرَ دَقيقًا، والمقصودُ برَحى الإسْلامِ قوَّتُه وشدَّتُه ومُلْكُه، وقيل: الحرْبُ والقِتالُ، والعلماء قد اختلفوا في بيان معنى دوران رحى الإسلام على قولين : القول الأول: أن المراد منه استقامة أمر الدين واستمراره ، وهذا قول الأكثرين . والقول الثاني: أن المراد منه الحرب والقتال وهذا قول الخطابي والبغوي .وقال الأكثرون : المراد بدوران رحى الإسلام استمرار أمر النبوة والخلافة ،واستقامة أمر الولاة ،وإقامة الحدود والأحكام من غير فتور ولا فطور إلى سنة خمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين من الهجرة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث مما مضى .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :”فإنْ يَهْلِكوا فسَبيلُ مَن هلَكَ”، أي:فإنْ يَهلَك المسلمون؛ بترْكِ الدِّينِ، والاختلافِ ، والمعاصي، فهذا مِثلُ مَن هلَكوا قبْلهم بتَرْكِهم دينَهم واختلافِهم ومَعاصِيهم، وقيل: فإنْ يَهلِكوا بترْكِ القِتالِ والحرْبِ فمِثلُ مَن ضلَّ قبلَهم،
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : “وإنْ يَقُم لهم دِينُهم يَقُمْ لهم سبعين عامًا”، أي: وإنْ لمْ يَهْلِكوا فبسببِ تمسُّكِهم بدِينِهم وطاعتِهم لربِّهم وعدَمِ التَّحريفِ والتَّبديلِ والتَّغييرِ، وسوف يَستقيمُ لهم أمْرُ دِينِهم سبعين عامًا، وقيل: فإنْ تمَسَّكوا بالقِتالِ والحرْبِ فسوْفَ يَستقيمُ لهم أمْرُ دِينِهم سبعين عامًا، فقيل” للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: “أممَّا بَقيَ أو ممَّا مَضى؟”، أي: هل مدَّةُ السَّبعين عامًا بقيَّةٌ للخمْسِ وثلاثين سنةً أم مُستأنفَةٌ؟ “قال”، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: “ممَّا مَضَى”، أي: بقيَّةٌ للخمسِ وثلاثين وتابعةٌ لها. فالحديث فيهِ معجِزةٌ ظاهِرةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بإخْبارِه بغيْبيَّاتٍ وقعَتْ بعْد موْتِه. وأنَّ قِيامَ دَولةِ الإسلامُ يكون بالتَّمسُّكِ بالدِّينِ والبعْدِ عن أسبابِ هلَاكِ الأمَمِ السَّابقَةِ. والعلماء متفقون على كونه إخبارا عن الفتن التي وقعت في عهد الخلفاء الراشدين وما تلاه ،ومثل هذه الأحاديث التي تتضمن إخبارا نبويا عن أمر مستقبل لا يصح الجزم بمعناها إلا بدليل، لكن يمكن أن يقال لعله ، أو أقرب ما يكون ، أو لعل المراد كذا .. ، مما يحتمله اللفظ، أما ما لا يحتمله اللفظ مثل جعلها من أحاديث آخر الزمان والتعسف في إسقاط الحديث على عام معين ـ فهو قول على الله بغير علم ولا برهان ، وتعطيل عن دلالة النص الأصلية؛ لتنزيلها على وقائع غير مرادة، ومثل هذا الحديث ما جاء في الحديث الصحيحين : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ »،فالقرون التي مضت كانت في عافية وفي خير، فصارت الفتن في المتأخرين. وفي صحيح البخاري : (عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِىٍّ قَالَ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ « اصْبِرُوا ، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ » . سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ – صلى الله عليه وسلم -) ،وهذا عام، ولكن ليس معنى ذلك أن الشر يكون في كل فرد، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود النسبة، فإن الشر في المتأخرين نسبته أكثر من نسبته في المتقدمين ، حتى يأتي الزمان الذي قبيل قيام الساعة، ولا يعرف أحد الله، ولا يذكر اسمه جل وعلا، ويتهارجون كتهارج الحمر، فهم شرار خلق الله، وعليهم تقوم الساعة.
أيها المسلمون
فحقيقةُ الأمر أنه منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بل حتى قيام الساعة، اقتضت سُنَّة الله في الأمم والحضارات بصفة عامة أن تقوم ثم تسقط، وأن تزدهر ثم تندثر، فمن سنن الله تعالى إذا ما التزمت الأمم والحضارات بشرع الله تعالى دامت وكانت في خير وسعادة، وإذا ما حادت عنه لقيت من السقوط والاندثار ما هي أهل له؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. ،وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذه السنن الكونية، فمنذ نزول الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية تأخذ بأسباب القيام فتقوم، ثم تحيد عنها فيحدث الضعف ثم السقوط، وغالب الأمر أن يكون القيام بطيئًا ومتدرجًا، وفيه كثير من الصبر والتضحية والثبات، ثم بعد ذلك يكون القيام باهرًا، ثم يحدث انتشار للدولة الإسلامية بصورة ملموسة، حتى تُفتح الدنيا على المسلمين، وهنا يصبر القليل على الدنيا وزينتها ويقع الكثيرون في الفتنة ،لذلك فقد خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تتملك الدنيا من قلوب المسلمين، وخشي أن يُفتَنوا بالدنيا ويخسروا الآخرة فيخسروا دولتهم، وكان همه أن يُدخل شعبه الجنة، لا أن يُدخله بلاد فارس، إذا كان دخول فارس على حساب دخول الجنة، وقال رضي الله عنه: وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا. ولم يعد رضي الله عنه إلى مواصلة الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين، وخاف على المسلمين الهزيمة والضياع.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوط قيام، أما ألا يُتبَع السقوطَ قيامٌ فهذا ليس من سنن الله مع المسلمين ،ولا يحدث إلا مع أمم الأرض الأخرى غير الإسلامية، تلك الأمم التي يغلب عليها سقوط واندثار لا يتبعه رجعة، حتى وإن طال أجل القيام والازدهار ،وهذه السُّنة الكونية يمثلها قوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]. وقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. ومما يُثبت سُنَّة الله هذه في الدولة الإسلامية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رواه ابو داود ،فمعنى هذا أنه سقوط، ومن بعد السقوط ارتفاع وعلوٌّ،
أيها المسلمون
وقد يتساءل المرءُ: ما هو تصنيفنا كمسلمين في هذا العصر، وفقًا للمراحل السابقة ما بين الارتفاع والهبوط، أو القيام والسقوط؟ ،فنقول : إن واقع الأمر- وكما هو واضح للعيان- أن الأمة الإسلامية تمرُّ الآن بمرحلة من مراحل السقوط؛ سقوط كبير ،وضعف شديد ،وفرقة للمسلمين، وهو سقوط مباشر لسقوط الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، وهو أمر طبيعي ودورة طبيعية من دورات التاريخ الإسلامي، وسُنَّة من سنن الله تعالى كما رأينا. إلا أن مرحلة السقوط الأخيرة هذه قد شابها أمران لم تعهدهما الدولة الإسلامية، ولم يحدثا من قبل في مراحل سقوطها المختلفة: أولها : غياب الخلافة : إذ حدث هذا ولأول مرة في التاريخ أن يُصبح المسلمون بلا دولة واحدة تجمعهم، فرغم ما كان وما يكون من السقوط والانهيار على مدى فترات الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية، إلا أنه لم تكن لتغيب صورة الخلافة عن الأذهان بحالٍ من الأحوال، منذ الدولة الأموية في القرن الأول الهجري، وحتى سقوط الخلافة العثمانية في القرن الرابع عشر الهجري؛ حيث كان الإسلام سياسيًّا (دين ودولة) طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان.، الأمر الثاني : غياب الشرع الإسلامي :فلم يكن -أيضًا- في أيٍّ من عصور السقوط السابقة للدول الإسلامية، مع ما يصل المسلمون إليه من تدنٍّ وانحدار لم يكن قطُّ يُلغى الشرع أو يغيب، نعم قد يُتجاوز أحيانًا في تطبيق بعض أجزائه، لكن لم يظهر على الإطلاق دعوة تنادي بتنحية الشرع جانبًا، وتطبيق غيره من قوانين البشر مما هو أنسب وأكثر مرونة على حسب رؤيتهم. ، ومثل هذين العاملين يجعلان من مهمة الإصلاح والتغيير أمرًا من الصعوبة بمكان، فالنّاظر في واقع الأمة اليوم يدرك تمام الإدراك أنها تمرّ بمرحلة عصيبة شديدة عليها وعلى أبنائها؛ حيث أصيبت بالتبعية والضعف والهوان والمذلة، حتى تكالب عليها أعداؤها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، فعملوا على تفريق شملها، وتمزيق وحدتها، والسيطرة على اقتصاديات دولها وأوطانها.. وللوقوف على أهم عوامل القوة في بناء الدول فلا بد أولا من ذكر الأسباب التي أدّت بنا إلى هذا الحال المُزْرِي الهزيل؛ سعيًا إلى وضع علاج واقعي لما وصلنا إليه.. أولاً: لماذا ضعُفَت أمّتنا اليوم؟ ، فقد ساهم في إضعاف الأمّة عدد من الأسباب تتلخّص في آية واحدة وردت في كتاب الله تعالى في أعقاب غزوة أُحُد في السنة الثالثة من الهجرة النبوية؛ حيث انكسر المسلمون في الغزوة وانهزمت قوّة الأُمّة -بعد انتصار بدْر- فنزل قول الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]… نعم: [هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ، فإنّ ما وصل إليه حال أمتنا وبلادِنا مِن عند أنفسنا، لما انهزمنا نفسيًّا صار الغرب هو سيدنا ونحن عبيده، لمّا ضعفت همّتنا في العمل والإنتاج صرْنا أسرى اقتصاد الغرب، لمّا بِتْنا متفرقين انهزمنا وتسلّط علينا عدوّنا، وتبدّل حالنا.. وقد لخّص النبي الحبيب -صلّى الله عليه وسلّم- أسباب الضعف والانكسار في أُمّتنا في حديثه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ حسَنٍ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا” قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: ” أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ “. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: “حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”.. ذنوب ومعاصي، سلبية ورضا بالدون، تفرق وتشتت وتنازع بعد صعود وقوّة.
والإنسان هو شعلة النشاط، وهو بارقة الأمل في بناءِ أيّ مجتمع وأيّ أُمّة، فإذا انتهكت حرماته ،وضُيِّق عليه في حياته، لن تجد منه عطاءً لوطن، ولا حفاظًا على مقومات أيًّا كانت ، فالاستثمار الحقيقي في الوطن يكون ببناء الإنسان أولاً، عقيدة وثقافة وفكرًا وأخلاقًا واقتصادًا؛ فالإنسان هو أول ركن رئيس في أي خطة للبناء في البلدان والأوطان؛ فهو أساس التقدّم، وهو عمود الرقيّ، وهو ركن التحضّر، والله كرّمه، فكيف نهينه ونمتهن كرامته لمجرّد الاختلاف في الرأي أو الفكر أو حتى العقيدة والدين، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. ودعا الإسلام بني البشر إلى التعارف والتعاون واحترام بعضهم البعض؛ يقول عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. كما حرّم الإسلام الاعتداء على دين الإنسان، وماله، ونفسه، وعِرْضِه، وبدنِه ،وأرضِه، وعقلِه، وحريتِه.
وكذلك فإنّ المجتمع الذي يتمزّق فيه عُرى الأخوة والوحدة يكون عُرْضَةً للعنف والشتات والتدخل الخارجيّ؛ فلا بدّ من وحدة الصفّ بين أبناء المجتمع الواحد كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم في أوّل مَقْدِمِهِ إلى المدينة الطيبة؛ آخى بين المسلم والمسلم أخوة إنسانية ووطنية وإسلامية، كما آخى بين المسلم وغير المسلم أخوة إنسانية ووطنيّة، فاستطاع أن يحفظ الوطن في أوّل عهد تأسيسه، يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول –كما ثبت في صحيح مسلم : (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ رَحَى الإِسْلاَمِ سَتَدُورُ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن وسائل النهوض بالأمة : فلا بدّ من بث الأمل، وتثقيف الناس جميعًا بأن من وراء الشدة يأتي الفرَج القريب، وأنّ مع العُسْر يأتي اليُسْر، وتلك هي رسالة كل الأنبياء والرسل، وصدق الله إذ يقول: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].. وقد ورد في صحيح البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» وهذه رسالة لكل ولي أمر ولكل إنسان أن يعمل على بث الأمل مهما كانت الظروف المظلمة، وكما يقول بعضهم: لن تكون قمرًا منيرًا إلا إذا أحاطتك الظُّلْمة من كُلّ مكان!
ولا شكّ أن للقيم أهمية في بناء المجتمعات والأُمم، وأي أمّة تتنازل عن قيمها وأخلاقياتها لا تستمرّ ولا تدوم، وإذا دامت فترة لا يُكتب لها الخلود، فالمجتمع الملتزم بالقيم مجتمع يجمع بين الرقيّ والأمان، والاحترام والتقدير.، ولِذَا كانت رسالة النبي البشير واضحة في إعلاء وإعلان القيم الفاضلة في كل معاملة وسلوك، بل رتّبت الشريعة الإسلامية الأخلاق كنتيجة طبيعية للعبادات والتشريعات.. وها هو نبينا محمّد صلى الله عليه وسلّم: يختصر رسالته في قوله: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» رواه احمد
ولا يُمَكِّنُ الله تعالى لأمّة الجهل ،لذلك كان اهتمام النبي عمليا بالعلم؛ حين جعل افتداء الأسرى يوم بدر بتعليم عشرة من أصحابه العلم وإزالة الأمية، وقد قال الله تعالى لنبيه ولنا من بعده: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]؛ لأنّ العلم قوّة وقوة عظمى ،فلم لا نتوجه إلى العلم، ونصب اهتمامنا بإخراج جيل متميز وفائق علميا في مجالي الدين والدنيا معًا؛ لا سيما وأمم الأرض اليوم تتنافس على تبوء أعلى الأماكن علميا؛ لأنهم أدركوا أنّ قيمة الدول حقيقة فيما تحسنه في باب الأبحاث والتقدّم العلميّ،
ومن سبل ووسائل النهوض بعد هذه الكبوة : إقامة العدل بين الناس ونبذ الظُّلم : فلقد قصّ علينا القرآن المجيد قصصا لأمم انكسرت وانهزمت واندثرت لما شاع ظلمها وكثُر، قال تعالى: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُمْ لما ظلموا»، فبِالعَدْل قامت السماء، وإنما قامت دولة الإسلام الأولى في رحاب المدينة المنورة يوم أن كان شعار قائدها (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد -وهو رئيس الدولة وزعيمها- يدها).. فعندما تساوى الناس وعادت الحقوق للمظلومين والمقهورين انتصرت الأمة وكُتب لها القوة والتمكين، ، وقد ثبت في حديث ابن ماجه في سننه: (لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ) أي: من غير أن يصيبه أذى يُقلقه ويزعجه. وقد حدّثنا التاريخُ عن أنباء أمم ودول طغى فيها الظلم المادي والمعنوي، فاستحقت الاندثار والانهزام، وسنة الله تعالى في كونه لا تحابي أحدًا.. ومجرّد نسبة الإنسان أو الأُمّة للرسول لا تعفيها من عقوبة ونتيجة الظلم؛ فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
الدعاء
