خطبة عن (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) مختصرة 1
نوفمبر 6, 2025الخطبة الأولى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (1) إبراهيم
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز ،والتي يقول الله تعالى فيها: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (1) إبراهيم ،وبداية تعالوا بنا نستعرض أقوال العلماء في تفسيرها : فقد قال الامام القرطبي : لتخرج الناس أي بالكتاب ،وهو القرآن ،أي بدعائك إليه ،(من الظلمات إلى النور) : أي: من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم ;وهذا على التمثيل ; لأن الكفر بمنزلة الظلمة ;والإسلام بمنزلة النور .وقيل : من البدعة إلى السنة ،ومن الشك إلى اليقين ، (بإذن ربهم) أي: بتوفيقه إياهم ولطفه بهم ،وأضيف الفعل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه صلى الله عليه وسلم الداعي والمنذر الهادي ،(إلى صراط العزيز الحميد) فالله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه، وهو الذي لا يغلبه غالب ،وهو المنيع في ملكه وسلطانه .وهو (الحميد) أي : المحمود بكل لسان ،والممجد في كل مكان على كل حال .وقال السعدي : يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة، وقوله: { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله، إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم. ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: الموصل إليه وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به، وفي ذكر {العزيز الحميد} بعد ذكر الصراط الموصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعز الله قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة، وفي الوسيط لطنطاوي يقول : والمعنى : هذا كتاب جليل الشأن ،عظيم القدر ،أنزلناه إليك يا محمد ،لكى تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهالة والضلال ،إلى نور الإِيمان والعلم والهداية ،وهذا الإِخراج إنما هو بإذن ربهم ومشيئته وإرادته وأمره . وأسند – سبحانه – الإِخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلغ لهذا الكتاب المشتمل على الهداية التي تنقل الناس من الكفر إلى الإِيمان ،ومن الجهالة إلى الهداية ،وفى جمع ” الظلمات ” وإفراد ” النور ” إشارة إلى أن للكفر طرقا كثيرة ،وأما الإِيمان فطريق واحد .وقوله سبحانه : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) احتراس لبيان أن نقل الناس من حال إلى حال إنما هو بإرادة الله – تعالى – ومشيئته ، وأن الرسول ما هو إلا مبلغ فقط ،أما الهداية فمن الله وحده .وجاء في كتاب ظلال القرآن : لتخرج هذه البشرية من الظلمات . ظلمات الوهم والخرافة . وظلمات الأوضاع والتقاليد . وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة ,وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين . . لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور .النور الذي يكشف هذه الظلمات .يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير .ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد . والإيمان بالله نور يشرق في القلب ,فيشرق به هذا الكيان البشري ,المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة روح الله .فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة ,وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة .طينة من لحم ودم كالبهيمة ,فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها .لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله ,يرقرقها الإيمان ويجلوها ,ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم ,ويشف بها هذا الكيان المعتم .
والإيمان بالله نور تشرق به النفس ,فترى الطريق .ترى الطريق واضحة إلى الله ,لا يشوبها غبش ولا يحجبها ضباب .غبش الأوهام وضباب الخرافات .أو غبش الشهوات وضباب الأطماع .ومتى رأت الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار .
والإيمان بالله نور تشرق به الحياة .فإذا الناس كلهم عباد متساوون .تربط بينهم آصرتهم في الله وتتمحض دينونتهم له دون سواه ,فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة .وتربطهم بالكون كله رابطة المعرفة .معرفة الناموس المسير لهذا الكون وما فيه ومن فيه .فإذا هم في سلام مع الكون وما فيه ومن فيه .
والإيمان بالله نور . نور العدل . ونور الحرية . ونور المعرفة . ونور الأنس بجوار الله , والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء .ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء .والإيمان بالله وحده إلها وربا ,منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور . .منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده ,والدينونة لربوبيته وحده ,والتخلص من ربوبيات العبيد, والاستعلاء على حاكمية العبيد .وفي هذا المنهج من المواءمة مع الفطرة البشرية , ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ,ما يملأ الحياة سعادة ونور وطمأنينة وراحة .كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصما من التقلبات والتخبطات التي تتعرض لها المجتمعات التي تخضع لربوبية العبيد ,وحاكمية العبيد ,ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع , وفي الخلق والسلوك ,وفي العادات والتقاليد . .وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشرية أن تبذل في تأليه العبيد ,والطبل والزمر للطواغيت !،
وإن وراء هذا التعبير القصير: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . .) لآفاقا بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب .وفي عالم الحياة والواقع ,لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير !{لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . بإذن ربهم}. فليس في قدرة الرسول إلا البلاغ ,وليس من وظيفته إلا البيان .أما إخراج الناس من الظلمات إلى النور, فإنما يتحقق بإذن الله , وفق سنته التي ارتضتها مشيئته ,وما الرسول إلا رسول !{لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم). . {إلى صراط العزيز الحميد}. فالصراط بدل من النور .وصراط الله: طريقه , وسنته ,وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة .والنور يهدي إلى هذا الصراط ,أو النور هو الصراط .وهو أقوى في المعنى .فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون .هو السنة .هو الناموس .هو الشريعة .والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطيء الإدراك ولا تخطيء التصور ولا تخطيء السلوك .فهي على صراط مستقيم . . (صراط العزيز الحميد). مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور .والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون ,والحمد يبرز لتذكير من يشكرون .. ثم يعقبها التعريف بالله سبحانه .إنه مالك ما في السماوات وما في الأرض ,الغني عن الناس ,المسيطر على الكون وما فيه ومن فيه .
أيها المسلمون
وهذه الآيةُ الكريمة دالَّةٌ على أنَّ طُرُقَ الكُفرِ والبِدعةِ كَثيرةٌ، وأنَّ طَريقَ الخيرِ ليس إلَّا الواحِد؛ لأنَّه تعالى قال: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فعبَّرَ عن الجهلِ والكُفرِ بالظُّلماتِ، وهي صيغةُ جَمعٍ، وعبَّرَ عن الإيمانِ والهدايةِ بالنُّورِ، وهو لفظٌ مُفردٌ، وذلك يدُلُّ على أنَّ طُرُقَ الجَهلِ كثيرةٌ، وأمَّا طريقُ العِلمِ والإيمانِ فليس إلَّا الواحِد ،وأنه لا يحصُلُ منهم المرادُ المحبوبُ لله إلَّا بإرادةٍ مِن اللهِ ومَعُونةٍ؛ ففيه حثٌّ للعبادِ على الاستعانةِ برَبِّهم ،وفي ذِكرِ (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بعد ذِكرِ الصِّراطِ المُوصِلِ إليه، إشارةٌ إلى أنَّ مَن سَلَكه فهو عزيزٌ بعِزِّ اللهِ، قَوِيٌّ ولو لم يكُنْ له أنصارٌ إلَّا اللهُ، محمودٌ في أمورِه، حسَنُ العاقبةِ، ففي ذِكرِه تَنبيهٌ على أنَّه لا يذلُّ سالِكُه ولا يخيبُ سابِلُه، وترغيبٌ في سُلوكِه ببيانِ ما فيه مِن الأمْنِ والعاقبةِ الحميدةِ ، كما دلت الآية على أنَّ الهدايةَ هي مرادُ اللهِ تعالى من النَّاسِ، وأنَّه لم يترُكْهم في ضلالِهم، فمَن اهتدى فبإرشادِ الله، ومن ضَلَّ فبإيثارِ الضَّالِّ هوى نفسِه على دلائِلِ الإرشادِ، وأمرُ اللهِ لا يكونُ إلَّا لحِكَمٍ ومصالحَ بعضُها أكبَرُ مِن بعضٍ .
أيها المسلمون
ويقول الدكتور /عبد الدائم الكحيل :من عجائب القرآن أن الله تعالى تحدث عن بدايات الخلق وذكر الظلمات قبل النور!! يقول تبارك وتعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]. ولو تتبعنا آيات القرآن كلها التي تتحدث عن بداية الخلق نلاحظ أن الله تعالى يذكر الظلمات قبل النور دائماً. وفي هذه الآية الكريمة يتجلى وجه من وجوه الإعجاز فالله تعالى في هذه الآية الكريمة يبدأ بالثناء على نفسه لأنه خلق لنا السماوات والأرض: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، ثم ليؤكد لنا أنه هو خالق السماوات والأرض أعطانا حقيقة علمية وهي أن الظلام أولاً ثم النور: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، وعلى الرغم من ذلك فإن هؤلاء الكفار يشركون بربهم وينكرون نعمته: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ). وهذا يعني أن القرآن دقيق جداً في تعابيره وفي ترتيب كلماته، وتأملوا معي كيف أن القرآن لم يقل (خلق الظلمات والنور) بل قال (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، لأن الظلام والنور هما نتيجة لخلق السماوات والأرض، فالله تعالى خلق مادة السماء والأرض، ومرت هذه المادة بعصور مظلمة ثم انبثق الضوء، وبالتالي فإن كلمة (جعل) هي الكلمة المناسبة في هذا المقام من الناحية العلمية. كذلك فإن القرآن دائماً يعبر عن الظلام بالجمع (الظلمات) وعن النور بالمفرد (النور)، والسبب أن نسبة الظلام في الكون أكثر من 96 بالمئة، أي أن معظم الكون هو ظلمات، وكمية النور قليلة جداً، وهذا إعجاز آخر.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
هل يوجد على وجه هذه الأرض من لا يعرف النور بكل ما تعنيه الكلمة ،فلولا النور لما استطعنا الرؤية ،فهل يستطيع أي إنسان أن يرى أو أن يمارس حياته في الظلام ؟ الإجابة لا .. لا يستطيع الإنسان العيش في الظلام بدون النور ،وهل من أحد يستطيع أن يأتيك بالنور غير الله؟ ، فللإجابة على هذا يقول تعالى :” قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (71) القصص ،ومن هنا كان الأجدر بنا أن نتذكر نعمة الله سبحانه وتعالى علينا بأن جعل لنا نورا نهتدي به في الظلمات، قال الله تعالى :” أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً) (15) ،(16) نوح ،
وهذا النور في ظلمات الليل فما بالكم بظلمات الأنفس والبشر فسبحان الله الذى جعل لنا نورا نهتدي به في الخروج من هذه الظلمات إلى النور .وأيضا يقول سبحانه وتعالى : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (174) ، (175) النساء,
وهكذا كان وصف الله تعالى للقرآن الكريم بأنه نور مبين أي نور كامل واضح لا شك فيه ،وأن من يعتصم بهذا القرآن فسيدخله في رحمة منه وفضل ،ويهديه إليه صراطا مستقيما ، فهل يوجد نور أسطع من ذلك كي نهتدي به ليخرجنا من الظلمات إلى النور .
الدعاء
