خطبة عن ( البطولة في الإسلام )
يناير 16, 2021خطبة عن( من أسباب وعوامل النجاح والفشل في الإسلام )
يناير 26, 2021الخطبة الأولى ( الاعتذار: من شيم الأبرار ،وقبول الاعتذار: من أخلاق المطهرين الأخيار)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (89): (92) يوسف ،وقال الله تعالى : (قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يوسف (97) ،(98)، وقال الله تعالى: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (22) ، (23) الأعراف
إخوة الإسلام
إن الخطأ صفة في الإنسان ،فلو تأملت في حقيقة الإنسان لوجدت خلقه ناقصًا، ولوجدته ضعيفًا قاصرًا عن الكمال في عقله ،وجسمه ،ونفسه ،فالله تعالى خلق الانسان ضعيفًا ،قابلاً للخطأ ، فصفات النقص التي خُلق عليها الإنسان لابد وأن تولد فيه من الأخطاء والزلات ما يناسب تكوينه، قال الله تعالى : “وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا” [النساء: 28] ،وقال الله سبحانه : “وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا” [الإسراء: 11] ،فهذه الصفات وغيرها في الإنسان كلها تدل على أن الإنسان لا كمال له، وأن الخطأ وارد في حقه ،ومن أجل الحكم من خلق الإنسان خطاءً ،أن يعبد المسلم ربه بالتوبة والرجوع إليه، ليقف على رحمته وعفوه ولطفه ،ولذلك لما خلق الله الإنسان بتلك الصفات ،فإنه قد شرع له التوبة ،ولم يغلق عنه بابها أبدًا حتى تقوم قيامته ،وفي سنن الترمذي :(عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ، فإرادة الله حكمت بأن يعمر الأرض قوم يُخطئون، ثم يتوبون ،فيتوب الله عليه، ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ».
واعلم أخي المسلم أن هذا الأمر لا يسوغ لك أن تخطئ كل وقت وحين، بل أنت ملزم شرعًا بطاعة الله ،ومجاهدة نفسك، وفي الوقت نفسه فهذا يحفظك أن لا تستسلم لذنبك ،وأن تجعل التوبة هي مخرجك كلما أخطأت ،كما يجب عليك أن تعتذر عن خطئك كلما أخطأت،
والمتأمل والمتدبر للآيات السابقة يتبين له أن إخوة يوسف اعتذروا ليوسف 🙁قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) يوسف (91) ،واعتذروا لأبيهم :(قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) يوسف (97) ،واعتذر من قبل أبونا آدم وأمنا حواء : (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (23) الأعراف ،
أيها المسلمون
والاعتذار إلى الله تعالى من المعاصي والذنوب ،وعدم القيام بحقوقه كاملة ،يكون بالتوبة والندم ،والاقلاع عن الذنب ،والاستغفار ،أما الاعتذار للبشر: فهو حالة يُعبّر من خلالها الإنسان عن أسفه تجاه أقوال أو أفعال صدرت منه ،ويكون الدافع وراء ذلك مراعاة مشاعر الآخرين ، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها في حق المُعتذَر إليه ،وعلى هذا فالاعتذار للآخرين صفة حميدة ،وخلق راق ،وسمة من سمات الصالحين ،ومن أقوى الصفات التي تدل على التواضع والتسامح، لذا فيجب أن يتمتع بهذا الخلق ،وتلك الصفة كل إنسان، لأنها تعمل على تجديد العلاقات بين الأفراد وتعزيزها ،فعلينا بالاعتذار عند الخطأ ،كما يجب علينا قبول العذر والأعذار والعفو عن المخطئين ،وتلمس الأعذار لمن أخطأ في حقنا ،وما أجمل قول من قال :
خذ من أخيك العفو واغفر ذنبه … ولاتك في كل الأمور تعاتبه
ويقول ابن القيم الجوزية : (من أساء إليك ،ثم جاء يعتذر عن إساءته ،فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته ,وعلامة الكرم والتواضع أنك اذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ،و لا تحاجه) .والحياة بدون اعتذار ستحمل معاني الندية ،وستخلق جواً من التوتر بين الناس .
وليس الاعتذار دليل ضعف ،أو غباء ،أو سذاجة ،كما يظن البعض، بل هو القوة، والثقة، والنقاء ،والصفاء، والحب، والود، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد ،ويقضي على الحسد ،ويدفع عن صاحبه سوء الظن به ،والارتياب في تصرفاته ،فشجاعة الاعتذار لا يتقنها إلَّا الكِبار، ولا يحافظ عليها إلا الأخيار، ولا يغذِّيها وينمِّيها إلَّا الأبرار، لأنها صِفة نابعة من قَلبٍ أبيضَ، لا يَحمل غشًّا، ولا يضمر شرًّا، ولا يتقن حقدًا ،فمَن عرَف خطأَه واعتذر عنه، فهو كبير في نَظر الكثير، والرُّجوعُ إلى الحقِّ فضيلة؛ وما أجمَلَ أن تكون مسارعًا إلى الخير، رجَّاعًا إلى الحق.
أيها المسلمون
وإذا كان الاعتذار من شيم الأبرار ،فإن قبول الاعتذار وعدم رده لهو من خلق المؤمنين الأخيار ،فقبول الاعتذار يحض الناس على الاعتذار متى أخطأوا ،والإصرار على الملامة والعتاب يجعلهم يُصرون على الخطأ ،ويأبون الاعتراف به، وبقبول الاعتذار يزيدك الله رفعة وعزا ،ففي صحيح مسلم 🙁عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ » ،فقبول الاعتذار والصفح واجب ،لأنه من خلق المؤمنين ،قال الله تعالى في وصف المؤمنين 🙁الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134) آل عمران، وفي الصحيحين 🙁عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ » ،والألد الخصم هو: (المبالغ في الخصومة ،فلا يعتذر ،ولا يتقبل الاعتذار) ،
فعدم قبول الاعتذار والأعذار ليس من صفات المؤمنين ،فعن جابر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال :” من اعتذر إلى أخيه فلم يعذره ،أو لم يقبل عذره ;كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس ” رواه البيهقي في ” شعب الإيمان “. وروي عن عائشة مرفوعا : ” من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل عذره لم يرد على الحوض ” . رواه الطبراني في الأوسط . وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى إن شئت يا رسول الله ! قال : إن شراركم الذي ينزل وحده ويجلد عبده ويمنع رفده ،ألا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله ،قال: من يبغض الناس وهم يبغضونه ،قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله ،قال: الذين لا يقيلون عثرة ،ولا يقبلون معذرة ،ولا يغفرون ذنبا ،قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ ،قالوا: بلى يا رسول الله ،قال :من لا يرجى خيره ،ولا يؤمن شره ” رواه الطبراني وغيره ،وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم ،وبروا آباءكم يبركم أبناؤكم ،ومن أتاه أخوه متنصلا فليقبل ذلك محقا كان أو مبطلا ،فإن لم يفعل لم يرد على الحوض ” رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ،والتنصل : الاعتذار .
أيها المسلمون
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في الاعتذار ،وفي قبول الاعتذار ،فنراه صلى الله عليه وسلم يرق لرجل ويكرمه لمجرد أنه عبس في وجهه مرة واحدة – وهو أعمى لم ير ذلك العبوس – بعد أن أنزل الله في شأنه قرآنا معاتبا نبيه صلى الله عليه وسلم فيه, ولنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في قبول اعتذار المعتذر , فكان لا يرد معتذرا ،لما كان فيه من كرم نفس ،وحسن خلق ,ففي مسند أحمد 🙁أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا». ومن قبول رسول الله للأعذار موقفه من مشركي مكة يوم الفتح ,وموقفه من ابن عمه أبي سفيان بن الحارث ,وكلها مشهورة ومعلومة ,وكذلك مواقف اعتذار صحابته لبعضهم البعض كما حدث بين بلال وأبي ذر رضي الله عنهما ,وكعفو أبي بكر عن مسطح ,ما يدلنا على سمة عظيمة سادت بين هذا الجيل الذي اختصه الله بكل الخير واختارهم الله لصحبة نبيه ,فهلا تأسينا بهم ؟!.
فعليك أخي الحبيب، بقبول عُذر أخيك إذا قدم لك الاعتذار ،وتصديقه بما يقول، يُروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (لا تلُم أخاك على أن يكون العذر في مثله) ،ويقول الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما يُروى عنه : (لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه ،واعتذر إليَّ في الأخرى لقبلت عذره) ،ويقول الأحنف بن قيس رحمه الله : (إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبِشْر) ،ويروي الإمام أحمد: أن عثمان بن عفان جاء يعتب على ابن مسعود في أمور سمعها عنه، فقال: “هل أنت منته عمَّا بلغني عنك؟ فاعتذر بعض العذر”.
أيها المسلمون
وما أعظم وأخطر الآثار المترتبة على رفض الاعتذار ،أو عدم قبول الاعتذار : فكم بسبب ذلك من بيوت خربت ،وكم من قضايا رفعت ،وأضاعت الوقت والجهد والمال ,وكم من عداوات دامت طويلا ،وأثرت على أجيال متعاقبة ،وتسببت في قطيعة الأرحام, وكم من دماء أهريقت بين الرجال أو الأسر ,وكان يكفي لوأدها في مهدها كلمة واحدة فقط ،وهي كلمة (الأسف أو الاعتذار) ,فلِم تتكبر النفوس عن الاعتذار ،وهي التي تعلم أن العودة للحق خير من التمادي في الباطل ،فليس عيبا أن يخطئ الإنسان، ولكن العيب التمادي والاستمرار في ذلك الخطأ. فالاعتذار كلمة لو نطقناها بصدق لذابت الحواجز ،وزال الغضب ،ولداوينا بها قلبا مكسورا ،أو كرامه مجروحة ، ولعادت بها المياه إلي مجاريها في كثير من العلاقات المتصدعة ،(أنا آسف)، (حقك علي) (أخطأت في حقك فسامحني) ،إنها كلمات سهلة وبسيطة وصادقة ،تنمي الحب والمودة والتسامح والعفو الجميل ،فتعود العلاقات الأسرية والاجتماعية المتصدعة أكثر ترابطاً ،إننا لا نعاني فقط من الجهل بأساليب الاعتذار, ولكننا نكابر ونتعالى ونعتبر الاعتذار هزيمة أو ضعف ,وانتقاص للشخصية أو المركز والمنصب ،فالزوج تأخذه العزة بالإثم إذا أخطأ في حق زوجته فلا يعتذر لها ،والمدير لا يعتذر للموظفين إذا حدث منه خلل وتقصير في حقهم ،ظنا منه أن مركزه لا يسمح له بذلك ،والمعلمة لا تعتذر للطالبة ،لأن ذلك سوف ينقص من احترام الطالبات لها ،والطبيب لا يقف معتذراً ونادماً على خطأ أرتكبه في حق مريضه ،حتى لا يشوه سمعته ،والجار لا يعتذر لجاره ويعتبر ذلك ضعف منه ،
فمن علّمنا أن الاعتذار ضعفٌ وإهانةٌ ومنقصة ؟؟،ومن علّمنا أن نقتل بداخلنا هذه الصفة النبيلة ؟؟ ،ومن علّمنا أن في الاعتذار جرحٌ للكرامة والكبرياء ؟؟،
فكم من أُسر تفكَّكَت، وكم من أواصِر تقطَّعَت، وكم من زيجات طُلِّقَت، وكم من أطفال شرِّدت، كل ذلك بسب عدَم القدرة على الاعتذار، بل يَنقلب الحال إلى خصومة شَديدة، وشحناء مديدة، فتُقطع أرحام، وتتهدم بيوت، وتنقطع أواصر، وتَنتهي المودَّة بين الزملاء، بل ربما تتحوَّل صداقة الأصدقاء إلى خصومة وجفاء؛ لأنَّ أحدهم أَبى واستكبر أن يعتذر، أو يقبل الاعتذار !
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الاعتذار: من شيم الأبرار ،وقبول الاعتذار: من أخلاق المطهرين الأخيار)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومع أن الاعتذار بهذا المعنى هو حسن، فالأحسن منه أن تحذر من الوقوع فيما يجعلك مضطرًا للاعتذار، ففي مسند أحمد : (عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عِظْنِي وَأَوْجِزْ. فَقَالَ « إِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ وَلاَ تَكَلَّمْ بِكَلاَمٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً وَاجْمَعِ الإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدَيِ النَّاسِ ».
ولا تنتظر من نفسك أن تسيء لتعتذر، بل يمكن أن يكون الاعتذار توضيحًا للموقف، أو بيانًا للقصد. فقد كان الأنصار عند فتح مكة، قد توقعوا ميل النبي صلى الله عليه وسلم للإقامة مع قومه في مكة بعد الفتح، ففي صحيح مسلم : (فَقَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَاءَ الْوَحْيُ وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لاَ يَخْفَى عَلَيْنَا فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ». قَالُوا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ ». قَالُوا قَدْ كَانَ ذَاكَ. قَالَ « كَلاَّ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ». فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِى قُلْنَا إِلاَّ الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ ».
وصاحب خلق (الاعتذار) يستحيي من افتضاح تقصيره حين يظن من نفسه التقصير، ففي مسند أحمد : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَرِيَّةٍ فَلَمَّا لَقِينَا الْعَدُوَّ انَهَزَمْنَا فِي أَوَّلِ عَادِيَةٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ لَيْلاً فَاخْتَفَيْنَا ثُمَّ قُلْنَا لَوْ خَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاعْتَذَرْنَا إِلَيْهِ فَخَرَجْنَا فَلَمَّا لَقِينَاهُ قُلْنَا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ ». قَالَ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ « وَأَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ ».فهوَّن صلى الله عليه وسلم عليهم ووصفهم بالعكّارين، الذين يغزون كرة بعد كرة، ولا يتوقفون عن الغزو.
وإذا جاءك من يأمرك بالمعروف، فاقبل منه، ووضح عذرك – إن كان لك عذر – ففي مسند أحمد : (جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَمِّي قَالَ كُنْتُ جَالِساً مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَمَرَّ شَابٌّ مِنْ قُرَيْشٍ كَأَنَّهُ مُسْتَرْخِي الإِزَارِ قَالَ ارْفَعْ إِزَارَكَ. فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ فَقَالَ إِنَّهُ اسْتَرْخَى وَإِنَّهُ مِنْ كَتَّانٍ) .وبذلك بيَّن أنه لم يُرخه كبرًا، وإنما استرخى بنفسه؛ بسبب طبيعة قماشه. وهذا شأن المسلم في دفع سوء الظن، وإثبات براءته حين يكون بريئًا بحق، ففي مسند أحمد : (عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَانِي نَاسٌ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ فَقَالُوا اذْهَبْ مَعَنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ لَنَا حَاجَةً. قَالَ فَقُمْتُ مَعَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعِنْ بِنَا فِي عَمَلِكَ. فَاعْتَذَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا قَالُوا وَقُلْتُ لَمْ أَدْرِ مَا حَاجَتُهُمْ. فَصَدَّقَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَذَرَنِي وَقَالَ : « إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ فِي عَمَلِنَا مَنْ سَأَلَنَاهُ ». أما عن جزاء المتخلقين بهذا الخلق : ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ».
أيها المسلمون
ألا فتخلقوا بهذا الخلق، فإننا بحاجة ماسة إلى تربية أنفسنا على ثقافة الاعتذار ،وطلب العفو والتسامح ممن قصرنا أو أخطأنا في حقهم ،بقصد أو بدون قصد ،حتى يستمر العطاء ،وتزداد الروابط ،وتطيب النفوس ،وتنجز الأعمال ،وحتى يُعرف مكان الخطأ ،ويتجنب الجميع تكراره، ويسلم المرء والمجتمع من تبعات العناد ،والكبر والإصرار على الخطأ ،الذي قد يدمر مجتمعات وأمما وشعوبا وحضارات ،وأهم من ذلك كله ،أن المرء ينجو باعتذاره عما بدر منه تجاه الآخرين من تبعات السؤال بين يدي الله يوم القيامة ،فلا تتأخروا ،ولا تتثاقلوا عن الاعتذار حين يكون هو الحل وهو العلاج .
الدعاء