خطبة عن ( طَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ )
نوفمبر 22, 2022خطبة عن الغيرة وحديث ( إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ )
نوفمبر 24, 2022الخطبة الأولى ( الخوف من الشهرة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16].
إخوة الإسلام
كثير من الناس تتوق نفسه إلى أن يُشار إليه بالبنان، وأن يكون مشهورا بين الناس، ويصبح حديث المجالس، ولذا فقد يسعى بعضهم بكل سبيل إلى تحقيق ذلك، ولو كان ذلك على حساب مخالفة الدين والأخلاق، إذ من خصائص الشهرة أنها تؤز المرء إلى المغامرة أزًّا، وهنا مكمن الخطر، لذا؛ فقد حذر الشرع المطهر من حب الشهرة والظهور، الداعي النفوس المريضة إلى تعلق القلب بتأسيس بنيان السمعة على شفا جرفٍ هار، فقال تعالى معلمًا نبيه: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام162] “أي أن كل أعمالي ومقاصدي محصورة في طاعة اللّه ورضوانه، ولا أبتغي الشهرة والظهور بين الناس، ولهذا كان من علامات الإخلاص، ومن دلائله وشواهده: الخوف من الشهرة، فالمؤمن يخاف من الشهرة وانتشار الصيت على نفسه ودينه، وخصوصا إذا كان من أصحاب المواهب، فهو يعلم أن القبول عند الله تعالى بالسرائر لا بالمظاهر، وأن الإنسان لو طبقت شهرته الآفاق، وهو مدخول النية، لم يغن عنه الناس من الله شيئا، قال الله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (271) البقرة، وقال تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) البقرة (264) ، فمن سعى للشهرة والذكر بدينه وعلمه وقع في الرياء، والرياء شرك. ومن سعى للشهرة والذكر بدنياه خبت ذكره، ولم يفلح سعيه. وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة مجاهد ومنفق وقارئ عالم؛ لأنهم أرادوا بأعمالهم الشهرة والذكر في الناس، ولم يريدوا بها وجه الله تعالى. ومن قاتل للذكر أو ليُرى مكانه فليس في سبيل الله تعالى كما في الحديث الصحيح. وقد يقصد العبد الشهرة في هيئة أو لبس أو نحوه، فيُجزى بقصده ذلا؛ كما في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد.
ولهذا كان الزهد في الجاه والظهور والشهرة والأضواء أعظم من الزهد في المال، وهذا ما جعل كثيرا من علماء السلف وصالحيهم يخافون على قلوبهم من فتنة الشهرة، وسحر الجاه والصيت، وفي قصة هؤلاء ما يبين ذلك، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ نَعَمْ . قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ). ولما طعن عمر رضي الله عنه، وحضرته الوفاة؛ واساه ابن عباس بمناقبه التي عرفها عنه، وبذكره الحسن في الناس، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «الْمَغْرُورُ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، لَوْ أَنَّ لِي مَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ بَيْضَاءَ وَصَفْرَاءَ لافْتَدَيْتُ بِه مِنْ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ». وفي صحيح مسلم: (كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ ». ولنتأمل صفة الأخفياء الذين يباعدون عن الشهرة والأضواء في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «…طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» رواه البخاري. وقال ابن مسعود: (كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض) . وقال الفضيل بن عياض: إن قدرت على ألا تعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك أن يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى؟، وقال الزاهد المعروف بشر الحافي: (ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح) ،وصحب رجل ابن محيريز في سفر، فلما فارقه قال: أوصني. فقال: (إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشى إليك، وتسأل ولا تسأل، فافعل).
أيها المسلمون
إن حب الشهرة والمدح مدخل من مداخل الشيطان إلى قلب الانسان، وهذا داء عضال لا شك أنه لا يستقيم معه العمل، بل المطلوب هو الإخلاص، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما معناه: (إذا حدثتك نفسك بالإخلاص فاعمد إلى حب المدح والثناء فاذبحه بسكين علمك أنه لا أحد ينفع مدحه ولا يضر ذمه إلا الله -جل وعلا-)، فعلى الإنسان أن ينتبه لهذا، وأن يبذل ويمتثل ما أُمر به من التبليغ، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »، وعلى المسلم أن يسعى في تعليم الناس ونفعهم والتسبب في هدايتهم، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ « لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ». قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا – قَالَ – فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ « أَيْنَ عَلِىُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ». فَقَالُوا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ – قَالَ – فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ « انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ
اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الخوف من الشهرة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وعليكم أن تبذلوا وتجاهدوا أنفسكم للإخلاص، وإذا علم الله -جل وعلا- منكم صدق النية أعانكم، وإذا كان العمل من أجل الناس رياء، فترك العمل من أجلهم أشد عند أهل العلم، فعلى المسلم أن يجاهد نفسه ولا يقع في الرياء ولا يخالف ما أُمر به من دعوة الناس وتبليغ العلم والسعي في هدايتهم، واعلموا أن الشهرة إن لم يطلبها المرء فهي ليست مذمومة في ذاتها، فليس هناك أشهر من الأنبياء والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، ولكن المذموم هو طلب الشهرة والزعامة والجاه، والحرص عليها، فأما وجودها من غير هذا التكلف والحرص فلا شيء فيه، وفي هذا المعنى جاء في صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ « تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ». وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُسِرُّهُ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلاَنِيَةِ »
الدعاء