خطبة عن حديث ( آنيةُ ربِّكم قلوبُ عبادِه الصالحينَ )
ديسمبر 27, 2022خطبة عن (عمارة الأرض واجب إسلامي )
ديسمبر 29, 2022الخطبة الأولى ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (63) ،(64) البقرة
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم – إن شاء الله تعالى – مع قوله تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة (63)، فهذا المقطع من هذه الآية الكريمة فيه أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يأخذوا الكتاب الذي أنزل إليهم بجدٍ واجتهاد وصبر على أوامر الله، وأن يحفظوه، ويتمسكوا به ، ويعملوا بما فيه بقوة وبدون تردد، وذل ليتقوا الهلاك في العاجلة والآجلة ، قال الإِمام القرطبي في تفسيره: ” وهذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها، لا تلاوتها باللسان – فحسب -، فقد روى الامام أحمد بسند حسن: (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَامَ تَبُوكٍ خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ :« أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ وَشَرِّ النَّاسِ إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلاً عَمِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ أَوْ عَلَى قَدَمَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ ،وَإِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلاً فَاجِرًا جَرِيئًا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ لاَ يَرْعَوِى إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ ». فعلى المسلمين أن يأخذوا القرآن بقوة، وأن يعتصموا به، وأن يوثقوا استمساكهم به، تنفيذاً للأمر الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}،
والمتأمِّلُ في التاريخِ يجِدُ أنَّه ما من دينٍ ظهَر وانتشر إلَّا وكان وراءه فئةٌ تؤمِنُ به، وتعمَلُ له، وتمتَثِلُه واقعًا في حياتها؛ ليقومَ الدِّينُ على أكتافِهم، وليكونوا أنموذجًا واضحًا لأتباعِه؛ يسترشِدون بهم، ويطمئنُّون من جهةِ تطبيقِه وتحقيقِه، ومن حِكمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ أنْ جَعَل في هذه الأمَّةِ المحمديَّةِ والشَّريعةِ الخالدةِ الأبديَّةِ فئةً تؤمِنُ بدينِه، وتعمَلُ له، وتمتَثِلُه واقعًا عمليًّا في حياتها ما دام هذا الدِّينُ في الأرضِ، لا يعتريهم الضَّعفُ، ولا يسيطِرُ عليهم اليأسُ، وفي صحيح البخاري: (أن مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»، وما كان لهذه الطَّائفةِ المؤمنةِ أن تبقى قائمةً بأمرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، صامدةً في وجهِ طوفانِ المخاطِرِ الداخليَّة والخارجيَّة، سوى أنَّها كانت قويَّةً في دينِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، أخذًا وعطاءً، تلقيًا وأداءً، وعلمًا وعملًا، شريعة ونَهْجًا، هذا هو الأمرُ الذي حَفِظَها من حَنَق المخالفين، وخَوَر المخذِّلين المرجِفين. ولولا تلك القوَّةُ الدينيَّةُ، وما تُمْليه من وضوحٍ في التصوُّر والاعتقادِ، وحزمٍ في التمسُّكِ والامتثالِ، وجديَّةٍ في السُّلوكِ والعَمَلِ، لانحلَّت تلك الطَّائفةُ عند أدنى مؤامرةٍ أو اعتداءٍ، ولكانت تعيشُ تشتُّتًا في الأمرِ، وهوانًا في العَزمِ، ولَما بَقِيَت تقومُ لله عزَّ وجل بحُجَّةٍ، ولذا، أَمَر اللهُ عزَّ وجَلَّ بالقوة في أخذ الدين أنبياءَه وأقوامَهم، فقال تعالى لموسى عليه السَّلامُ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وقال لبني إسرائيلَ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171]، وَوصَف اللهُ عزَّ وجل بهذه القوة نبيَّه داودَ عليه السلامُ، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] أي: ذا القُوَّةِ في الدِّينِ، بل خاطب اللهُ بها يحيى عليه السَّلامُ منذ أن كان في المهدِ صَبِيًّا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]
أيها المسلمون
إنَّ الأمَّةَ الاسلامية اليوم بحاجةٍ شديدةٍ إلى استجماعِ معاني القوَّةِ في أفرادِها؛ ليسعَدوا بدينهم، ويُؤدوا حقَّ اللهِ عزَّ وجَلَّ فيهم، والقوة في الدين لا تتحقق إلا بأمرين : الأول: القوَّةُ في الأخذِ والتمسُّكِ والعَمَلِ، والثاني: القوَّةُ في الإعدادِ والمواجَهةِ والمدافَعةِ، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. فالأمَّةَ الاسلامية بحاجةٍ إلى المؤمِنِ القويِّ في عقيدتِه، القويِّ في عبادتِه، القويِّ في تعلُّمِه، القويِّ في دعوتِه، القويِّ في دفاعِه، القويِّ في صَدْعِه بالحقِّ، ووقوفِه أمام سَيْلِ الشُّبُهاتِ والشَّهواتِ، والفِتَنِ والمُغرَياتِ. فالمؤمن إذا تكلَّم كان قويًّا واثقًا، والمؤمن إن ناقش كان قويًّا واضحًا، وإذا عَمِل كان قويًّا ثابتًا، فالمؤمن يأخُذُ تعاليمَ دينِه بقوَّةٍ، وينقُلُها إلى غيره بقوَّةٍ، ويتحرَّكُ ويدعو في مجتَمَعِه بقوَّة، لا وَهَنَ ولا تميُّعَ، ولا ضعْفَ ولا تصنُّعَ، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ».
ولتحصَّلَ هاتان القوَّتانِ بكُلِّ صُوَرها وأشكالِها، وتُصْبِح واقعًا عمليًّا نعيشُه في حياتنا، لا بدَّ من استجماعِ عدِّة أمورٍ هي بمثابةِ الأُسُسِ التي يقومُ عليها هذا المبدأُ الشرعيُّ: الأساسُ الأولُ من أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل: قوَّةُ الصِّلةِ باللهِ تعالى: ومن أهمِّ أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل أن يكونَ المؤمِنُ قويَّ الصِّلةِ باللهِ عزَّ وجَلَّ، كثيرَ العبادةِ له سبحانه ففي الصحيحين: (أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ»، والأساسُ الثاني من أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل: الاستجابةُ الكاملةُ لله تعالى: ففي قَولِه تعالى لبني إسرائيلَ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة : 93]، فقد أَتْبعَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أمْرَه بأخْذِ ما آتاهم بقوَّةٍ بأمرٍ آخَرَ، وهو (السَّماعُ) والاستجابةُ الكامِلةُ له سبحانه؛ ليدُلَّنا ذلك بطريقِ الإشارةِ على أنَّ ممَّا تتحَقَّقُ به القوَّةُ في الدِّينِ سماعَ أمرِ اللهِ عزَّ وجل، والإنصاتَ له، والعَمَلَ بمُوجِبِه؛ ليتمَّ تحقيقُ العبوديَّةِ الشَّاملةِ له بعد ذلك. وإذا أعرضَ الإنسانُ عن سماعِ أمرِ ربِّه تعالى، أو سَمِعَ ولم يجِبِ الاستجابةَ الكاملةَ التي تُغيِّرُ محتواه ظاهرًا وباطنًا، كان عُرضةً لأن يقَعَ فيما وقع فيه بنو إسرائيلَ من الذمِّ وسوءِ العاقبةِ :{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93]. والأساسُ الثَّالثُ من أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل: اليقينُ بنُصرةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ لدينِه: فالمؤمن يستحضر نُصرةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ لدينِه، وامتلاءَ القَلبِ يقينًا وصِدْقًا بوَعدِ ربِّه تعالى، وهذا لا بدَّ أن يكونَ مُصاحبًا لكلِّ مريدٍ للقوَّةِ في الدِّينِ، ولاسيَّما زَمَن الفِتَن والمحَنِ ،ولذلك عندما أحسَّ أصحابُ موسى عليه السَّلامُ بخُسرانِ المعركةِ أمامَ فِرعَونَ ومَلَئِه، وظنُّوا انتصارَ الباطِلِ على الحقِّ؛ أظهَرَ اللهُ عزَّ وجل على لسانِ موسى عليه السَّلامُ -المأمورِ بالقوَّةِ في الدِّينِ- ما كان يحمِلُ في قَلبِه من يقينٍ وثقةٍ بنصرِ اللهِ تعالى لدينِه وعبادِه المؤمنين، فقال اللهُ عزَّ وجَلَّ -حاكيًا حالَه وحالَهم-: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم} [الشعراء: 61 – 63]. وعلى القويِّ في دينِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ألَّا يستبطئَ وَعْدَ الله تعالى في نُصْرةِ دينِه، وأن يسعى في مؤازرةِ إخوانِه ، وتذكيرِهم بهذا الوعدِ؛ اقتداءً بفِعلِ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا استبطأ قومُه النَّصْرَ واستطالوا عَهْدَ اللهِ، فعبدوا العِجْلَ ، قال تعالى : {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 86]. أما الأساسُ الرَّابعُ من أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل: الحِرصُ على مذاكرةِ ما في الكتابِ والسُّنَّةِ : فكيف لمؤمنٍ يريدُ أن يكون قويًّا في دينِ الله عزَّ وجَلَّ، حاملًا همَّ تبليغِه وتبيينِه للنَّاسِ، فإذا فتَّشت عن قراءتِه -فضلًا عن مذاكرتِه- لكتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وسُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجدتها تبلُغُ من الضَّعفِ قدْرًا كبيرًا! لَمَّا أمَرَ اللهُ بني إسرائيلَ بأخذِ ما آتاهم من التوراةِ بقوَّةٍ، أشار سبحانه إلى ما يُعينُهم على هذا الأمرِ، فقال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] أي: خذوا التَّوراةَ بقوَّةٍ واتلوها وادرُسوها واعمَلوا بما فيها؛ لتكونوا من أهلِ التقوى، فكذلك كُلُّ من أراد القوَّةَ في دينِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، عليه أن يكونَ حريصًا على ذِكْرِ ما وَرَد في الكتابِ والسُّنَّةِ، وعلى العَمَلِ بموجِبِه؛ ليَقْوَى في دينِه، وليوصِلَه بعد ذلك بإذنِ اللهِ إلى العلَّةِ المذكورةِ في الآيةِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ما زال حديثنا موصولا عن قوله تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة (63)، أما الأساسُ الخامِسُ من أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل: عَدَمُ الانسياقِ لرَغَباتِ النَّفسِ وشَهَواتِها فالمؤمِن إذا اشتغل قلبُه بالدُّنيا، وتعلَّقت نفسُه بشَهواتِها، صَعُب عليه التقوِّي في دينِ الله تعالى، والاجتهادُ في طاعته؛ ولذلك لَمَّا وَصَف اللهُ عزَّ وجَلَّ نبيَّه يحيى عليه السلامُ -المأمورَ بالقُوَّةِ في الدِّينِ- وَصَفَه مُثنيًا عليه بأنَّه يَحصُرُ نَفْسَه ويحبِسَها عن الشَّهواتِ والملذَّاتِ المباحةِ فَضلًا عن المحرَّمةِ، فقال تعالى مخاطبًا زكريا عليه السَّلامُ: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] ، وأما الأساسُ السَّادِسُ من أُسُسِ القوَّةِ في دينِ اللهِ عزَّ وجل: الارتباطُ بالصَّالحين والتقوِّي بهم: فعلى المؤمن أن يكونَ على ارتباطٍ وثيقٍ، واتصالٍ متينٍ، بإخوانِه الصَّالحين المصلِحين؛ ليشدُّوا من عَزْمِه، وليصدِّقوه في دعوتِه، وليزدادَ بهم رسوخًا وثباتًا على أمرِه؛ ولذلك سأل موسى عليه السَّلامُ -وهو المأمورُ بالقوَّةِ في الدِّينِ- ربَّه سبحانه وتعالى أن يُرسِلَ معه أخاه هارونَ عليه السلامُ؛ ليزدادَ به قوَّةً على قوَّتِه، فقال تعالى- على لسان موسى-: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 34، 35]. وعلى القويِّ في دينِ الله عزَّ وجَلَّ أن يتحمَّلَ كُلَّ التَّبِعاتِ التي قد تنشأُ من أخْذِه للدِّينِ بقوَّةٍ؛ فمن طبيعةِ هذا الدِّينِ أنَّ المستمسِكَ به يلاقي ما لا يلاقيه غيرُه من الضُّعَفاءِ المتنازِلين، وذلك من حكمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وهي فتنةٌ يمحِّصُ اللهُ عزَّ وجَلَّ بها عبادَه وأولياءَه، واللهُ تعالى قادرٌ على نَصْرِ دينِه وإعزازِ كَلِمتِه دونَ أدنى جُهْدٍ من البَشَرِ، ولكنَّ الأمرَ وُكِلَ إليهم للابتلاءِ والتمحيصِ؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. فهل نحن ممن يَصْلُحُ أن يكونَ من هذه الطَّائفةِ القويَّةِ التي تنصُرُ دينَها، وتصبِرُ على ما تُبتلى به؟ إذا كنَّا نغشى بعضَ المخالفاتِ الشرعيَّة، ولا نستطيعُ قيامَ اللَّيلِ أو الوِترَ على الأقَلِّ، وكلَّما هبَّت ريحُ شُبهةٍ أمالَتْنا، أو شهوةٍ أناخَتْنا!
الدعاء