خطبة حول معنى الحديث ( لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ )
فبراير 14, 2023خطبة عن (مواقف ضحك رسول الله فيها أو تبسم)
فبراير 15, 2023الخطبة الأولى (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الانفال (70)
إخوة الإسلام
هذه الآية الكريمة نزلت في أسرى غزوة بدر: ففي التفسير الميسر: يا أيها النبي قل لمن أسرتموهم في “بدر”: لا تأسوا على الفداء الذي أخذ منكم، إن يعلم الله تعالى في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم من المال، بأن يُيَسِّر لكم من فضله خيرًا كثيرًا – وقد أنجز الله وعده فكان من بين الأسرى العباس عم رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما طُلب منه الفداء، ادَّعى أنه مسلم قبل ذلك، فلم يسقطوا عنه الفداء، ففي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِى أَسَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو الْيَسَرِ بْنُ عَمْرٍو (وَهُوَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو) أَحَدُ بَنِى سَلِمَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «كَيْفَ أَسَرْتَهُ يَا أَبَا الْيَسَرِ». قَالَ لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُه بَعْدُ وَلاَ قَبْلُ، هَيْئَتُهُ كَذَا هَيْئَتُهُ كَذَا. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ». وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ «يَا عَبَّاسُ افْدِ نَفْسَكَ، وَابْنَ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ جَحْدَمٍ». أَحَدُ بَنِى الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، قَالَ: فَأَبَى، وَقَالَ: إِنِّى قَدْ كُنْتُ مُسْلِماً قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُونِي . قَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِشَأْنِكَ، إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي حَقًّا، فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْسِبْهَا لِي مِنْ فِدَايَ. قَالَ «لاَ ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ اللَّهُ مِنْكَ». قَالَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِي مَالٌ. قَالَ «فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ، حَيْثُ خَرَجْتَ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ، وَلَيْسَ مَعَكُمَا أَحَدٌ غَيْرَكُمَا – فَقُلْتَ إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَلِلْفَضْلِ كَذَا، وَلِقُثَمَ كَذَا وَلِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا». قَالَ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَلِمَ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي وَغَيْرُهَا وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ).
وفي صحيح البخاري: (قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ – رضي الله عنه – أَنَّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ . فَقَالَ «لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا»، قال العباس: فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني: – عشرين أوقية من مال كان معي-.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، ذاك شيء أعطانا الله منك» .ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه. فأنزل اللّه تعالى جبرا لخاطره ومن كان على مثل حاله. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} أي: من المال، بأن ييسر لكم من فضله، خيرا وأكثر مما أخذ منكم. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم، ويدخلكم الجنة،
هذا وقد أنجز اللّه تعالى وعده للعباس وغيره، فحصل له ـ بعد ذلك ـ من المال شيء كثير، حتى إنه مرة لما قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مال كثير، أتاه العباس فأمره أن يأخذ منه بثوبه ما يطيق حمله، فأخذ منه ما كاد أن يعجز عن حمله. ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ». وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «خُذْ». فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُهُ إِلَيَّ. قَالَ «لاَ». قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ «لاَ ». فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ. قَالَ «لاَ». قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ «لاَ». فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ)، وقال العباس: (فَأَعْطَانِي اللَّهُ مَكَانَ الْعِشْرِينَ الأَوْقَيَّةِ فِي الإِسْلاَمِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ مَعَ مَا أَرْجُو مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه البيهقي.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الانفال (70) ،فَهَذِهِ الآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ في ظَاهِرِ الأَمْرِ نَزَلَتْ في حَقِّ سَيِّدِنَا العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَو في حَقِّ أُسَارَى بَدْرٍ، فَهِيَ مُطْلَقَةٌ، لِأَنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. فهي لكل لمسلم في كل زمان ومكان، فكل من يعلم الله تعالى فيه الخير، يكافئه الله بالخير في الدنيا والآخرة،
وفي هذه الآية: يلمس الله تعالى فيها قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء، وتطلق فيها الأمل، وتشيع فيها النور، وتعلقها بمستقبل خير من الماضي، وبحياة أكرم مما كانوا فيه، وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار، وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله، فهذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان؛ فيعلم الله أن فيها خيراً، والخير هو الإيمان ، فالإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه، ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح، وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى. لا ليستذلهم انتقاماً، ولا ليسخرهم استغلالاً؛ كما كانت تتجه فتوحات الرومان؛ وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام.
وفي هذه الآية: (تربية قرآنية لتحسين النوايا وتهذيب النفوس)، فمدار العطاء من الله سبحانه بحسب الخير والنية الصالحة التي يحملها قلبك، فمثلا: إذا أقبلت على الله تعالى بصدق نية، ورغبة لفهم كتابه، متوكلًا عليه أنه هو الذي يفتح لك الفهم، لا على نفسك فيما تطلب، ولا بما لزم قلبك من الذكر، لم يخيبك من الفهم والعقل عنه إن شاء الله. قال ابن تيمية: (ومن أحب أن يلحق بدرجة الأبرار ويتشبه بالأخيار، فلينوِ في كل يوم نفع الخلق، فيما يسر الله من مصالحهم على يديه)، وعلى العكس من ذلك فمن نوى الشر كافأه الله بمثله، ففي قصة أصحاب الجنة ، في قوله تعالى:{ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} القلم (17)، فماذا كان الجزاء: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) القلم (19) ،(20)، فنيران النوايا الرديئة التي عصفت بقلوبهم، أحرقت جنتهم، فبقدر النوايا، تكون العطايا.
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾: فيه بيان بأن عوض الله لا يكون بقدر المفقود، بل خيراً منه، وكلما انشغل المرء بإصلاح سريرته، تتابعت عليه الخيرات، فما أعظم شأن النوايا الحسنة والطيبة، ولطالما جاء عوَض الله غزيرًا كريمًا، يُنسِيك كل مرارة تذوّقتها، فالله تعالى لا ينسى أمنياتك التي سكنت فؤادك، ولكن، قد يؤجّلها قليلاً، لتنمو بصورة أكمل وأفضل، حتي إذا جاءتك، جاءت مبهرة، فعد إلى اللّه. وتب إليه. وطهر قلبك. فسيعطيك أكثر مما أخذ منك. وسيغفر لك. فهو سبحانه وتعالى لا يخلف وعده .
وفي قوله تعالى: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): ففِي الآيَةِ إِرْشَادٌ للأُمَّةِ بِأَنَّ اللهَ تعالى يَنْظُرُ إلى قُلُوبِ العِبَادِ وَمَا فِيهَا، كَمَا جَاءَ في صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». فَاللهُ تعالى يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لِأَنَّ اللهَ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (16) ق. فَاللهُ تعالى يُعَامِلُ خَلْقَهُ مِنْ خِلَالِ مَا تَحْتَوِيهُ قُلُوبُهُمْ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الفتح (18).َفصَاحِبُ القَلْبِ التَّقِيِّ النَّقِيِّ يَتَوَلَّاهُ اللهُ تعالى وَيُسَدِّدُهُ في جَمِيعِ شُؤُونِهِ، وَيُؤْتِيهِ خَيْرَاً مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ في سَائِرِ أَحْوَالِهِ.
لِذَا فعَلَيْنَا أَنْ نَهْتَمَّ بِطَهَارَةِ قُلُوبِنَا، وَأَلَا يَرَى فِيهَا الله إِلَّا مَا يُرْضِيهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِيهَا خَيْرَاً لَا شَرَّاً، وَخَاصَّةً عَلَى خَلْقِ اللهِ تعالى، فإِذَا تَطَهَّرَتِ القُلُوبُ اسْتَقَامَتِ الجَوَارِحُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» رواه الشيخان عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
الدعاء