خطبة عن (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِيني وَدُنْيَايَ)
مايو 1, 2023خطبة عن ( هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ )
مايو 2, 2023الخطبة الأولى (اقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في موطإ مالك: (عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» ، وفي رواية: (وإذا أردتَ بعبادِك فتنةً فاقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ)، وفي سنن الترمذي: (وإذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوفَّني غيرَ مفتونٍ)
إخوة الإسلام
في صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، (فقَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، فالتعوذ من الفتن أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحث النبي أمته على اللجوء إلى الله تبارك وتعالى، والاحتماء به من نزول الفتن،
وفي هذا الحديث المتقدم: كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» ،وفي رواية: (وإذا أردتَ بعبادِك فتنةً فاقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ)، وفي رواية: (وإذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوفَّني غيرَ مفتونٍ): والمعنى: وإذا أردت أن توقع بقوم فتنة وعقوبة في الدين، أو عقوبة دنيوية من البلايا والمحن والعذاب، فتوفّني إليك قبل وقوعها، وافتتان الناس بها؛ وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: (المقصود من هذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدنيا مدة حياته، فإن قدر الله عز وجل على عباده فتنة قبض عبده إليه قبل وقوعها، وهذا من أهم الأدعية، فإن المؤمن إذا عاش سليماً من الفتن، ثم قبضه الله تعالى إليه قبل وقوعها، وحصول الناس فيها: كان في ذلك نجاة له من الشر كله)، ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: (وهذا ليس دعاء على نفسه بالموت، وإنما هو دعاء بالموت على صفة معينة، وهي اقبضني غير مفتون)، فالمقصود من هذا الدعاء العظيم السلامة من الفتن طول الحياة، والنجاة من الشر كله قبل حلوله، ووقوعه، وأن يتوفّاه اللَّه تعالى سالماً معافىً قبل حلول الفتن، وهذا لا شك من أهم الأدعية، لأنه من أعظم الأماني، أن يحيى المؤمن معافىً سليماً مدة حياته من الفتن والمحن، ثم يقبضه اللَّه تعالى إليه قبل وقوعها؛ وفي الحديث: جواز الدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين، كما جاء في مسند أحمد: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقُلُّ لِلْحِسَابِ»، وقال الحافظ ابن حجر- رضي الله عنه: ” وفيهِ دليلٌ عَلَى استحبابِ الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرءُ أنه متمسكٌ فيها بالحق؛ لأنها قد تفضي إلى وقوع ما لا يرى وقوعه).
أيها المسلمون
وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – التعوذُ بالله من كثير من الفتن، ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه: (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه – قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُعَلِّمُنَا هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ»، وفيه أيضا: (أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَتَعَوَّذُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»، وفي الصحيحين: (كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، وغيرها الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفتن،
ومن المعلوم أنه ما من أحد منا إلا أصابته الفتن، فقد قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} العنكبوت (1) (2)، فليس أحد منَّا إلا وهو مختبَر، فمادة الحياة وموضوعها هو البلاء، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك (2)، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الانبياء (35)، ونحن عندما نقول: (نعوذ بالله من الفتن)، فنحن لا نسأل الله عز وجل ألا يختبرنا، فما منا إلا وهو مختبَر، ولكننا نسأل الله عز وجل أن يقينا الصوارف التي تصرفنا عن الحق، ونسأل الله عز وجل ألا نسقط فيما نُختبر به، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستعاذة بالله من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن؛ ففي صحيح مسلم: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ « قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ »
والفتنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واسعة وعريضة، كما هي الآن، فرغم كل الشدائد التي مر بها الصحابة في أول المبعث، لكن ما يأتي من الفتن بعد ذلك أشد، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يحدث الأمة ويخبرها بحالها، كما في صحيح مسلم: (اجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ».
والفتنة لا تُصيب الناس خبط عشواء، بل لها أسباب، ولها مقدِّمات، فمتى ما جاءت هذه الأسباب أدرك الإنسان من الفتنة ما يدركه، وذاك لأن الفتن يُختبَر فيها الناس لِيُرَى إيمانهم، وليرى ما معهم من الصدق، وليرى ما معهم من الإقبال على الله والصبر على دينه. ولذلك السعيد من جُنِّب الفتن، ووُقي شرها، ففي سنن أبي داود: (عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ وَلَمَنِ ابْتُلِىَ فَصَبَرَ فَوَاهًا ».ولذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم – يستشعرون الفتنة ويبادرون إلى المعالجة. وفي قصة أبي طلحة رضي الله عنه شاهد ودليل: ففي سنن البيهقي، وموطإ مالك: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطٍ لَهُ فَطَارَ دُبْسِيٌّ، فَطَفِقَ يَتَرَدَّدُ يَلْتَمِسُ مَخْرَجًا فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ سَاعَةً ،ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صَلاَتِهِ، فَإِذَا هُوَ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ فَقَالَ : لَقَدْ أَصَابَنِي فِي مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي حَائِطِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ صَدَقَةٌ فَضَعْهُ حَيْثُ شِئْتَ).
أيها المسلمون
والفتن تتعلق بالقلوب، فإذا كانت القلوب سليمة صحيحة، راشدة نقية، طاهرة طيبة، سلِمت من الفتن، وإذا كانت القلوب غافلة مريضة، أو حتى ميتة، تمكنت منها الفتنة، فزادتها هلاكًا فمفتاح النجاح في الفتن: هو ما في صدرك، وما بين جنبيك؛ إنه القلب، فأن كان صالحا فأبشر بالنجاة، وان كان فاسدا فتدارك نفسك قبل الهلاك. وفي صحيح مسلم: (قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ». ولذلك يجب على المؤمن أن ينظر إلى قلبه، فإن كنت ذا قلب سليم فأبشر، فالنجاة تلوح في الأفق، وإن كنت ذا قلب مريض، أو قلب ميت، فتدارك نفسك قبل أن تزداد هلاكًا وموتًا، فإن القلوب هي مراكب النجاة زمن الفتنة،
والفتن ألوان وأشكال، فمن الناس من فتنته المال، ومنهم من فتنته النساء، ومنهم من فتنته الجاه، ومنهم من فتنته المناصب، ومنهم من فتنته الولد، ومنهم من فتنته العقار، ومنهم من فتنته الأسهم، وهكذا، فمن سلم من فتنة، فقد لا يسلم من الأخرى، وفي الجملة الفتن نوعان: فتن شبهات، وفتن شهوات. ففتن الشبهات تتعلق بالعلم والمعرفة، وأما فتن الشهوات فتتعلق بالإرادة والقصد والرغبة. وكلاهما خطر على القلب، وكلاهما مفسِد للقلب إذا استسلم له الإنسان، وبُلِي به، ولكن فتن الشبهات أعظم خطرًا وأشد إفسادًا للقلب من فتن الشهوات، وكلاهما من أسباب هلاك القلب وفساده، وهو ما يوجب وقاية القلوب من هذا وذاك.
واليوم حياة الناس مليئة بالنوعين من الفتن؛ ففتن الشبهات بالأفكار المنحرفة، والآراء الصادة عن دين الله عز وجل، من التشكيك والتشبيه والمعارضة لشرع الله تعالى، والطعن في أحكام الشريعة، والنيل من أولياء الله عز وجل، والاستهزاء بالصالحين، وما أشبه ذلك، أما القسم الثاني من الفتن: ففتن الشهوات بشتى صورها، سواء كان ذلك في المال، أو في النساء، أو الانحرافات العملية والسلوكية، فكل ذلك مندرج تحت فتن الشهوات،
أيها المسلمون
وللوقوع في الفتن أسباب: فمن أسباب الوقوع في الفتن: الاستشراف لها، أي: التعرض للفتنة، سواء كانت فتنة خاصة أو فتنة عامة، فالذي يدخل إلى المواقع الإباحية عرض نفسه للفتن، والذي يذهب لأماكن الشر والفساد عرض نفسه للفتنة، والذي يقرأ الكتب المنحرفة عرض نفسه للفتنة، فمن الخطإ أن تعرض نفسك للفتن والهلاك؛ ففي مسند أحمد: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟!». فينبغي للمؤمن أن يبعِد نفسه عن الفتن، سواء كانت فتن شهوات أو فتن الشبهات. ولذلك كان من علامات الآخرة ودلائل قرب الساعة، أن يفر المؤمن بدينه من الفتن عندما تكثُر، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»، وجاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للفتن واضحا، ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»، لذلك كان من الضروري للمؤمن أن يأخذ بأسباب الهداية، كما في صحيح مسلم: (أن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ ». يعني العبادة في زمن الفتنة كهجرة إليّ، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اشتغل الإنسان بالعبادة زمن الفتن، وكثرة الفساد في الناس، فهو في الأجر كما لو هاجر إليه صلى الله عليه وسلم زمن الهجرة المشروعة، هذا في الأجر، وهو في الصيانة والأمان على دينه كما لو هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالعبادة زمن الفتن والشرور تثبت القلب، والمقصود العبادة بمفهومها العام؛ عبادة القلب، وعبادة البدن؛ بالاشتغال بالواجبات والمستحبات، والإقبال على الله تعالى، وكثرة الدعاء، وكثرة الذكر، فكلها مثبتات للقلوب، فإذا اشتغل بها الإنسان توقى شر الفتن وحُفِظ منها وصان الله تعالى قلبه من الضلال.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أسباب الوقاية من الفتن: اللجوء إلى الله، وصدق الإقبال عليه، والتضرع بين يديه، ومن أسباب الوقاية من الفتن: الإنابة إلى الله عز وجل، بكثرة التوبة وكثرة الاستغفار، ومن أسباب الوقاية من الفتن: المبادرة للأعمال الصالحة، لذلك جاء في صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».فانظر إلى عملك وصلتك بالله عز وجل، وبادر إلى الصلاح والاستقامة، وحافظ على الصلوات، ومن أسباب الوقاية من الفتن: التقوى؛ فإن الله تعالى قد أمر المؤمنين بالتقوى فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الانفال (25) . ووعد الله تعالى المتقين بالمخرج من كل ضيق؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق (2) ،(3) ،
ومن أسباب الوقاية من الفتن: الاستجابة لله ولرسوله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الانفال (34). ومن أسباب الوقاية من الفتن: الخوف من الفتنة، وعدم الأمن من مكر الله، ولذلك كان من دعاء الصالحين والنبيين الصادقين أن يتوفاهم الله تعالى على الإيمان، فهذا يوسف عليه السلام يقول: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يوسف(101)، وإبراهيم عليه السلام يدعو الله أن يقيه شر الأصنام وعبادتها فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} إبراهيم (35). ومن الأسباب العظيمة التي بها تحصل النجاة من الفتن: الإقبال على القرآن العظيم، فبقدر ما يكون معك من الإقبال على كتاب الله عز وجل، بقدر ما تحيا روحك ويسلم قلبك، ويستنير فؤادك، وتبصر مواقع الهدى، وتخرج من الظلمات إلى النور، فبقدر ما يقبل المرء على القرآن تلاوة، وحفظًا، وفهمًا، وتدبرًا، وعملًا، ودعوة، ينال من الهداية، ويتوقى سبل الردى والضلالة. ومن أسباب الوقاية من الفتن: التحلي بالصبر، ولذلك كان أعظم ما يعطاه العبد الصبر، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ « مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لاَ أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ »
الدعاء