خطبة عن (من أسباب صلاح الحال والبال)
مايو 14, 2023خطبة عن (وقفات مع: سورة الْبَلَدِ)
مايو 15, 2023الخطبة الأولى (التمسوا الأعذار للآخرين)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه بسند حسنه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ فَقَالَ «كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً»
إخوة الإسلام
من الكلمات الدارجة بين العقلاء من الناس: (التمس لأخيك سبعين عذرا)، وقولهم: «إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً أجهله». وقد رُوي عن عمر بن الخطاب، قوله: «لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً». وقال عمر بن عبد العزيز: “أعقل الناس أعذرهم لهم”.
فالتماس الأعذار للآخرين من أهم المفاهيم الغائبة عن كثير من الناس، وهذا منهج إسلامي أصيل، دعانا الله تعالى إليه، وحثنا عليه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فالأصل في المسلم السلامة، وحمل أمر الآخرين على أحسن المحامل، فيلتمس لهم الأعذارـ ما لم يتبين خلاف ذلك، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) {الحجرات:12}، وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»، وفي الحديث المتقدم: روى الإمام الترمذي في سننه بسند حسنه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ فَقَالَ «كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً»، وفي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي خَادِماً يُسِيءُ وَيَظْلِمُ أَفَأَضْرِبُهُ قَالَ «تَعْفُو عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً».
ويعتبر التماس الأعذار وعدم مؤاخذة الناس على أخطائهم من كمال الفهم، ورجاحة العقل، ومن الرشد في الخلق، وهو من أكبر الشيم التي ينعم بها الإنسان المنصف، فمن قبل الأعذار والتمس للناس العذر، وتجاوز عن إساءة المسيئين، وصفح عن خطإ المخطئين، كان من أنعم الناس قلبا، ومن أهداهم نفسا، ومن أشرحهم صدرا. يقول شوقي -رحمه الله-: (رُزقت أكرم ما في الناس من خلق *** إذا رُزقت التماس العذر في الشيم)، فالتماس العذر للناس في قصور، أو تقصير، هو من أعلى شيم الأخلاق، ومن أكبر محاسنها؛ لأنه دليل على الأخلاق الفاضلة، فلا غل، ولا حقد، ولا حسد، ولا ضغينة، ولا سوء ظن، بل العكس حسن ظن بالناس.
والتماس الأعذار للناس ينبئ عن علم الإنسان بواقعه، فالإنسان المنصف يعلم أن الصوارف والعوارض والشواغل قد تمنع الانسان أحيانا من تحقيق ما وعد به، أو ما يريده، لذا، فينبغي أن يلتمس بعضنا لبعض العذر في حال الإخلال بذلك البر أو الصلة المطلوبة، فمن الإنصاف أن يكون الإنسان ذا عذر للناس، فالإنسان إذا كان يعذر الآخرين فهذا دليل على سلامة قلبه، ورحابة صدره، وسمو خلقه وحلمه، ولديه قدرة على أن يعيش مع الخلق.
أما الذي يعاتب الناس على كل صغيرة وكبيرة، ويؤنب عليها، ويجعل منها مشكلة كبرى، فلن يستمر معه أحد، فالقلب السليم النقي يحرص غاية الحرص على أن يكون سليما لإخوانه، وعلى خلافه، ذلك القلب الذي ملأ بالشكوك والأوهام، وأطلق للهواجس العنان، فإنه سيظن سوءً فيمن لا هو قريب من السوء، ولا هو من أهل السوء. فلذلك، ينبغي أن نطهر قلوبنا، وأن نحسن الظن بإخواننا، وأن نغالب أنفسنا، فتسعة أعشار العافية في التغافل،
أيها المسلمون
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المثل في حسن الظن بالآخرين، والتماس العذر للمخطئين، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَهْيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا»، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيرا فأغناه الله): فهذا توصيف وتشخيص أنه كان ناشئا عن بخل، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدا، فإنه احتبس أدرعه وَأَعْتِدَهُ في سبيل الله” فليس عنده مال، كل ماله في سبيل الله، فعما يخرج؟ فالمال لا تجب فيه الزكاة إلا إذا كان مملوكا، وما كان مملوكا لله -وكلنا ملك لله- لا تجب فيه الزكاة، فالموقوف لا زكاة فيه، وقد أوقف كل ماله في سبيل الله. وأما العباس، قيل في سبب ذلك: أن العباس قد زكاه سنتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “فهي علي ومثلها” أي أني قبضتها منه.
فينبغي أن يسعى الإنسان جاهدا في طلب العذر للناس، وألا يؤاخذهم، لا سيما في مقام النقل والقول، لا في مقام الحكم والمطالبة، فينبغي ألا يأخذهم بالظنون، وعن محمد بن سيرين أنه قال: إذا بلغك عن أخيك شيء فالْتَمِس له عذرا، فإن لم تجد له عذرا، فَقُل: له عذر، وعن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: إذا بلغك عن أخيك الشيء تُنْكِره فالْتَمِس له عُذْرا واحِدًا إلى سبعين عُذْرًا، فإن أصبته وإلاَّ قُل لَعل له عذرا لا أعرفه. ويوما مرض الإمام الشافعي، فعاده بعض إخوانه، فقال للشافعي: قوى الله ضعفك، قال الشافعي: لو قوّى ضعفي لقتلني، فقال الرجل مستدركا: والله ما أردت إلا الخير. فقال الشافعي ملتمسا له العذر بأخلاق العلماء: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( التمسوا الأعذار للآخرين )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
لقد أصبح الخطأُ في زماننا أقرب إلى جُرمٍ لا يُغتَفر، فبمجرد أن ترتكب هفوةً بسيطةً إلا وتجدُ الألسنة الحارقة لكَ بالمرصاد، فأين هو ذاك الإنسان الذي يُقدّر حالة أخيه النفسية، أو المادية، فلا يكترثُ إن هو رأى منه موقفاً يحيد عن الصواب والاحترام، لأنه يتفهّم واجبَ التماسِ العذرِ له حتى تنتهيَ المسبّبات، فأين هو ذاك الإنسان الذي لا ينزعجُ إن رأى غيرَهُ يجتاز الطريق من غير الموضع المخصّص لذلك، فيقولُ في قرارة نفسه: لعلّه شاردٌ من مصيبةٍ ألمّت به، أو من خبرٍ عكّر صفو مزاجه، فيلتمس له العذر، دون أن يفتح نافذة سيارته، لينهالَ عليه بكل ألوان الشتائم، وأين هو ذاك الإنسان الذي يرى صاحبه وقد غيّر طريقه إلى الجهة الأخرى، حتى يتفادى لقاءَه، كونه مدينا له بدينٍ فيتحاشاه، لأنه يعرف تمام المعرفة أن صديقَه يمر بحالة مادية صعبة، فلا داعي لأن يُطالب بدينه، أو يجرحَ مشاعره، فيجعله في موقفٍ لا يُحسد عليه، ويعلم كذلك أن صديقه هذا لن يتردًد لحظة واحدة، في سداد ما بذمّته، متى حَسُنت وضعيته، واستقرّت أحواله، وأين هو ذاك المعلم النبيل الذي لا يُكسّر عصاه على ظهر تلميذه، إن غفل عن إعداد واجباته المنزلية، كونه يعلم أن تلميذه مغلوبٌ على أمره، يعيش أوضاعاً مزرية، ولا يملك حتى مصباحا صغيرا، يسمح له بمراجعة دروسه في ظلمة الليل الحالك، وأنين البطن الخاوية. وأين هو ذاك الغني المُقدّر لفضل الله عليه، والذي لا يطرُد عامله إن هو حطم بعض الأغراض دون تعمد، فصاحب المشروع يرى عامله متعباً يتصبّب عرقاً تحت أشعة الشمس الحارقة، ولساعات طويلة، يُضنيه الجوع والعطش، دون أن تشكل له هذه الصورة المؤلمة عذراً يشفع للعامل في ما أتلفَ من أشياء صغيرة، وأين هو ذاك الإنسان الذي يعذر شخصاً وجده مستلقياً أمام باب منزله، يمنعه من الخروج، فلا يركله ركلاً برجليه، وإنما يزيحه برفقٍ، وقد يُقدّم له بعض الطعام،
فالتماس العذر تجاه الآخر جزءٌ من الرحمة، إن لم نقل تجليا للرحمة الحقيقية ذاتِها، فلا يمكننا أن نعيش دون أن نخطئ، لأن الخطأ واردٌ في تصرفات الإنسان، مثلما هو واردٌ شهيقه وزفيره ، ولأن العذر هو بمثابة إيذان بفرصة أخرى، قد يجدها المعذور درساً عظيماً يُقوّمه طول حياته ، فيعذرُ بدوره ويصفحُ لزلاّت الآخرين، وقد يكون العذر بمثابة القشّة التي تُجنّب الإنسان الخوض في حروبٍ طاحنة، والدخول في خلافاتٍ لا آخر لها، تنشبُ من مشكلٍ تافهٍ، كان الأولى أن يُخمدَ شرارتَه عذرٌ بسيط، ولننظر لحال العالم من حولنا، وما فيه من بؤرِ توترٍ مشتعلة، فمن الوارد جدا أن يكون التماس الأعذار بين المتنازعين سبباً في تجنّب العديد من الصدامات الدامية، والمواجهات العنيفة، التي حصدت أرواح الآلاف من البشر، وشرّدت أسراً وعوائل، ويتّمت أطفالاً وأبادت أمَما. ألا فالتمسوا الأعذار للأخرين.
الدعاء