خطبة عن (التمسوا الأعذار للآخرين)
مايو 15, 2023خطبة حول حديث (ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ)
مايو 16, 2023الخطبة الأولى (وقفات مع: سورة الْبَلَدِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (1): (10) البلد
إخوة الإسلام
مِنَ سُّوَرِ القرآن الكريم الْعَظِيمَةِ: (سُوْرَة الْبَلَدِ)، فقد حَوَتْ هذه السورة مَعَانِيَ عِدّةً، ووصايا عظيمة، فَقَدِ افْتَتَحَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَسَمٍ عَظِيمٍ، عَلَى حَقِيقَةٍ ثَابِتَةٍ: فقال الله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) ، وَقَسَمُهُ سبحانه وتعالى بِالْبَلَدِ -أَيْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ- وَعَطْفُ ذِكْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، فِيهِ دَلالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهَا، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهَا، وَزِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، بِمَا أَضَافَهُ اللهُ تعالى إِلَيْهَا مِنْ نُزُولِ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهَا، ثُمَّ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالْوَالِدِ وَالْمَوْلُودِ فِي قَوْلِهِ تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) ، لِيَلْفِتَ نَظَرَنَا إِلَى رِفْعَةِ قَدْرِ هَذَا الطَّوْرِ مِنْ أَطْوَارِ الْوُجُودِ، وَهُوَ طَوْرُ التَّوَالُدِ وَإِلَى مَا فِيهِ مِنْ بَالغِ الْحِكْمَةِ، وَإِتْقَانِ الصَّنْعَةِ. وَبَعْدَ تَوَالِت هَذِهِ الأقْسَامِ، يَأْتِي الْجَوَابُ بِتَقْرِيرٍ مُهِمٍّ، أَلا وَهُوَ: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، فبَعْدَمَا قَرَّرَتِ السُّورَةُ طَبِيعَة الْحَيَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ، تَنْتَقِلُ إِلَى مُنَاقَشَةِ بَعْضِ دَعَاوَى الإِنْسَانِ، وَتَصَوُّرَاتِهِ وتَصَرُّفَاتُهُ، فقَالَ سُبْحَانَهُ: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)، وَمَا ذَلِكَ إلاَّ نِسْيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِ، مِنْ خَلْقِهِ فِي كَبَدٍ وَعَنَاءٍ، وَانْخِدَاعُهُ بِمَا يُعْطِيهِ خَالِقُهُ مِنْ أَطْرَافِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْوِجْدَانِ وَالْمَتَاعِ، فَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الَّذِي لا يَحْسَبُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِعَمَلِهِ، وَلا يَتَوَقَّعُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ قَادِرٌ فَيُحَاسِبَهُ، فَيَطْغَى وَيَبْطِشُ، وَيَسْلُبُ وَيَنْهَبُ، دُونَ أَنْ يَخْشَى، وَدُونَ أَنْ يَتَحَرَّجَ، ظَانًّا أَنْ قُدْرَة اللهِ سُبْحَانَهُ لَنْ تَبْلُغَهُ، وَهَذَا هُوَ حَالُ الإِنْسَانِ الَّذِي يَعِيشُ فِي غَبَشٍ مِنَ التَّصَوُّرِ، وَفِي انْحِرافٍ عَنِ الْجَادَّةِ، وَهَذِهِ هِي صِفَةُ الإِنْسَانِ الَّذِي يَعْرَى قَلْبُهُ مِنَ الإِيمَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا دُعِيَ إِلى الْخَيْرِ وَالْبَذْلِ، قال تعالى: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، وَأَنْفَقْتُ شَيْـئًا كَثِيرًا فَحَسْبِي مَا أَنْفَقْتُ وَمَا بَذَلْتُ (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ): أَيَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ مُرَاقَبَةٌ فِيمَا يَأْتيهِ ومَا يَذَرُهُ؟ لَقَدْ نَسِيَ أَنَّ عِلْمَ اللهِ مُحِيطٌ بِهِ، فَهُوَ يَرَى مَا أَنْفَقَ، وَلِمَاذَا أَنْفَقَ؟ إِنَّهُ الْغُرُورُ بِعَيْنِهِ، يُخَيِّلُ لَهُ أَنَّهُ ذُو مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ، وَرُبَّمَا أَدَّى بِهِ إِلَى زَعْمِ أَنْ مَالَهُ سَيُخْلِدُهُ (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)،
ولَمْ تَقِفْ هَذِهِ السّورَةُ فِي مُنَاقَشَةِ ذَلِكُمُ الإِنْسَانِ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِّ، بَلْ جَابَهَتْهُ بِفَيْضِ الآلاءِ والنعم عَلَيْهِ، فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي صَمِيمِ تَكْوِينِهِ، وَفِي خَصَائِصِ طَبِيعَتِهِ وَاسْـتِعْدَادَاتِهِ، تِلْكَ الآلاءُ والنعم الَّتِي لَمْ يَشْكُرْهَا، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّهَا ، قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ): إنه اسْـتِفـْهَامُ إِنْكَارٍ لِلْحَالِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، مِنَ الْغُرُورِ وَالطَّيْـشِ وَالاستِكْبَارِ، عَلَى الله الْخَالِقِ الْغَفَّارِ، وَتَذْكِيرٌ بِهَذِهِ الآلاءِ وَالنِّعَمِ، الَّتِي مَنْ تَأَمَّلَ فِيهَا ذَهِلَ لُبُّهُ وَحَارَ، فكَيْـفَ أَبْدَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلْقَهَا إبدَاعًا عَجِيبًا، قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات (21)،
فلَوْ تَفَكَّرَ الإِنْسَانُ فِي عَيْنَيْهِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ تَرَاكِيبَ وَحِمَايَةٍ وَمَنْطِقَةٍ لِلإِبْصَارِ، وَغُدَدٍ شَتَّى لِلتَّرْطِيبِ وَالتَّطْهِيرِ، وَقَنَوَاتٍ لِتَصْرِيفِ السَّوَائِلِ، وَعَضَلاتٍ تَعْمَلُ دُونَ أَنْ نَشْعُرَ، لِتَتَّزِنَ الْعَيْنُ فِي حَرَكَتِهَا، وَلِتُطْبِقَ الأَجْـفَانُ عَلَيْهَا، فلَوْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ: لَرَأَى الْعَجَبَ الْعُجَابَ مِنْ قُدْرَةِ الْخَلاَّقِ الْعَظيم، حَقًّا، لا يَعْرِفُ مِقْدَارَ نِعْمَةِ الْعَيْنِ إلاَّ فَاقِدُ الْبَصَرِ،
أَمَّا نعمة اللِّسَان، وَمَا أَدْرَاكَ مَا اللِّسَانُ: فَإِنَّهُ آلَةُ الْبَيَانِ، بِهِ يُعْرِبُ الإِنْسَانُ عَمَّا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَانٍ، مَعَ قِيَامِهِ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَعَمَلِيَّةِ الْـبَلْعِ وَالْمَضْغِ بِمُسَاعَدَةِ الأَسْـنَانِ، وَلا يَتِمُّ نُطْقُهُ دُونَ الشَّـفَتَيْنِ؛ فَلِذَا عُطِفَ ذِكْرُهُمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَوْدَعَ اللهُ فِي نَفْسِ الإِنْسَانِ خَصَائِصَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِدْرَاكِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْهُدَى وَالضَّلالِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، إِنَّهَا آلاءٌ ونعم مَا بَعْدَهَا مِنْ آلاءٍ ونعم، يَسْجُدُ لها الْعَاقِلُ شَاكِرًا، حَتَّى يَقْتَحِمَ جَمِيعَ الْعَوَائِقِ دُونَ رِضْوَانِ رَبِّهِ ظَافِرًا، لِمَ لا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) وَهُمَا طَرِيقَا الْخَيْرِ والشَّرِّ، فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَسْـلُكَ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَيَخْتَارَ، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الانسان (3)،
فكَانَ عَلَى الانسان أَنْ يَسْـتَعِينَ بِهَذه النعم في اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ، والْعَقَبَةِ يُبَيِّـنُهَا اللهُ لَهُ فِي قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ): فَهِيَ عَقَبَةٌ تَأْتِي صُعُوبَتُهَا مِنْ تَخَاذُلِ النُّفُوسِ، وَتَهْوِيلاتِ الشَّيْطَانِ، الَّتِي يُورِدُهَا عَلَى الْقُلُوبِ، وَإِغْرَاءَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَسْـتَمْسِكُ بِحَبْلِ اللهِ، يَعْرِفُ كَيْفَ يَقْتَحِمُهَا، قال تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) البلد (13): (16)، فبِهَذِهِ الأَعْمَالِ يَرْجُو الْمَرْءُ ثَوَابَ رَبِّهِ، وَيَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أيها المسلمون
وممَا قَرَّرَتْهُ (سُورَة الْبَلَدِ): الدَعْوَة إِلَى التَّكَافُلِ الاجْـتِمَاعِيِّ، وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْـتَمَعِ الْمُسْلِمِ، فإِذَا أَصْبَحَ هذا وَاقِعًا مُعايَشًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، بِتَعَاوُنِهِمْ، وَتَكَافُلِهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَنَاصُرِهِمْ، كَانُوا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَكَالْبُنْيَانِ المرصوص، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَمَا وَصَفَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وروى مسلم في صحيحه: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وفيه أيضا: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ». وفي الصحيحين: يقول صلى الله عليه وسلم: « ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً»، وَعِنْدَما يحقق المسلمون ذلك، تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أُمَمُ الأَرْضِ نَظْرَةَ إِعْجَابٍ وَتَقْدِيرٍ وَاحْتِرَامٍ، وَسَيَكُونُونَ فِي مُقَدِّمَةِ الْعَالَمِ حَضَارَةً وَرُقِـيًّا، وَسُمُوًّا فِكْرِيًّا وَأَدَبِيًّا وَأَخْلاقِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا وَاجْـتِمَاعِيًّا،
أَمَّا الْخُلُودُ إِلَى حَالِ التَّدَابُرِ وَالتَّنَاحُرِ، وَالتَّرَاشُقِ بِالتُّهَمِ، وَالتَّنَابُزِ بِالأَلقَابِ السَّيِّـئَةِ، فَإِنَّ الدَّائِرَةَ لَنْ تَدورَ إِلاَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِذَلِكَ كَانَ لا بُدَّ مِنَ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَالتَّوَاصِي بِالْمَرْحَمَةِ، قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) (17): (20) البلد
أيها المسلمون
لقد أنزلَ الله تعالى القرآنَ على رسوله الكريم ليعلّمه لأصحابِه وللمسلمين، وليكون منهاجاً لحياتهم يتدارسون فيه، ويطبّقون أوامره ويتجنبون نواهيه، فالعمل بالقرآن هو سرّ السعادة في الداريْن؛ الدنيا والآخرة، وترك العمل به هو سببُ الشقاء والتعاسة، فالقرآن الكريم سرّ النور الذي يشعّ من قلوب ووجوه المؤمنين. قال ابن عمر – رضي الله عنهما-: «كان الفاضلُ من أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في صدر هذه الأمَّة لا يحفظُ من القرآن إلا السورة أو نحوَها، ورُزِقوا العملَ بالقرآن». ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الأمة إلى العمل بالقرآن بعد قراءته وفهمه، لا إلى الاقتصار على القراءة فحسب، فيفعلون كما فعل بنو إسرائيل، قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78]. قال القرطبي – رحمه الله: «والأمانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وهي التِّلاوةُ». وغالِبُ المسلمين اليوم – إلاَّ مَنْ رحم ربي – لا يعلمون مِنَ القرآن إلاَّ تلاوته، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ « هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ». فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ « ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ». قَالَ جُبَيْرٌ فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلاَ تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعًا).
الدعاء