خطبة عن (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)
أغسطس 2, 2023خطبة عن قول النبي ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي )
أغسطس 5, 2023الخطبة الأولى (لا تُعدد حسناتك، ولا تُحصي صدقاتك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ – رضي الله عنها – قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنْفِقِي – أَوِ انْضَحِي أَوِ انْفَحِي – وَلاَ تُحْصِي فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ». وفي مسند احمد: (أَنَّ عَائِشَةَ تَصَدَّقَتْ بِشَيْءٍ فَأَمَرَتْ بَرِيرَةَ أَنْ تَأْتِيَهَا فَتَنْظُرَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْكِ»، وفي سنن أبي داود: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ عِدَّةً مِنْ مَسَاكِينَ – قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ غَيْرُهُ أَوْ عِدَّةً مِنْ صَدَقَةٍ – فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَعْطِي وَلاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ عَلَيْكِ ».
إخوة الإسلام
إن من وسائل الشيطان في إغواء الإنسان: أن يشغله بإحصاء صدقاته وانفاقه، وعد صالح أعماله وحسناته، فيعجب ويغتر بكثرة الحسنات، والانفاق، وهنا يجد العجب والغرور طريقا إلى قلبه، فيحبط عمله، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث المتقدمة: «أَعْطِي وَلاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ عَلَيْكِ». فاللَّهُ سبحانَه وتعالى هو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، وخزائنُه لا تَنفَدُ، وقد حَثَّ عِبادَه على الإنفاقِ، وبذْلِ الخَيرِ في وجوهِ الخير، وعدمِ الإحصاءِ والمحاسبةِ لِمَا أنفَقوا؛ لأنَّه هو الَّذي يُخلِفُ بالعوَضِ، ويَجزي بالأجرِ العَظيمِ على الإنفاقِ في سبيلِه. والله تعالى يُثيبُ على العَطاءِ بغيرِ حِسابٍ، ومَن لا يُحاسِبُ عند الجزاءِ، لا يُحسَبُ عليه عند العَطاءِ، ومَن عَلِمَ أنَّ اللهَ يَرزقُه مِن حيثُ لا يحتسِبُ، فحَقُّه أنْ يُعطِيَ ولا يَحسُبَ، ففي صحيح مسلم: (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ)، فالمعاملة من الرب سبحانه معه كذلك، فالله أحق بالجود، فمن كان كريماً مع الناس، كان الله كريما معه. ففي صحيح مسلم: (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ « أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لَهُ مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا – قَالَ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا – قَالَ يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي »
أيها المسلمون
ومن معاني الاحصاء أيضا: أن يعدد الرجل حسناته، فقد كره بعض السلف عد الحسنات، لأنه يخشى على صاحبه من الغرور، والعجب بالعمل، فيحبط عمله، وقد جاء في سنن الدارمي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه – الطويل – ، وفيه : ” قَالُوا : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: ” فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ. هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِي بَابِ ضَلاَلَةٍ. قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ. قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ).. الحديث ” فأنكر عليهم رضي الله عنه عدّ الحسنات.
ونسي من يعدد حسناته، أن الأمر مرهون بقبول العمل، وقبول العمل أمر غيبي، لا يعلمه إلا الله تعالى، ففي سنن الترمذي: (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ « لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ »
وطاعة الإنسان يجب أن لا تُغفله عن سيئاته، فمن كيد إبليس أن يُكثر عرض حسناته عليه، ليغتر، وينسيه سيئاته ليأمن، و يتفاجأ في الآخرة بميزان غير ميزانه، لذا قال بعضهم:
يا غلام: لا تغتر بطاعتك وتعجب بها، واسأل الحق سبحانه وتعالى قبولها. فعليك بسؤال الحق عز وجل أن يصلح خاتمتك، ويقبضك على أحب الأعمال إليه. قال وهب بن مُنَبِّه: عَبَدَ الله عابدٌ خمسين عاماً، فأوحى الله – عز وجل – إليه: إني قد غفرتُ لك، قال: يا ربِّ، وما تغفر لي ولم أذنبْ؟، فأذِنَ الله – عز وجل – لِعِرْقٍ في عنقه، فضرب عليه، فلم ينم، ولم يُصلِّ، ثم سكن وقام، فأتاه مَلَكٌ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق، فقال الملك: إنَّ ربَّك – عز وجل – يقول: عبادتُك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق.
أيها المسلم
فإياك إياك أن تعدد حسناتك، وتغتر بما وفقك الله إليه من عمل صالح، فيدخل إلى قلبك العُجب، فتصغر في عينيك ذنوبك، أو تحتقر غيرك، قال الله تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32]. فالحذر الحذر من هذا الداء الخفي، الذي لا ينتبه له إلا أُولو الألباب، فما بك من نعمة، أو توفيق، فمن الله وحده، فأسال المنعم والموفق على ما أعطاك وحباك واجتباك قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ” [فاطر: 3] .
يقول أحد العلماء: من أراد أن يكسر العجب، فعليه بأربعة أشياء: أن يرى التوفيق من الله تعالى ، فإذا رأى التوفيق من الله، فإنه يشتغل بالشكر، ولا يعجب بنفسه. وأن ينظر الموفق إلى النعماء التي أنعم الله بها عليه، فإذا نظر في نعمائه اشتغل بالشكر عليها، واستقل عمله، ولا يعجب به. وأن يخاف أن لا يُتقبل منه، فإذا اشتغل بخوف القبول لا يعجب بنفسه. وأن ينظر في ذنوبه التي أذنب قبل ذلك، فإذا خاف أن ترجح سيئاته على حسناته فقد كسر عجبه.
فالمؤمن يستشعر يد الله عليه، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة، ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة، ولم يقارب آياديه عليه معرفة وشكراً، قال بعض العارفين : (أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها. ورغبتهم في العلم، وتركهم العمل. والمسارعة إلى الذنب، وتأخير التوبة. والاغترار بصحبة الصالحين، وترك الاقتداء بفعالهم. وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها. وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها، ويقول سفيان الثوري (رحمه الله): (كل شيء أظهرته من عملي فلا أعده شيئًا؛ لعجز أمثالنا عن الإخلاص إذا رآه الناس).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لا تُعدد حسناتك، ولا تُحصي صدقاتك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول ابن قدامه (رحمه الله): اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك، وإيجاد أعمالك، فلا معنى لعجب عامل بعمله، ولا عالم بعلمه؛ إذ كل ذلك من فضل الله تعالى، وإنما الآدمي محل لفيض النعم عليه. قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ” [الانفطار: 7] . وقال مطرف بن عبد الله الشخير (رحمه الله): لأن أبيت نائما وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح مُعجبًا. ويقول الإمام ابن القيم: اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي مرضاة الله، مطالعًا فيه منّة الله عليه به، وتوفيقه له فيه، وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته، وفكره وحوله وقوته، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن، فالذي من عليه بذلك هو الذي منَّ عليه بالقول والفعل، فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته، ونظر قلبه، لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه، وغيبته عن شهود منّة ربه وتوفيقه وإعانته، فإذا غاب عن تلك الملاحظة، وثبّت النفس، وقامت في مقام الدعوى فوقع العجب، فسد عليه القول والعمل)، وقال رجل لتميم الداري: ما صلاتك بالليل ؟ فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: والله لركعة أُصليها في جوف الليل في سرٍّ، أحب إليَّ من أن أصلي الليل كله، ثم أقصه على الناس.
فهيا شمّر عن ساعد الجد والاجتهاد والصبر والمثابرة والمجاهدة والبذل والعطاء في سلوك طريق أهل التوفيق والرشاد، فمتى علم الله صدق نياتنا وسرائرنا، وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال. قال الله تعالى: ” وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ” [الرعد: 24] .
الدعاء