خطبة عن (إِنَّ الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)
أكتوبر 12, 2023خطبة عن الجهاد (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)
أكتوبر 14, 2023الخطبة الأولى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (130): (133) البقرة
إخوة الإسلام
إِنَّ اللَّهَ تعالى اخْتَارَ لَكُمْ هَذَا الدِّينَ، الَّذِي عَهِدَنا فِيهِ إِلَيْكُمْ، وَاجْتَبَاهُ لَكُمْ، فأحسنوا في حال الحياة، والزَموا هذا الدين الاسلامي؛ ليرزقَكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفِّق له ويُسِّر عليه، ومن نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء، في الصحيحين: «فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»؛ لأنه قد جاء في بعض الروايات في صحيح البخاري: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». وقد قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل:5 ـ10]؛
والله تعالى اختار لكم الدين الاسلامي رحمة بكم، وإحسانا إليكم، فقوموا به، واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه، حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه، لأن من عاش على شيء، مات عليه، ومن مات على شيء، بعث عليه. فَحَافِظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُوا ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً لِئَلَّا تَمُوتُوا فِيهَا فَتَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ حَيَاتَهُ فهي بَيْنَ الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ،
واعلموا أن الله تعالى أرسل رسله جميعاً بالإسلام، فأمروا قومهم أن يوحدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأن يكفروا بما عداه من المعبودات الباطلة، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) {النحل:36}، فدين الأنبياء واحد، ولكن الاختلاف بينهم في الشريعة والأحكام، قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) {المائدة:48}، وفي صحيح البخاري: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»،
ومن الملاحظ أن كل أهل دين أو ملة يدعون أن الحق معهم، ولكن الحق الذي لا مرية فيه في هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا، وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه لو جاءهم، ولما بعثه سبحانه جعل شريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع، وأوجب على العالمين اتباعه، هذا ولم يستقم أتباع موسى وعيسى عليهما السلام على أمر ربهم، فعمد الأحبار والرهبان إلى التوراة والإنجيل فحرفوهما بما يتوافق مع أهوائهم، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ) {المائدة:13}، وإلا فإن التوراة والإنجيل آمران بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فمن كفر بمحمد فقد كفر بالتوراة والإنجيل
ألا فإن الإسلام هو الدين الحق، قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) آل عمران (19)، وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (85) آل عمران، وقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة (3)، ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق: أن الإسلام هو دين التَّوحيد الصافي: فالتَّوحيد هو المتَّسق مع العقل، فهذا الكونُ الفسيحُ وقوانينُه المنضبطة يدلُّ على خالقٍ واحد، وهو وحده يستحقُّ العبادة، فتعدُّد الآلهة ممَّا يقدح في الدين عقلًا، ومع كثرة الأديان الموجودة إلا أنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي نادى إلى التوحيد وبقيَ على صفائه ونقائه، ووَضَع السِّياجات المنيعة للحفاظ عليه. وقد أمر الإسلام بالتَّوحيد، وضرب له الأمثلة في القرآن الكريم، وذمَّ الشِّرك والمشركين، ونبذَ التعلُّق بغير الله، فأيُّ دينٍ يقدم عقيدةً كهذه، تجعلُك تتعلق بالله وحده؟ ويتجلَّى جمال الإسلام وعظمتُه في أنْ جعل المسلم عزيزًا بدينه، وعزيزًا بعقيدته، لا يخضع لأحد إلا لله سبحانه وتعالى.
ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق: أن الإسلام هو الدين الذي يحتِّم على معتنقيه الإيمان بالأنبياء كلِّهم، فلا يكتمل إيمانُ الإنسان إلّا إذا آمن بجميعِ الأنبياء، من لدن آدم عليه السلام إلى محمَّد ﷺ، ولا يجوز للمسلم أن يفرِّق بين نبيٍّ وآخر، فيؤمن ببعضهم دون بعض، يقول تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: ١٥٠-١٥١]. كما أنَّ الإسلام يدعو إلى عدم تنقُّص أحدٍ من الأنبياء، ويوجب احترامَهم جميعًا، ونسبةَ الكمال إليهم،
ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق: أنه لا يوجد اليومَ دينٌ محفوظٌة جميعُ نصوصه الأصليَّة سِوى الإسلام؛ ذلك لأنَّ الله تعهَّد بحفظه، فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: ٩]
ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق: شرائعه الواقعية، فهو يبيح الزواج بالنساء، ويرغب فيه، ولا يأمر بالرهبنة والتبتل، لكنه يحرم الزنا، والإسلام يبيح المعاملات بين الناس ولكنه يحرم الربا، ويبيح جمع المال من حله، ولكنه يوجب الزكاة للفقراء، ويبيح الطعام، ويستثني الميتة ولحم الخنزير ونحوهما، وغير ذلك من الشرائع الواقعية التي تناسب حاجات البشر ولا تضيق عليهم
ومن الأدلة كذلك على أن الإسلام هو دين الحق: موازنته بين متطلبات الروح وحاجات البدن، وعدم مصادمة عقائده وتشريعاته للفطرة والعقل، فما من خير يدل عليه العقل، إلا والإسلام يحث عليه ويأمر به، وما من شر تأنفه الطباع وينفيه العقل، إلا والإسلام ينهانا عنه،
ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق –إعجاز القرآن– فهو مع احتوائه على أكثر من ستة آلاف آية، ومع طرقه لموضوعات متعددة، فإنك لا تجد في عباراته اختلافاً بين بعضها البعض، كما لا تجد معنى من معانيه يعارض معنى، ولا حكماً ينقض حكماً، قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) {النساء:82}، ومن وجوه إعجاز القرآن: انطباق آياته على ما يكشفه العلم من نظريات علمية، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) {فصلت:53}، ومن أوضح ما أثبته القرآن من أن الجنين يخلق في أطوار، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة،…. إلخ ولم يقرر ذلك العلم التجريبي الحديث إلا في عصرنا الحديث، مع أن القرآن قرره قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن.
ومن أوجه إعجاز القرآن كذلك، إخباره بوقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب، ومنها ما أخبر بوقوعه في المستقبل، وكذلك قص القرآن قصص أمم بائدة ليست لها آثار ولا معالم، وهذا دليل على أن هذا القرآن منزل من عند الله الذي لا تخفى عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، ومن وجوه إعجاز القرآن كذلك فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره، فليس فيه ما ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، وحسبنا برهاناً على ذلك شهادة الخبراء من أعدائه، واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه، فلقد بهتوا أمام قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب، قال الوليد بن المغيرة وهو من ألد أعداء الرسول: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر). والحق ما شهدت به الأعداء.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن خلال ما سبق ذكره يتبين لنا أنَّ الدين الصَّحيح هو دين الإسلام، ولا يمكن أن يقال: كلُّ الأديان حقّ، أو كلُّها موصلةٌ إلى الله؛ بل هذا القول قولٌ متناقض، إذ لا يمكن الجمع بين عقيدة التَّوحيد التي تجعل الإله المعبود واحدًا وبين عقيدة التَّثليث أو الوثنيَّة، ولا يمكن الجمع بين تصديق نبوَّة محمَّد ﷺ وبين تكذيبه، ولا يمكن الجمع بين الإيمان بوجود الله وبعدم وجوده، فهذه أفكارٌ متناقضةٌ لا يمكن أن تكون كلها على حق، والقول بأنَّ كل الأديان صحيحة فيه جنايةٌ على العقل البشري، فالعقل السليم لا يمكن أن يرضى بالمتناقضات.
فالدينُ الوحيد الذي يصحُّ هو دين الإسلام، وتصحيحُ أيِّ دينٍ آخر هو إبطالٌ للقول بصحَّة الإسلام، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: ١٩]، وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: ٨٥]. ولا ينبغي للمسلم الالتفاتُ إلى من يريد التَّشغيب على الإسلام، أو التنقُّصَ منه، أو بثَّ الشُّبهات حوله، بل عليه أن يتيقن أنَّه على الدين الحق، وأنَّ في الالتزام به النَّجاة، وأنَّ كلَّ الأدلة الصحيحة تدلُّ على صحته.
الدعاء