خطبة عن (الحياة السعيدة)
نوفمبر 4, 2023خطبة عن (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)
نوفمبر 4, 2023الخطبة الأولى (السَمَّاعُون للْكَذِبِ الأَكَّالُون للسُّحْتِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (41)، (42) المائدة
إخوة الإسلام
هذه الآيات الكريمات من كتاب الله العزيز، فيها وصف لجماعة من اليهود، ومن كان على شاكلتهم من الناس، بأنهم سماعون للكذب، وأكالون للسحت، فهم يصغون إلى الكذابين، ويأخذون بقولهم، ويأكلون السحت: وهو المال الحرام من الربا وغيره،
والمتدبر لقوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) : فصيغة (فعّال) تفيد الكثرة، وتفيد الدوام والاستمرار، وتدل على أن هذه الفئة من الناس فئة مريضة، تقتات على هاتين الخصلتين: (قول الكذب، وأكل السحت)، ومع ما تعطيه هذه الآيات من معنى تصويري كاشف لشريحة وضيعة، فهي تفيد كذلك حرمة تكرار الاستماع للكذب، لأن المرة والمرتين قد تكون فلتة، أو بغير قصد، او من غير علم بحال الشخص، أما التكرار فهو استمراء، ومعاونة، ومعاودة، ورضا، وهذا ما يعطيه لفظ : (سَمَّاعُونَ). فتكرار الاستماع للكذابين بلا إنكار، هو إقرار ورضا عنه، وتعايش معه، وهذا يربي المرء على النفاق والذلة، وقبول المتاجرة بالحقيقة، والقيم، والدين، والبلاد والعباد، ومن هنا قال تعالى «أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» لأن متلازمة الاستماع إلى الكذب هي أكل السحت.
ومن المؤسف أن هناك فئة ليست بالقليلة، ممن ينتسبون إلى المسلمين، قد تخلقوا بهذا الخلق الذميم، فهم: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)، فأصبحت أمتنا وقيمنا وعقيدتنا وهويتنا ووحدتنا في خطر، بسبب وجود هذه المنظومة المفسدة، يأكل أحدهم حتى تنتفخ الخواصر، ويحشرج بالباطل حتى تنتفخ الأوداج، ولا يزالون كذلك، لقد اثخنوا الجسد بجراح ،مقابل المتاجرة بالكذب وأكل السحت.
أيها المسلمون
ومن خلال تدبرنا لقوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)، فالكذب هو ما يخالف الواقع، وتزييف الحقائق بقصد الخداع، ولتحقيق هدف معين، وهو عكس الصدق، وقد حذَّر القرآن الكريم من الكذب، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ (28) غافر، وقال تعالى : ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ [الزمر:32]. والكذب من أبغض الأخلاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سنن الترمذي وغيره: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً)، والكذب من خصال وأخلاق المنافقين، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»، وفي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»، وروى مالك في موطئه: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ «نَعَمْ». فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً فَقَالَ «نَعَمْ ». فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ « لاَ ».
ومن المؤسف إن جاز لنا أن نسمي هذا الزمان الذي نعيش فيه، فهو (زمن الكذب)، فوسائل الاعلام تبث الكذب، وتروِّج له قنوات فضائية، وجرائد صفراوية، كلها تواطأت على الكذب، وقبضت ثمن الكذب، فها هي تنبح ليلَ نهارَ ضد الإسلام والمسلمين، وتصفهم كذبا بما يخالف الواقع، وذلك رغبة في المال والجاه، ويشير القرآن لهذا، فقال تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: 42]، فيتغذَّى الكذابون على السحت الحرام، ويتعاملون بكذب الفعل والكلام، ولا يقبلون الصادقين من أهل الإسلام، فهم فاسدون، مثلهم مثل هؤلاء الذين قال الله عنهم: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34]. فهم يبيعون كذبهم بثمن بخس، ويملؤون بطونهم بغذاء نحسٍ ،ثم ينقُلُ عنهم ويمشي في ركابِهم آخرون: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ [المائدة: 41]، فيسمعون ليكذبوا، ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك، فيكونون كذابين ونمامين، وما أكثرهم في مجتمعاتنا، ربما ينتمي إليهم السذَّج والبسطاء، فضلاً عن الأحبار والرهبان، بنص القرآن، قال تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 47]. كل ذلك لضرب الإسلام، وقمع المسلمين، ومحاربة الدين، فليس لهم إلا هدف واحد، وهو الإسراع إلى الفتنة، ونسج خيوطها، وعقد بنودها، بالتحريض والتمويل والتأييد والتفويض.
وقوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾؛ أي: فيكم مَن يسمع منهم، ويُكثِّر سوادَهم، وينقل عنهم، بل يتبنى موقفهم!، والله أعلم بالظالمين، يعلم ما يدبّرون، وبما يمكرون وما ينفذون، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبرنا بذلك الزمن، زمن الكذابين، ففي سنن ابن ماجة: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ».
أيها المسلمون
والمتدبر لقوله تعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)، فقد نهى الاسلام وحذر من أكل الحرام، بكل صوره وأشكاله، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء29/30)، فأكل الحرام يعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويظلم الفكر، ويقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويكون سببا في تعاسة صاحبه في الدنيا والآخرة؛ ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ” تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ،إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ”
ومن الناس من لا يتحاشون عن أكل المال الحرام، وتحصيله من أي طريق أو وسيلة، فليس لهم هم إلا تكديس الأموال، وتضخيم الثروات، وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ” (رواه الترمذي)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِى الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ»
أيها المسلمون
وللسحت والمال الحرام صور متعددة، ومنها: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، أو أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ حَاجَةً فَيُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً فَيَقْبَلُهَا، وقد تختفي الرشوة تحت قناع من الأسماء المقبولة اجتماعيا ؛ كالهدايا، والإكراميات، والعمولة مقابل الاستشارة، والعمل بأجر لدى الراشي، وتقديم تسهيلات للمرتشي في البيع والشراء، بل ومِنَ الرشوة والسُّحْتِ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِجَاهِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَيَسْأَلُهُ إِنْسَانٌ حَاجَةً، فَلَا يَقْضِيهَا إِلَّا بِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا)، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)، وفي مسند أحمد: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ. يَعْنِى الَّذِي يَمْشِى بَيْنَهُمَا)، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – اسْتَعْمَلَ ابْنَ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَحَاسَبَهُ قَالَ هَذَا الَّذِى لَكُمْ ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا». ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالاً مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ، فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا ،فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا – قَالَ هِشَامٌ – بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَلاَ فَلأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ». ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ « أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ »
ومن صور السحت: اقتطاع حقوق الناس: ففي الصحيحين واللفظ لمسلم: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ». ويدخل في هذا الوعيد ما ينقصه أصحاب الأعمال من مرتبات الموظفين دون تقصير منهم أو إخلال بواجبات عملهم، وقد يدخل في ذلك من يسولون لصاحب العمل أخذ هذا السحت، ومن يعينونه على صياغة هذا الانتقاص بشكل قانوني. ومن صور السحت: أن يمد يده لسؤال الناس مدعيا الفقر والحاجة، وهو ليس كذلك. ففي صحيح مسلم: (عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ».
ومن صور أكل السحت: الاعتداء على المال العام: وهو أشد في حرمته من المال الخاص؛ لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، قال تعالى: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (أل عمران161)، فاستباحة المال العام أمر خطير، وذنب عظيم، وجرم كبير؛ و ضرب من الإفساد في الأرض، وفي الصحيحين : (أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – يَقُولُ افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً ، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى وَادِى الْقُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِى الضِّبَابِ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «بَلَى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا». فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ ،فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ»
ومن صور أكل السحت: الغش والتدليس في التجارة: فمن كتم عيبا في سلعة أو دلس في ثمن أو وصف أو شروط عقد، فهو غاش، والغاش للناس مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ ” (رواه ابن ماجه)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (السَمَّاعُون للْكَذِبِ الأَكَّالُون للسُّحْتِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وللسحت وأكل أموال الناس بالباطل آثار وخيمة، ومنها: ظلمة القلب، وكسل الجوارح عن الطاعة، وعدم قبول الدعاء، ففي صحيح مسلم: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ». ومنها: الإفلاس من الحسنات في الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ “أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ” (رواه مسلم )، ومنها: الحرمان من التخلق بالأخلاق الحسنة، والحرمان من دخول الجنة، ففي مسند أحمد: (إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ)
أيها المسلمون
وقد يسأل سائل: ماهي الأسباب التي تدفع الناس لأكل أموال الناس بالباطل، ومن بينها السحت؟، وما هو العلاج؟: فأقول: أول هذه الأسباب: الطمع، فهو يورد الإنسان المهالك، ويحرمه من الاستمتاع بما بين يديه من نعم، ومنها: قرناء السوء الذين يزينون الباطل ويسمونه بغير اسمه؛ من أصدقاء وزوجة وأبناء، فتكثر مطالبهم وتتطلع أعينهم لعيشة مترفة مع ضعف دخلهم المالي، فيضغطون على رب الأسرة حتى يفتح باب الحرام، ومنها: غياب الخوف من الله، وعدم الاعتبار بما حدث لمن أكل السحت؛ من عيشة ضنك، وجهل المجتمع بالآثار السلبية لأكل السحت، أما عن العلاج: فيكون بتنمية مراقبة الله تعالى. وإدراك أن المال الحرام لا يمكن أن يجلب السعادة والسعة، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية التي تصون المال العام والخاص، مع إتاحة الفرص لأكل الحلال؛ بتيسير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتنمية المراقبة المجتمعية؛ واستشعار المجتمع أن رقابته بالحق والعدل هي أحد الضمانات لتقليل معدل الفساد حين تغيب رقابة الدولة أو تضعف، قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] ، أما عن التطهر من السحت، فقد ذكر عبد الله بن المبارك في شروط التوبة :(النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ ،وَأَدَاءُ مَا ضَيَّعَ مِنَ الْفَرَائِضِ، وَأَنْ يَعْمِدَ إِلَى الْبَدَنِ الَّذِي رَبَّاهُ بِالسُّحْتِ فَيُذِيبُهُ بِالْهَمِّ وَالْحَزَنِ حَتَّى يَنْشَأَ لَهُ لَحْمٌ طَيِّبٌ، وَأَنْ يُذِيقَ نَفْسَهُ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَاقَهَا لَذَّةَ الْمَعْصِيَةِ، قُلْتُ: ”الإمام ابن حجر” وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُكَمِّلَاتٌ)
الدعاء