خطبة عن (في الصدق نجاة)
نوفمبر 12, 2023خطبة عن (كثرة الكلام)
نوفمبر 13, 2023الخطبة الأولى (قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». وفي صحيح مسلم: (في حديث جبريل): (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
إخوة الإسلام
القضاء والقدر سرُّ الله تعالى المكتوب، الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، فلم يُطلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فهو مكتوب في اللوح المحفوظ، في الكتاب المكنون، فالقدر: هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم، مما هو كائن إلى الأبد، قدَّر الله مقادير الخلائق، وعَلِم سبحانه ما سيقع، وعلى أي صفة، والإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، ولا يتم إيمان العبد إلا به، وقد دلَّ القرآن الكريم، والسُّنَّة النَّبوية، والإجماع، والفطرة والعقل والحس على أن القضاء والقدر حق، أمَّا من القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]. وقال سبحانه: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر: 21]، وقال تعالى: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) [طه:40]. وقال تعالى: (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) [الأنفال: 42]. وجاء في حديث جبريل: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) رواه مسلم،
فكل ما يقع من المصائب والفتن في الأرض, أو في النفس, أو في المال, أو في الأهل, أو في غير ذلك، فالله سبحانه قد علمه قبل وقوعه، وكتبه في اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه :(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد (22)، وما يصيب الإنسان من المصائب فهي خير له, علم ذلك أو لم يعلم، لأن الله لا يقضي قضاءً إلا وهو خير للمسلم، قال سبحانه: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (51) التوبة، وكل مصيبة تقع فهي بإذن الله، ولو شاء ما وقعت، ولكن الله أذن بها وقدرها فوقعت، كما قال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (11) التغابن،
وإذا علم العبد المسلم أن المصائب كلها إنما بقضاء الله وقدره، فيجب عليه الإيمان والتسليم والصبر، ومن صبر أعطاه الله الأجر يوم القيامة بغير حساب، فالمؤمن مأجور في حال السراء والضراء، ففي صحيح مسلم: (عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
أيها المسلمون
والعبد إذا آمن بالقضاء والقدر، فإذا أصابَتْه مُصيبةٌ، فلا يَقُلْ: «لوْ أنِّي فَعَلْتُ كان كذا وكذا»؛ فإنَّ هذا القولَ غيرُ سَديدٍ، ولكنْ يَقولُ مُستَسْلِمًا وراضيًا بقضاء الله وقدره، ومُؤمِّلًا الخَيرَ: «قَدَّر اللهُ»، أي: وَقَعَ ذلكَ بمُقتَضى قَضائِه، وعلى وَفْقِ قَدَرِه، «وما شاءَ فَعَلَ»؛ فإنَّه فعَّالٌ لِما يُريدُ، ولا رادَّ لقَضائِه، ولا مُعقِّبَ لحُكمِه. فالله تعالى يقول في محكم آياته: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) [التوبة:51]، وفي سنن أبي داود وغيره: (أن أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يرفعه، قَالَ: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ)، وفي سنن ابن ماجه: (أن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ». وقال الله -تبارك وتعالى: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) [آل عمران:153]،
فكل ما يقع في الكون فهذه أمور قدَّرها الله -تبارك وتعالى-، فلا داعي لاجترار الغمِّ والحزن والألم، بتحريكه بمثل هذه الكلمات والجُمَل التي لا يحصل منها على مطلوبٍ، ولا يعود عليه مفقودٌ. ولكن يقول: بلسان المقال، أو بلسان الحال-: (قدر الله). (بالتشديد أو بالتخفيف) أي: أنَّ الله قدَّر هذا الأمر، ووقع بمُقتضى قضائه وقدره، وما شاء الله -تبارك وتعالى- كان، وما لم يشأ لم يكن، وفي سنن الترمذي: (عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ». وفي الصحيحين واللفظ للبخاري: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِى أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» مَرَّتَيْنِ)، وفي رواية مسلم: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَالَ آدَمُ أَنْتَ الَّذِى أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ».
فالله تبارك وتعالى يريد منا أن نصبر عندما نُبتلى، أو حين ينزل القضاء بقدر الله تعالى بغير ما نشتهي، وعلينا أن نقول: “قدَّر الله وما شاء فعل”، إنه قدر القوي الحكيم الغالب القاهر وليس لأحد الاعتراض أو التذمر منه، فضلاً عن الرفض.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فإلى كل من أصيب بمرض عضال، وإلى كل من فقد عزيزاً على قلبه، وإلى كل من قدر الله تعالى أن يعيش فقيراً، أو مُبعداً عن وطنه، وإلى كل من لم يُرزق بالذرية، وبالعموم إلى كل من جرت المقادير بغير ما يحب ويشتهي، ليس أمامك إلا أن تقول: “قدَّر الله وما شاء فعل ” ،فإن الحلَّ في ذلك، لأنك لا تدري أين الخير؟، والله وحده هو الذي يعلم الخير من الشر، فاختار لك هذا القدر، واعلم أنك لست الأسوأ في هذا الكون، فهناك دائماً من هو أسوأ من حالك. فقدرُ الله تعالى فيه الخير مطلقاً، فلست تدري يا من منعت الذرية ما الذي سيجري لو رزقت أولاداً عاقين أو منحرفين، ولست تدري أيها الفقير لو ملكت المال الوفير ماذا ستصنع به، وكيف ستكون حياتك؟ يقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، فنحن نرضى بالذي يختاره الله لنا، وصدق ذلك القائل حين قال: “الخيرُ فيما اختار الله تعالى”.
الدعاء