خطبة عن حديث (وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ)
نوفمبر 13, 2023خطبة عن (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)
نوفمبر 13, 2023الخطبة الأولى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (13) سبأ
إخوة الإسلام
الشكر نعمة من نعم الله السامية، وشعبة من شعب الإيمان الجامعة، يملأ النفس رضاً بالخالق المنعم، ويملأ القلبَ سلامةً من الغلّ، ويورث الأخلاق شعوراً بالقناعة، لينعم صاحبها بالرَّاحة والسَّعادة والطمأنينة. ومَقامُ الشُّكْرِ جامِعٌ لِجَمِيعِ مَقاماتِ الإيمانِ، ولِذَلِكَ كانَ أرْفَعَها وأعْلاها، وهو فَوْقَ الرِّضا، ولِهَذا كانَ الإيمانُ نِصْفَيْنِ: نِصْفُ صَبْرٍ، ونِصْفُ شُكْرٍ، والصَّبْرُ داخِلٌ في الشُّكْرِ، فَرَجِعَ الإيمانُ كُلُّهُ شُكْرًا، والشّاكِرُونَ هم أقَلُّ العِبادِ، وجاء في الأثر الذي رواه ابن ابي شيبة في المصنف وعبد الله بن أحمد بن حنبل في الزهد لأبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول اللهم اجعلني من الأقلين، فقال ما هذا؟ فقال يا أمير المؤمنين إن الله قال ﴿وما آمن معه إلا قليل﴾ وقال تعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ وقال ﴿إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾، فبكى سيدنا عمر وقال: كل الناس أفقه منك يا عمر. اللهم اجعلنا من عبادك القليل.
والشكر حقيقته أن تقابل نعم الله بالإيمان به وبرسله، ومحبته عز وجل والاعتراف بإنعامه، وشكره على ذلك بالقول الصالح والثناء الحسن، والمحبة للمنعم وخوفه ورجائه والشوق إليه، والدعوة إلى سبيله والقيام بحقه.
والشكر قول وعملٌ، وليس قولاً فحسب، والعمل يجب أن لا ينطلق من خوفٍ ولا من طمعٍ؛ بل من شكرٍ للمولى عزَّ وجل، ففي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة، قال: (قَامَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »، والله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبد لا يشكر إحسان النَّاس، ففي صحيح الأدب المفرد للبخاري: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ». ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نشكر الله تعالى، ففي سنن أبي داود وغيره: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ. فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ ».
أيها المسلمون
وقد أمرنا الله تعالى أن نشكره على النعم، ووعد من شكره بالمزيد، ومن كفر بالعذاب الشديد، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]. فلنتأمل في نعم الله تعالى حتى تزداد في قلوبنا عظمة الله، وحبه وخشيته، وحتى نقبل على الله تعالى ونشكره على نعمه. وإن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نعمة الإيمان والهداية، فمن رُزق الإيمان بالله وطاعته، فقد رزق الخير كله، وفاز الفوز العظيم، ولن يضرَّه إن مات فقيرًا، أو مطاردًا، أو مريضًا، ومن لم يرزق الإيمان به، فقد فاته الخير كله، وإن ملك كل متاع الدنيا الفاني؛ قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
ومن أعظم ما يشكر العبد به ربه عز وجل هو أداء الفرائض كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).
ثم بعد الفرائض يتشبث المسلم بما يستطيع من النوافل، ومن أعظمها وأسهلها وأخفها: ذكر الله تعالى. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) .رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وصححه الألباني. وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى). رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
أيها المسلمون
ومن أعظم ما يعين على عبادة الشكر الاستعانةُ بالله فيها، فما أُلهم عبدٌ الشكرَ إلا قرَّ لديه ما أُوتيَ من النعم وزاد؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7] ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ) [رواه أبو داود وصححه الألباني].
وتأمل أعظم الناس مُلكًا في الدنيا كيف حاله مع نِعَمِ الله عليه، وهو سليمان عليه السلام؛ قال سبحانه: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، فنبي الله سليمان (عليه السلام) سأل الله أن يُلهمه الشكر، وألا تأخذه الغفلة حالَ الانبهار بنزول النعمة عن شكر الله، وأن ينسُبها لمسببها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وللشكر ثمرات وفوائد، ومن ثمرات الشكر: أنه صفة من صفات المؤمنين: ففي صحيح مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
ومن ثمرات الشكر: أنه سبب لرضا الله عن عبده: قال تعالى: {وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7] ومن ثمرات الشكر: أنه أمان من العذاب: قال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147]. قال قتادة رحمه الله: “إن الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا” [تفسير الطبري]
ومن ثمرات الشكر: أنه سبب للزيادة: قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7 قال بعض السلف رحمهم الله تعالى: “النعم وحشية فقيدوها بالشكر”. وقال الحسن البصري: “إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا، ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب، لأنه يجلب النعم المفقودة”
ومن ثمرات الشكر: الأجر الجزيل في الآخرة: قال تعالى: {وسنجزي الشاكرين} [آل عمران: 145]. وقال سبحانه: {وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].
فإذا كان الشكر بهذه المكانة فحري بنا أن ندعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، (اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) وفي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو يَقُولُ « رَبِّ أَعِنِّي وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلاَ تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلاَ تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي »
الدعاء