خطبة عن (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
نوفمبر 13, 2023خطبة عن حديث (وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)
نوفمبر 13, 2023الخطبة الأولى (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (60) الروم
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم – إن شاء الله تعالى – مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتدبر معانيها ومراميها، ونرتشف من رحيقها المختوم، فقد جاء في التفسير الميسر: (فاصبر -أيها الرسول- على ما ينالك مِن أذى قومك، وتكذيبهم لك، فإن ما وعدك الله به من نصر وتمكين وثواب حق لا شك فيه، ولا يستفزَّنَّك عن دينك الذين لا يوقنون بالميعاد، ولا يصدِّقون بالبعث والجزاء).
وقوله تعالى: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ): لأن قلوب هؤلاء المكذبين لم تذق حلاوة الإيمان، الذي من الله به عليكم، ففي الآية أمر بالثبات على الدين، الذي بعث الله به رسوله، فإنه الحق الذي لا مرية فيه، بل الحق كله منحصر فيه، فإياك أن يستخفك هؤلاء، وفي قوله تعالى: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)، ويقول العلماء: اعلم أنَّ الاستخفاف له وجهان: الوجه الأول: أن يستخِفَّك الناس على أن تقولَ ما ليس مِن شرع الله، والثاني: أن يستخفك الناس على ألا تقولَ بشرع الله، وكلاهما باطل، فمِن الأول أنْ يستخفك الناس أن تقول: هذا حرام. وهو ليس في شرع الله حرام، فما دمت تعتقد أنك على حق لا يستخفِنَّك أحد أبداً، أمَّا الثاني أن يستخفوك على ترك ما هو مِن شرع الله كأنْ يقول الإنسان شيئاً واجباً ويُبَيِّنه للناس ثم لما رأى انتقادَ الناس وصياحَهم عليه تركَه، فالإنسان المؤمن يصبِر، ولا يستخِفُّه الناس، لا في هذا ولا في هذا، ما دام أنه يعتقد أنَّ ما هو عليه هو شرعُ الله، فلا يهتَمُّ بِأحد،
وقوله تعالى: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)، فأسلوبُ الاستخفافِ من أخطرِ المكائدِ والأساليب التي يستخدمها أعداء الدين؛ بتسليطِ ما يكونُ به تشكيكُهم في دينِهم، وتخلِّيهم عنه، واحتقارُهم، والطعنُ في غاياتِهم، وإغراؤهم، وحملُهم على صدورِ الأفعالِ الطائشةِ منهم، المجافيةِ لوقارِ الإيمانِ؛ بُغيةَ تشويهِ صور الدين الناصعةِ أمامَ الناسِ، وإظهارِ أهلِه ودعاتِه بمظهرِ الشَّيْنِ المُنَفِّرِ عنهم، وكثيرا ما نبّهَ القرآنُ وحذر من استخفافِ المبطلين، وألا يكونَ ذلك سببًا في تركِ الحقِّ، أو الشكِّ فيه، أو يكونَ ذلك مثبِّطًا من المضيِّ في الدعوةِ إلى دينِ اللهِ القويمِ، أو حاملًا على صدورِ ما ينافي وقارَ الإيمانِ، من خِفَّةٍ ،وجهلٍ ،واستعجالٍ، واستغضابٍ، وخنوعٍ، وخوفٍ ،وبَغْيٍ؛ فالله تعالى حين قال: ﴿ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون﴾؛ فهو نهي عام يشملُ جميعَ أوجهِ الاستخفافِ والاستفزازِ، وحينما أخبر القرآن بانتصارِ الرومِ على الفرس في بضعِ سنين، وكانت معطياتُه على الواقعِ لا تدلُّ عليه، فاتخذَه كفارُ قريشٍ وسيلة في الطعنِ في الدينِ، والاستخفافِ بتصديقِ المؤمنين ذلك الوعدَ، فكان أمرُ اللهِ غالبًا، وقدَرُه نافذًا ووقعَ وعدُ اللهِ كما وعدَ، وفَرِحَ المؤمنون يومئذٍ بنصرِ اللهِ.
وفي قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾: قال ابنُ القيمِ: ” فأمَرَه أنْ يَصبرَ، ولا يتشبهَ بالذين لا يقينَ عندهم في عدمِ الصبرِ، فإنهم لعدمِ يقينِهم عُدِمَ صبرُهم، وخَفُّوا واستخفُّوا قومَهم، ولو حصلَ لهم اليقينُ والحقُّ لصبروا وما خَفُّوا ولا استخفُّوا . فمَن قلَّ يقينُه قلَّ صبرُه، ومَن قلَّ صبرُه خفَّ واستخفَّ؛ فالموقنُ الصابرُ رزينٌ؛ لأنه ذو لُبٍّ وعقلٍ، ومَن لا يقينَ له ولا صبرَ عنده خفيفٌ طائشٌ تلعبُ به الأهواءُ والشهواتُ كما تلعبُ الرياحُ بالشيءِ الخفيفِ “،” فَمَنْ وَفَّى الصَّبْرَ حَقَّهُ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الْمُبْطِلُونَ، وَلَمْ يَسْتَخِفَّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ. وَمَتَى ضَعُفَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ أَوْ كِلَاهُمَا اسْتَفَزَّهُ هَؤُلَاءِ وَاسْتَخَفَّهُ هَؤُلَاءِ، فَجَذَبُوهُ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ ضَعْفِ قُوَّةِ صَبْرِهِ وَيَقِينِهِ، فَكُلَّمَا ضَعُفَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوِيَ جَذْبُهُمْ لَهُ، وَكُلَّمَا قَوِيَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ قَوِيَ انْجِذَابُهُ مِنْهُمْ وَجَذْبُهُ لَهُمْ”.
وقوله تعالى: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)، فهذا عدو الله فرعون، هو نموذج عملي في استخفاف قومه، وابعادهم عن دعوة المرسلين، قال الله تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الزخرف (51): (54)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (96): (99) هود
أيها المسلمون
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)، فاحذر أخي المسلم أن يستخفك المبطلون، والمنافقون، وذلك ببث الشبهات، وتتبع أقوال المفسدين والمشككين، ولكن كن مع الموقنين، ومع جماعة المسلمين، ففي الصحيحين: (أن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ «نَعَمْ» . قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ». قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ،مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا». قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ». قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ): أي لا يستخفنك أصحاب الفتن، والمضلين والمرجفين في الدين، فلا تستجب لشعاراتهم البراقة المضللة، من الدعوة إلى تحرير المرأة، والموضة، والعلمانية، واللبرالية، والعولمة، والاشتراكية، وغيرها وغيرها من الشعارات التي يرفعها الكافرين، وعليك بالسير في طريق الله، الصراط المستقيم، طريق الأنبياء والمرسلين، طريق الاسلام، ففي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا ثُمَّ قَالَ «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ – ثُمَّ قَالَ – هَذِهِ سُبُلٌ – قَالَ يَزِيدُ – مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ». ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الانعام (153)، وفيه أيضا: (عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا وَدَاعِي يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وْالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ»، وفي صحيح مسلم: (أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)
الدعاء