خطبة عن حديث (وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)
نوفمبر 13, 2023خطبة عن (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)
نوفمبر 13, 2023الخطبة الأولى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (76) مريم
إخوة الإسلام
يقول السعدى في تفسيره لهذه الآية: يزيد الله تعالى المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته، والهدى يشمل العلم النافع، والعمل الصالح، فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله منه، وسهله عليه، ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) محمد (17)، ومن الملاحظ أن الذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء، فكافأهم الله بزيادة الهدى، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)، فالتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله تعالى، شاعرا برقابته، خائفا من غضبه، متطلعا إلى رضاه، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو حالة لا يرضاها، هذه وهذه مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده، حين يسلكون طريق الهداية، ويرغبون في الوصول إلى رضى الله تعالى.
وليست الزيادة مقصورة ومحصورة في التصديق والإيمان، ولكنها ما يحصل في قلب المؤمن من الرغبة في الخير، والرهبة من الشرّ، وتنامي الوازع الديني، فيزداد علمه بالله، ومحبته لطاعته، وبغضه لمعصيته، وهذه زيادة الإيمان. وأيضا في قولُه تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (22) الأحزاب، فعندما اشتدّ على المؤمنين البلاء، وعظم عليهم الخطب، زادهم الله إيمانا، فزاد إيمانهم قوّةً وثباتاً وتأكيداً. وفي قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح: 4)، فالله سبحانه وتعالى زاد إيمانهم بأن وهب المؤمنين سكينة وطمأنينة في القلب، كانت سبباً في ثباتهم على المحن، فتوطّنت قلوبهم لملاقاة الشدائد، فزاد بذلك أيمانهم. فالإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب والجنان، وعمل بالجوارح والأركان، والمؤمنون متفاوتون في إيمانهم، فمن شرح الله تعالى صدره، وييسر له أمره، يكون ذلك سببا للتوفيق، فيزداد عمل المؤمن، ويرتفع عند الله تعالى، ويحصل له الثواب العاجل والآجل. بيد أن هذه الزيادة لا تكون إلا بعد إثبات صدق الإيمان بالمجاهدة، قال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، وقال أحد السلف: “جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة أخرى”. وقال ابْنِ أَبِي زَكَرِيَّا: عَالَجْتُ لِسَانِي عِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِي. فالقوم عالجوا أنفسهم على الطاعات، وجاهدوها في مرضاة الله تعالى، ثم حصلوا جزاء ذلك أنسا بالله تعالى، وفرحا بطاعته، واستغناء به عن غيره.
أيها المسلمون
والله تعالى جعل أبواب رحمته واسعة، فحين يهدي القلوب فهو يزيدها هدى وتقى ومحبة، فنجد قلوب المؤمنين الصادقين هادئة ورعة محبة، والهدى يشمل حب الطاعات وحب الإيمان وحب الناس، فمن اهتدى لسبيل الرشد، فآمن بربه، وصدّق بآياته، فعمل بما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه، واتبع رسوله ،زاده الله هدى، فيتجدّد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه، ويعمل بها، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) التوبة (124)،
أيها المسلمون
ومن سنن الله تعالى: الإضلال والهداية. قال سبحانه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 17]. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال للأنصار: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي»، فسنة الهداية سنة عظيمة، ونعمة كبيرة، فما من ريب في أهميتها، لذا يتكرر طلب الهداية بقول العبد في كل صلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) [الفاتحة: 6] ،واعلموا أن حقيقة الهداية: العلم بالحق، والرغبة فيه. وأن الهداية لا تحصل إلا توفيق من الله، فلا بد من عون الله، والافتقار إليه: ففي الصحيحين: (اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ ».
ومن زيادة الهدى أيضا: الثبات على الهداية والإيمان، فقد يضل المرء بعد الهدى، فنحن نسال الله المزيد من الهداية، لأجل المزيد من الاستمرار عليها. وان يزيدنا من اسبابها، ومن اهم اسبابها العلم النافع والخشية، فكل من سلك طريقا في العلم، والإيمان ،والعمل الصالح ، زاده الله تعالى منه، وسهله عليه، ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة ، ومنها: لما صدق فتية الكهف في إيمانهم، وهاجروا فرارا بدينهم؛ زادهم الله تعالى إيمانا، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]. ولما تجمع الأحزاب من أهل الكفر على أهل الإيمان لاستئصالهم، أعلن أهل الإيمان تصديقهم بوعد الله تعالى، ووعد رسوله عليه الصلاة والسلام، في تلك الساعة الحرجة؛ إيمانا منهم، ويقينا بالله تعالى؛ وتوكلا عليه سبحانه، فزادهم الله تعالى إيمانا ويقينا وتوكلا، قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]. وفي صلح الحديبية كره الصحابة رضي الله عنهم بنود الصلح، حتى قال عمر رضي الله عنه «فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا» ولكنهم ما لبثوا أن علموا أن ذلك حكم الله تعالى، فقهروا ما في نفوسهم من الغضب والحمية؛ طاعة لله ورسوله، فزادهم الله تعالى بهذا الانقياد والاستسلام إيمانا ويقينا ،قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]. ففي كل هذه الأمثلة والنماذج الإيمانية ما جاءت الزيادة من الله تعالى إلا بعد أن أثبتت هذه الطوائف المؤمنة إيمانها، ودللت على صدقه، ففي الساعات الحرجة يتلاشى فيها التصنع والكذب والرياء، فجزاهم ربهم سبحانه ما جزاهم من زيادة الإيمان واليقين به تعالى، وتصديق وعده سبحانه، والتسليم لأمره عز وجل.
أيها المسلمون
ومن زيادة الهدى أيضا: أن يرقيك الله في الهداية مرتبة فوق مرتبة. ومعرفة الحق من الباطل، ففي صحيح مسلم: (قال أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». قال ابن القيم: (ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، أجل المطالب لنيل أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يدي الدعاء حمده سبحانه، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكرهم عبوديته وتوحيده، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم)، والمسلم يدعو في صلاته: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الفاتحة/6. لعلمه أن الهداية بيد الله تعالى،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والعبد مطالب بالأخذ بأسباب الهداية، مُطالَب بالصبر والثبات والبدء بطريق الاستقامة، فقد وهبه الله عز وجل عقلا منيرا، وإرادة حرة، يختار بها الخير من الشر، والهدى من الضلال، فإذا بذل الأسباب الحقيقية، وحرص على أن يرزقه الله الهداية التامة جاءه التوفيق من الله تعالى. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الْأَنْعَام/53. فالله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلاً للهداية، ويضل من كان أهلاً للضلالة، ويقول الله تبارك وتعالى : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) الصف/5، ويقول تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) المائدة/1. فبين الله تبارك وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه، والعبد لا يدرى ما قَدَّر الله تعالى له ، لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور. فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالا أم أن يكون مهتديا ؟ فما باله يسلك طريق الضلال ، ثم يحتج بأن الله تعالى قد أراد له ذلك، أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول: إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم .
فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق، والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قُدِّر له ما قُدِّر من الرزق، ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يميناً وشمالاً، فلا يجلس في بيته ويقول: إن قُدِر لي رزق فإنه يأتيني، بل يسعى في أسباب الزرق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . فهذا الرزق أيضا مكتوب، كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب، فما بالك تذهب يمينا وشمالاً وتجوب الأرض والفيافي طلباً لرزق الدنيا، ولا تعمل عملا صالحا لطلب رزق الآخرة والفوز بدار النعيم، إن البابين واحد، ليس بينهما فرق، فكما أنك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك، فإذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوي مرضك، ومع ذلك فإن لك ما قُدِّر من الأجل لا يزيد ولا ينقص، ولست تعتمد على هذا وتقول: أبقى في بيتي مريضاً طريحاً وإن قُدِّر الله لي أن يمتد الأجل امتد. بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس أن يُقَدِّر الله الشفاء على يديه. فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفى العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا؟
الدعاء