خطبة عن (حقوق الجوار)
مايو 16, 2024خطبة عن قوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ )
مايو 18, 2024الخطبة الأولى (الرحمة من أخلاق المؤمنين)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (54) الأنعام، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (107) الأنبياء، وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح: (29)،
إخوة الإسلام
الرحمة: هي الرِّقَّةُ والعطف، وهِيَ حَالَة وجدانية لمن بِهِ رقة في الْقلب، والرحمة خلق كريم، أودعه الله في النفوس، وبه تستقيم الحياة وتطيب، قال السعدي: (وعلامة الرَّحْمَة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محبًّا لوصول الخير لكافة الخلق عمومًا، وللمؤمنين خصوصًا، كارهًا حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته).
والرحمة صفة من صفات الله تعالى، فهو الرحمن الرحيم، الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا ،وسبقت رحمته غضبه، قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام:54]، وقال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156]. وفي صحيح البخاري: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. فَهْوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ»، وفي رواية: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»، فرحمته سبحانه وتعالى في الحياة الدنيا شاملة، فهي تفيض على كل المخلوقات، وبها تقوم حياتهم؛ وفي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»
ولرحمة الله تعالى آثار، وعلامات بينات، فمن آثار رحمة الله تعالى: أن أرسل إلينا رسوله، وأنزل علينا كتابه، وعصمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبرحمته سبحانه عرفناه، وعلمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أوجد الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض، وأنشأ السحاب، وأنزل المطر، وأخرج الفواكه والأقوات والمرعى، ووضع الرحمة بين الخلائق ليتراحموا بها، ومن رحمته: أن نغصَّ على عباده المؤمنين الدنيا وكدرها؛ لئلا يسكنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، ومن رحمته: أن فتح أبواب رحمته للتائبين، فقال تعالى: ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ” [الزمر:53]. وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ».
أيها المسلمون
والرحمة خلق من أخلاق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وهو -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، وسيرته -صلى الله عليه وسلم- معطّرة بعَبق رحمته، ففي طبعه من اللين والرفق، ما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرًا، فأثنى عليه الله بقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159]. وكان -صلى الله عليه وسلم- يرغب الرحمة ويُعمِّقها في نفوس أتباعه من المسلمين، ففي سنن الترمذي وغيره: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)، وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»
ومن صور ونماذج رحمته صلى الله عليه وسلم: ما رواه البخاري في صحيحه: (أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ»، وكان – صلى الله عليه وسلم – رحيما بالنساء، فيوصي القائم عليهن خيرًا، فمما قال – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع: «أَلَا واستَوْصُوا بالنساءِ خيرًا» (صحيح الجامع) وكان صلى الله عليه وسلم يهتمّ بأمر الضعفاء والخدم، ففي الصحيحين: «عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهَا فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ فَذَكَرَ أَنَّهُ سَابَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ – قَالَ – فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ»، أما عن رحمته بالطير والحيوان: ففي سنن أبي داود وغيره: (أنه-صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: « مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ». فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: « أَفَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ». وفيه أيضا: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تُعَرِّشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ «إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ».
أيها المسلمون
والإسلام أمر أتباعه بالرحمة، فالرحمة من أخلاق المؤمنين الصادقين، فتجد المسلم رحيما في تعامله مع الآخرين، فتراه رحيمًا مع أسرته، ورحيمًا في نصحه ودعوته، ورحيمًا في تعاملاته، ورحيمًا في جهاده، وكيف لا يكون المسلم رحيمًا، وقد علم أن الله هو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته الخلائق كلها، وكيف لا يكون المسلم رحيمًا، وقد سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)، وكيف لا يكون المسلم رحيمًا، وأهل الجنة هم من كانوا في الدنيا رحماء، يرحمون الخلق ويرقون لهم، ففي صحيح مسلم: (قَالَ-صلى الله عليه وسلم- وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ)،
فالواجب على كل مسلم أن يتخلق بخلق الرحمة، في كل معاملاته؛ فيرحم والديه، بطاعتهما وبرهما والإحسان إليهما، ويشمل أرحامه بالرحمة والإحسان، ويرحم الضعفاء والمساكين والبسطاء؛ بل قبل ذلك كله ينبغي على المسلم أن يرحم نفسه، فيقيمها على مراد الله، والقيام بالواجبات التي تقربه من رحمة الله ورضاه، وتسعده في دنياه وأخراه، واجتناب ما يحول بينه وبين رحمة مولاه.
أيها المسلمون
وإذا كانت الرحمة خلق كريم، وصفة محببة إلى القلب، فهناك صورة من الرحمة المذمومة: ومنها الرحمة في المواطن التي تحتاج إلى شدة، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]. وكذا عندما تكون الرحمة في غير أهلها، ففي الصحيحين: (قال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ، قَالَ عُرْوَةُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ «أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ». قَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ ،ومن صور الرحمة في غير موضعها: الرحمة بالعدو الكافر المحارب، فقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ♦ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8،9]. والشدة لا تعني الظلم، أو التعامل غير المشروع، بل تعني عدم التهاون في إقامة العدل، وتطبيق الحق.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الرحمة من أخلاق المؤمنين)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وعلى المسلم أن يتعرف على الأسباب المعينة على التخلق بخلق الرَّحْمَة: قال السعدي: (فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل، ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرَّحْمَة، والحنان على الخلق)، فمن هذه الأسباب: القراءة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتدبر في معالمها، والتأسِّي به في مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم. ومنها: مجالسة الرحماء ومخالطتهم، والابتعاد عن ذوي الغلظة والفظاظة، فالمرء يكتسب من جلسائه طباعهم وأخلاقهم. ومنها: ملاطفة اليتيم واطعام المسكين، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ «امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ». ومنها: معرفة جزاء الرحماء وثوابهم، وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم، ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية؛ فإنَّ هذا مما يدفع للتخلق بصفة الرحمة، ويردع عن القسوة.
كما أن للتخلق بخلق الرحمة فوائد وثمرات متعددة، فمن فوائد الرَّحْمَة: أنَّها سبب للتعرض لرحمة الله، فأهلها مخصوصون برحمته، جزاء لرحمتهم بخلقه. ومن ثمراتها: محبة الله للعبد، ومن ثم محبة النَّاس له. ومن أعظم فوائدها، أنَّ المتحلي بها يتحلى بخلق تحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرحمة ركيزة عظيمة، ينبني عليها المجتمع المسلم، فيعطف بعضه على بعض، ويرحم بعضهم بعضًا. وعلى قدر حظ الإنسان من الرَّحْمَة، تكون درجته عند الله تبارك وتعالى، وقد كان الأنبياء أشدَّ النَّاس رحمة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أوفرهم حظًّا منها.
ألا فلنتراحم فيما بيننا، ولنتسامح، وليعفو بعضنا عن بعض، عسى الله أن يرحمنا، ويعفو عنا، ويجيرنا من عذابه، يوم يبعث عباده، فقد قال صلوات ربي عليه: «من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ، ومن لا يَغفِرْ لا يُغْفَرْ له» (السلسلة الصحيح).
الدعاء