خطبة عن (كن من الدعاة إلى الله)
يونيو 25, 2024خطبة عن (البدع في الدين)
يونيو 25, 2024الخطبة الأولى (الآيات)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (53) فصلت.
إخوة الإسلام
آيات الله تعالى نوعان: (آياتٌ شرعية: وهي ما جاءت به الرسل، ومنها آيات القرآن الكريم، وآيات كونية: وهي الدالة على قدرة الله، وكماله تبارك وتعالى في العلم والخلق، وهي ما يعجَز البشر عن مثلِه)، والناظر في الكون وآفاقه، يشعر بجلال الله وعظمته، فالكون كلّه خاضع لأمره، ومنقاد لتدبيره، وشاهد بوحدانيته وعظمته، وناطق بآيات علمه وحكمته، والكون كله دائم التسبيح بحمده، قال تعالى: {تُسَبّحُ لَهُ السَّمَـاواتُ السَّبعُ وَالأرضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفقَهُونَ تَسبِيحَهُم إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
وفي قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (53) فصلت، فهذا وعد من الله تعالى أنه سيكشف للناس عن آياته في نواحي السموات والأرض، وفي أنفسهم، فالله تعالى وعد عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، وخفايا أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق، وأن هذا الدين هو الحق، وأن هذا الكتاب هو الحق، وقد صدق الله وعده؛ فقد فُتحت للبشرية الآفاق، وتفتحت لهم مغاليق النفوس، فكشف الله لنا عن آياته في آفاق الكون، ومكنون النفس، خلال هذه القرون التي تلت هذا الوعد؛ وما يزال سبحانه يكشف لهم في كل يوم عن جديد، فمن آيات الله تعالى خلق الإنسان، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (الذاريات:21). وقد بين الله عزَّ وجلَّ أطوار خلق الإنسان، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 -14]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه، وقد أثبت العلم الحديث صدق ما جاء في كتاب الله تعالى، وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فخلق الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة المتنوعة الكثيرة، لآيات تدهش العقول، وتحير الألباب، فهذا الانسان خرج من بطن أمه صغيرًا، ضعيفا، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويتكسب ويجمع الأموال، وله فكرةٌ وغوْر، ودَهاءٌ ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة؛ كلٌ بحسبه. فسبحان من أقدرهم وسَيَّرهم وسخّرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة، والحسن والقبح، والغني والفقر، والسعادة والشقاوة.
وفي قَولِه تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ): فلا بُدَّ أنْ يُرِيَ اللهُ سُبحانَه أهلَ كلِّ قَرنٍ مِن الآياتِ ما يُبَيِّنُ لهم أنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، وأنَّ رُسُلَه صادِقونَ، وفي ذلك طَرَفٌ مِن الإعجازِ بالإخبارِ عن الغَيبِ، وفيه لفت للأنظار لمعرفة الإله الحق، وإنارة القلوب بأدلَّة التوحيد، فالدعوة والحثّ على التفكير في ملكوت السموات والأرض، ليخلُصَ الإنسان إلى الاعتراف بوحدانية الله، وقدرته الباهرة، بعد أن يتأمَّل في خلقه المنظور، ويتدبَّر معاني كتابه المسطور؛ فيعرف خالقه ويحبَّه، ويحاذر أن يعصيه، والنظر في هذا الكون، وتتبُّع الإبداع الإلهي ودقَّته، وتصوُّر قدرة الله الَّتي تحرِّك نواميسه وتحكم موازينه، فنلمس بذلك جمال الطبيعة، وسحرها وغموضها، إلى جانب عظمتها الَّتي تنبئ عن عظمة مُبدِعها، فيكون لنا فيها الراحة والسرور من جهة، واليقين والإيمان من جهة أخرى.
فالدعوة إلى النظر في هذا الكون: هي دعوة للإنسان ليهتدي إلى مبدعه وخالقه، وليعرف حقائق الأشياء وخصائصها؛ ولكي يتسنَّى له الانتفاع بما أودع الله فيها من قُوى، وكان من نتاج الاستجابة لهذه الدعوة الَّتي دعا إليها القرآن، أن أخذت العقول حريَّتها في النظر والتأمُّل، ونهض كلُّ إمام من أئمَّة العلم يبحث ويدرس ويجتهد في سائر العلوم والفنون، دون أن يجد في ظل الإسلام ما يعوِّق نشاطه الفكري، واستقلاله العقلي، وكانت حصيلة ذلك كلِّه، ظهور الحضارة العربية الإسلامية الرائعة، والَّتي كانت أساساً للنهضة الأوربية المعاصرة،
والتأمل في أرجاء هذا الكون الفسيح يقودنا إلى جمال الله، ويهدينا إلى عظمته ويُبصِّرنا بلطيف صُنعه، فكم في هذا الكون مِن جمال ساحِر، ومنظَر فاتن، وحُسْن باهر، وأجمل مِن كل ذلك الجَمال وأروع مِن جميع ذلك الحُسن أن ينظر أولو الألباب إلى جمال هذا الكون ورَوْعة إبداعه وعظيم صُنعه، ودقَّة إحكامه، وعميق انسجامه، فيؤمنون بأنَّ وراء هذا الجمال جمالاً أعظم وحُسنًا أكبر، ونورًا أكمل، وبهاءً أتم، وأنَّ جمال هذا الوجود بأسْره ما هو إلا قطرة مِن فيض جماله، وومضة من بديع كماله، إنَّ رؤية الجمال على حقيقته لا تكون إلا حينما ينظُر القلْبُ بنور الله، فتتكشَّف له الأشياءُ عن جواهرها الجميلة وروائعها البديعة، ويتذكَّر اللهَ كلَّما وقعَتْ عينه أو حسُّه على شيءٍ بديع، أو منظر حسن، فيحس بالصِّلة، ويشعر بالترابُط بيْن المبدع وما أبدع، والجميل وما جمَّل، والمحسِن وما أحسن، ويرى مِن وراء هذا الجمال جمالَ الله وجلاله وكماله.
أيها المسلمون
إن التأمّل في مطلع الشمس ومغيبها، وفي الظلّ الممدود الذي ينقص بلطف ويزيد، وكذا التأمل في العين الوافرة الفوّارة، والنبع الرويّ، والتأمّل في النبتة النامية، والبرعم الناعم والزهرة المتفتّحة، والحصيد الهشيم، والتأمّل في الطائر السابح في الفضاء، والسمك السابح في الماء، والدود السارب، والنمل الدائب، والتأمل في سكون الليل أو في حركة النهار، فكل ذلك يحرّك القلبَ لهذا الخلق العجيب، وُيشعر العبدَ بعظمة الخالق تبارك وتعالى،
وهذه المجرات المنطلقة، والكواكب التي تزحم الفضاء، وتخترق عُباب السماء، فهي معلّقة لا تسقط، وسائرة لا تقف، لا تزيغ ولا تصطدم، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (33): (40) يس
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الآيات)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وآيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها، ولا تؤدّي مفعولها إلا للقلوب الذاكرة الحَيّة المؤمنة، تلك التي تنظر في الكون بعين التأمل والتدبّر، والتي تُعمِل بصائرها وأبصارها وأسماعها وعقولها، ولا تقف عند حدود النظر المشهود، لتنتفع بآيات الله في الكون، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران:191]. أما الكفرة والملحدون، فهم عُميُ البصائر غُلف القلوب، إنهم لا يتبصّرون الآيات وهم يُبصرونها، ولا يَفقهون حِكمتها وهم يتقلّبون فيها، فأنّى لهم أن ينتفعوا بها؟، قال تعالى في شأنهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم:7]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر:14،15]
الدعاء