خطبة عن قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا )
يوليو 15, 2024خطبة عن (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، واعط من حرمك، واعْفُ عمَّنْ ظَلَمَكَ)
يوليو 17, 2024الخطبة الأولى (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (41)، (42) الأحزاب، وقال تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (35) الأحزاب، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (191) آل عمران
إخوة الإسلام
لم تقترن عبادةٌ من العبادات بالاستكثار كما اقترن بها ذكر الله تعالى، فكثير من الآيات التي ورد فيها ذكر الله تعالى، اقترن بها طلبِ الإكثارِ من ذكر الله تعالى، إمَّا باللفظ الصريح؛ كقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة:10]، وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) الأحزاب (41)، أو بتعدد الأوقات؛ كقوله تعالى: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:42]، أو بتعدد الحالات والهيئات البدنية والنفسية، كقوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) النساء:103، وقوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (239) البقرة، أو باختلاف الأماكن، كما في قوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (198) البقرة ،وقوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) البقرة:200، وفي سنن أبي داود: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْىُ الْجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ».
وما أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره سبحانه، إلا لأن ذكر الله تعالى له منافع دنيوية وأخروية (من الأنس، والطُّمَأْنينة، والفلاح، واغتراف الحسنات، وتكفير السيئات، ودعاء الملائكة وغيرها)، وإنما يتحقَّق ذلك بالمداومة على ذكر الله تعالى، والإكثار منه، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: “واذكروا الله ذكرا كثيرا “: إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على تركه، فقال تعالى :“اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم “، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال).
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن كثرة ذكر الله تعالى من صفات المؤمنين المتقين، فقال تعالى :(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (190)، (191) آل عمران، وبين سبحانه أن قلة ذكر الله من صفات المنافقين، فقال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) النساء: (142)،
أيها المسلمون
ولما كان لذكر الله تعالى هذه المكانة الجليلة، والمنزلة العظيمة، والدرجة الرفيعة، فقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته كثيرا في ذكر الله، والمداومة عليه، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ». قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ». وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ». قَالَ مَكِّيٌّ «وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ». قَالُوا وَذَلِكَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي مُوسَى – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ»، وفيه أيضا: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ،)، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ «لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»، وفيه أيضا: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي »، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ، رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»، وفي مسند أحمد: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ َأيُّ الْجِهَادِ أَعْظَمُ أَجْراً قَالَ «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْراً». قَالَ فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْراً قَالَ «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْراً». ثُمَّ ذَكَرَ لَنَا الصَّلاَةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ كُلُّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْراً». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ يَا أَبَا حَفْصٍ ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَجَلْ».
أيها المسلمون
والسؤال: كيف ومتى يكون المرء من الذاكرين الله كثيرًا؟، والجواب: إذا حافظ على طاعة الله ورسوله، وترك ما حرَّم الله ورسوله؛ كان من الذاكرين والذاكرات، فكما أن الذكر نطقٌ باللسان، فهو أيضا عملٌ في الجوارح والأركان، وقال الطبري رحمه الله :(إذا التزم المسلم أذكار اليوم والليلة، كما سَنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ،كان من الذاكرين الله كثيرًا)، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ . فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»، وفي صحيح مسلم: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». وفيه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. لاَ يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ). فلا بد أن يكون لك وِرْدٌ يوميٌّ من الأذكار، حتى تكون من الذاكرين الله كثيرًا،
وتكون من الذاكرين الله كثيرًا: بإطالة المكث في المسجد قبل وبعد الصلوات، ففي البخاري: (المَلائِكَةُ تُصَلِّي علَى أحَدِكُمْ ما دامَ في مُصَلَّاهُ، ما لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لا يَزالُ أحَدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهْلِهِ إلَّا الصَّلاةُ)
وتكون من الذاكرين الله كثيرًا: إذا داومْتَ على تلاوة كتاب الله تعالى كل يوم، ويكون لك وِرْدٌ يوميٌّ لا تدعه، وشرف الذاكرين الله كثيرًا يكون بالاستجابة لأمر الله، والإنابة إليه سبحانه، والخشوع والإخبات لله تعالى، والتواضُع لعباده؛
وتكون من الذاكرين الله كثيرا إذا داومت على قيام الليل: ففي سنن أبي داود: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ». وفي رواية ابن ماجه: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ». وعن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) {الأحزاب:41} قال: إن الله تعالى لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حال العذر غير الذكر، فإن الله تعالى لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تَرْكِهِ، فَقَالَ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النِّسَاءِ:103] بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال). وجاء عن مجاهدٍ -رحمه الله-: “لا يكون العبدُ من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومُضطجعًا”؛ لأنَّ الله تعالى قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء:103]، وقال ابن تيمية -رحمه الله- : “وأقلّ ذلك أن يُلازم العبدُ الأذكارَ المأثورة عن معلم الخير وإمام المتَّقين ﷺ: كالأذكار المؤقّتة في أول النَّهار وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصَّلوات، والأذكار المقيّدة مثل: ما يُقال عند الأكل والشُّرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل والمسجد والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد، إلى غير ذلك”،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ذكر الله تعالى أفضل الطاعات، وأشرف القربات، ومقصد العبادات، وهو الذي من أجله شرعت الشعائر، وهو حياة القلوب ونعيمها، وقوّتها وغذاؤها، وهو حياة الروح، وروح الحياة، ودليل الإيمان، فالعبد إلى تذوق ثمار الذكر اليانعة، وظفر بنتائجه النافعة، التامة الكاملة، من نيل كريم الأجر، وانشراح الصدر، وتحصيل محبة الله، وتعظيمه، ومحبته، وخوفه، ورجائه، فإن علامة المحب لله دوامه على ذكره، بقلبه ولسانه، وقل ما ولع المرء بذكر الله بلسانه وقلبه، إلا أفاد منه حب الله عزّ وجلّ، فليس للقلوب طمأنينة ولا سكينة، ولا راحة ولا قرار، إلا بكثرة ذكر الله، في الغيب والشهادة، والسر والجهر، فالقلوب إنما خُلقت لذكر الله، فلا تحيا إلا به، ولا تثبت على الإيمان إلا معه، فهو الفرقان بين أهل النفاق وأهل الإيمان، فمن واظب على هذه الأذكار جميعها، وأتى بها ليلاً ونهاراً، وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه؛ فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى هو به إلا من صنع مثل صنيعه وزاد عليه،
فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف؛ لتصدق عليك هذه الأوصاف، فالإنسان بدون ذكر هو في الحقيقة من الأموات. فالإنسان في حال أكله وشُربه وتحصيل منافعه ومصالحه وقوّته ورزقه وما إلى ذلك، لا يستطيع أن يكون في حالٍ من الصَّلاة ونحو هذا، ولكنَّه يستطيع أن يكون ذاكرًا وهو يُزاول أعماله، وأن يكون مُراقبًا لله في هذه الأعمال، فهذا من الذكر؛ فهو يبيع ويشتري، ويمشي، ويكون في حالٍ من الذكر بلسانه وقلبه.
والله -تبارك وتعالى- أمر بذكره في أعظم المواطن: حال الالتحام، ومُلاقاة الأعداء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45]، فالفلاح هو تحصيل المطلوب، والنَّجاة من المرهوب، بالظَّفر والنَّصر على الأعداء والغلبة، وكذلك أيضًا بالأجر والثَّواب.
وأيضًا حينما جعل الذكرَ سببًا لصلاته على عبده، كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) الأحزاب (41): (43)، فذكر الله سببٌ لصلاة الله -تبارك وتعالى- على عبده، وهو سببٌ لهدايته؛ لأنَّ هذه الهداية تكون سببًا للتَّوفيق والتَّسديد والهدايات المتتابعة المتعاقبة. قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]،
وإذا ترك العبدُ ذكرَ الله -تبارك وتعالى- يكون قد نسيه، فإذا نسي ربَّه -تبارك وتعالى- لم يُوفَّق؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر:19]، فهنا لا يلهم العبد شيئًا من مصالحه فيضيع، ويكون اشتغاله بما يضرّه، هذا الذي نسي ذكره والثَّناء عليه، وتحميده وتمجيده؛ فنسيه اللهُ -تبارك وتعالى- من رحمته، وأنساه مصالح نفسه فلم يعرفها، ولم يطلبها، بل تركها وأهملها، فصارت مُعطَّلةً.
الدعاء