خطبة عن تبليغ العلم (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا)
يوليو 20, 2024خطبة عن (اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ)
يوليو 21, 2024الخطبة الأولى (الحسود حقود)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (54) النساء، وفي الصحيحين البخاري ومسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)، وفي سنن أبي داود: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ». أَوْ قَالَ «الْعُشْبَ».
إخوة الإسلام
من صفات المسلم وأخلاقه: سلامة القلب، وحب الخير لإخوانه، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ». فالمسلم محب للخير، ولا يفرح بحصول الشر، ولا يشمت، فالشماتة بالمسلمين، والفرح بما ينزل بهم من بلاء، مناف للأخلاق الكريمة، والشيم المرضية التي أمر الله عباده بها, ولا يتصف بذلك من كمل إيمانه، وقوي يقينه، وفي الصحيحين: (عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
ومن المؤسف أن بعض الناس يحسد الناس، ويحقد على الغير، والحسد والحقد ذنبان عظيمان، وخلقان ذميمان، فالحسود: هو الذي يتمنى زوال النعم من الغير، أما الحقود: فهو الذي يضمر الشر للناس، والانتقام منهم، حين تلوح له الفرصة، فالحاقد والحاسد سيئ الأخلاق، ظالم لنفسه، ساخط على من حوله، مبعد من ربه، والحقد والحسد من أمراض القلوب، وهما من أشد الأمراض ضررا بصاحبها، لذا فقد جاء التحذير منهما في الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فعن الحسد، قال الله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (54) النساء، وقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) البقرة: (109)، وفي سنن أبي داود: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ». أَوْ قَالَ «الْعُشْبَ» ،وعن الحقد: قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (204)، (205) البقرة، وفي المعجم الأوسط للطبراني: (عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن لضغائنهم حتى يتوبوا)، وفي الأدب المفرد: (عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من لم يكن فيه غفر له ما سواه لمن شاء: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)،
أيها المسلمون
وللحسد والحقد (أسباب، ونتائج، ووسائل علاج)، فأما عن أسباب الحسد: فهي سبعة: (العداوة، والتعزز، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها)، أما (العداوة والبغضاء): فهي من أشد أسباب الحسد، فمن آذى شخصا بسبب من الأسباب، وخالفه في وجه من الوجوه، أبغضه قلبه، وغضب عليه، وامتلأ عليه قلبه حقدا وحسد، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، ومما وصف الله به الكفار الحسد بالعداوة، قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) آل عمران: (119،120). وقال تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر) (آل عمران:118). ومن أسباب الحسد التعزز: وهو أن يثقل عليه أن يُرفع عليه غيره، فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية، أو علماً، أو مالاً، خاف أن يتكبر عليه، وهو لا يطيق تكبره، ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، فيحسده على ما هو فيه. ومن أسباب الحسد: الكبر: وهو أن يكون في طبع الحاسد أن يتكبر على المحسود، ويستصغره ويستحقره، ويترفع من الانقياد له، والمتابعة في أغراضه. فإذا نال المحسود نعمة، خاف الحاسد أن يعود المحسود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31). وقال تعالى يصف قول قريش (أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) (الأنعام:53). فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة، والوحي، والقرب من الله تعالى، بشر مثلهم، فحسدوهم، وأحبوا زوال النبوة عنهم، ومن أسباب الحسد: الخوف من فوت المقاصد: وذلك يختص بمتزاحمين على هدف واحد، فكل واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بهذا الهدف، ومن ذلك: تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين. ومن أسباب الحسد: حب الرياسة، وطلب الجاه لنفسه: فقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رسول الله ولا يؤمنون به، خيفة من أن تبطل رياستهم وإتباع الناس لهم. ومن أسباب الحسد: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى: وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفوس، ورذالة في الطبع، عليه وقعت الجبلة، ومعالجته شديدة.
أيها المسلمون
أما عن أسباب الحقد، فمنها: المُماراةُ والمنافَسةُ: قال الغَزاليُّ: (وأشَدُّ الأسبابِ لإثارةِ نارِ الحِقْدِ بَيْنَ الإخوانِ: المُماراةُ والمنافَسةُ؛ فإنَّها عَينُ التَّدابُرِ والتَّقاطُعِ، فإنَّ التَّقاطُعَ يَقَعُ أوَّلًا بالآراءِ، ثمَّ بالأقوالِ، ثمَّ بالأبدانِ). ومنها: كثرةُ المُزاحِ: فالمُزاحُ الذي يخرُجُ عن حَدِّه يَغرِسُ الحِقْدَ في القلوبِ؛ قال الأبشيهيُّ: (المُزاحُ يَخرِقُ الهَيبةَ، ويَذهَبُ بماءِ الوَجهِ، ويُعقِبُ الحِقْدَ، ويَذهَبُ بحلاوةِ الإيمانِ، والوُدِّ). ومنها: الخُصومةُ: قال النَّوويُّ: (والخُصومةُ تُوغِرُ الصُّدورَ، وتُهيِّجُ الغضَبَ، وإذا هاج الغَضَبُ حَصَل الحِقْدُ بَيْنَهما، حتَّى يفرَحَ كُلُّ واحدٍ بمَساءةِ الآخَرِ، ويَحزَنَ بمَسَرَّتِه، ويُطلِقَ اللِّسانَ في عِرْضِه)، ومنها: الكَراهيةُ الشَّديدةُ. والرَّغبةُ في الانتِقامِ، وإنزالِ السُّوءِ بمن يَكرَهُه الحاقِدُ. وجمهورُ الحاقِدين تَغلي مَراجِلُ الحِقْدِ في أنفُسِهم ؛لأنَّهم ينظُرون إلى الدُّنيا فيَجِدون ما يتمَنَّونه لأنفُسِهم قد فاتهم، وامتلأَت به أكُفٌّ الآخرين.
أما عن النتائج، والعلاج: فمن النتائج المترتبة على الحقد والحسد: أن الإنسان الحاقد والحاسد لا يهنأ في حياته، ولا تستمر له المسرة، وقد قيل: ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش: (الحقد، والحسد، وسوء الخلق)، ومن النتائج أيضا: الحزن والهم، والشقاء في الدنيا والآخرة، وانخفاض المنزلة وإنحطاط المرتبة، ونفور الناس، وذهاب حسناته، وغضب الله عليه،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الحسود حقود)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما عن علاج الحقد والحسد: أن تعلم أن ما فضل عليك غيرك به إنما هو لحكمة يعلمها الله تعالى؛ فإذا شاء أغنى خلقه جميعاً؛ وإن شاء أفقرهم جميعا، قال تعالى: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54]، وأن تعلم أنك شاركت إبليس و الكفار في تمني زوال النعمة قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة:109]، وأنك بهذا قد سخطت على قضاء الله وقدره، الذي قسمه بين عباده؛ قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف:32]، كل ذلك مع كثرة الدعاء إلى الله عز وجل، والتوكل عليه، والرضا بالقضاء والقدر، والنظر إلى من هو أقل منك حالا، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»،
ومن وسائل علاج الحقد والحسد: الاعتقاد الجازم بأن الحسد لا يضر المحسود، فالحاسد لا يغير من قضاء الله شيئاً، ولا ينفع، ولا يضر، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحديد:22، وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} التوبة:51، وفي سنن الترمذي: قال صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». ومن الوسائل المعينة على العلاج من هذا الداء: الرضا بالقضاء، فقد قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزخرف:32، وقال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء:32، وكذا الدعاء لمن أردت حسده بالبركة، فتبرّك إذا رأيت خيرا على أحد، ففي مسند أحمد: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «عَلاَمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلاَّ إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ»
الدعاء