خطبة عن (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)
أغسطس 12, 2024خطبة عن (هِيَ جَنَّةٌ أَوْ نَار)
أغسطس 15, 2024الخطبة الأولى (لاَ تَغْضَبْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام البخاري في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَوْصِنِي. قَالَ «لاَ تَغْضَبْ». فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ «لاَ تَغْضَبْ».
إخوة الإسلام
الغَضَبُ غَريزةٌ رَكَّبَها اللهُ في طَبيعةِ الإنسانِ، وهو: (تَغيُّرٌ يَحصُلُ عِندَ فَوَرانِ دَمِ القَلبِ؛ لِيَحصُلَ عنه التَّشَفِّي في الصَّدرِ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَغْضَبْ»، فبهذه الكلمة الموجزة، يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أخطار هذا الخلق الذميم، فالغضب جماع كل الشر، ومصدر كل بليّة، فبسببه كم مُزّقت من صلات، وقُطعت من أرحام، وأُشعلت نار العداوات، وارتُكبت بسببه العديد من التصرفات، التي يندم عليها صاحبها، ساعة لا ينفع الندم، فالغضب: غليان في القلب، وهيجان في المشاعر، يسري في النفس، فترى صاحبه محمر الوجه، تقدح عيناه الشرر، فبعد أن كان هادئا متزنا، أصبح ثائرا متخبطا، وفي الصحيحين: (اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». فَقَالَ الرَّجُلُ وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ).
والنَّاسُ مُتَفاوِتونَ في غضبهم، وفي مَبدَئِه وأثَرِه؛ ومِن ثَمَّ: كان من الغضب ما هو مَحمودٌ، وما هو مَذمومٌ؛ فمَن كان غَضَبُه في الحَقِّ، ولا يَجُرُّه غضبه لِمَا يُفسِدُ عليه دِينَه ودُنياه، فهو غَضَبٌ مَحمودٌ، ومَن كان غَضوبًا في الباطِلِ، أو لا يَستَطيعُ التَّحكُّمَ في غَضَبِه إذا غَضِبَ، ويَجُرُّه الغَضَبُ لِتَجاوُزِ الحَدِّ، وإفسادِ دِينِه ودُنياهُ؛ فهذا غَضَبٌ مَذمومٌ. ودرجات الغضب تختلف من شخص لآخر، ففي سنن الترمذي: قال صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمُ الْبَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ وَمِنْهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ فَتِلْكَ بِتِلْكَ أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمْ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ أَلاَ وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ أَلاَ وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ بَطِيءُ الْفَيْءِ)،
وقد شدّد السلف الصالح رضوان الله عليهم في التحذير من هذا الخلق المشين، فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “أول الغضب جنون وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب”، ويقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما: “مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب؛ فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم”، وأُثر عن أحد الحكماء أنه قال لابنه: “يا بني، لا يثبت العقل عند الغضب، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم”، وقال آخر: “ما تكلمت في غضبي قط بما أندم عليه إذا رضيت”.
أيها المسلمون
وللغضب آثار سيئة، وأضرار جسيمة، وعواقب وخيمة، وأخطار مؤكدة، فمِن آثارِ الغَضَبِ في الظَّاهرِ: تَغَيُّرُ اللَّونِ، وشِدَّةُ رَعدةِ الأطرافِ، وخُروجُ الأفعالِ عن التَّرتيبِ والانتِظامِ، واضطِرابُ الحَرَكةِ والكلامِ، وتَشتَدَّ حُمرةُ الأحداقِ، وتَستَحيلَ الخِلقةُ، ولو يرى الغَضبانُ في حالِ غَضَبِه صورةَ نَفسِه، لسَكن غَضَبُه حَياءً مِن قُبحِ صورَتِه؛ ومِن آثارِ الغَضَبِ على اللِّسانِ: أنَّه ينشَأُ مِن الغَضَب كثيرٌ مِن الأقوال المُحَرَّمةِ، والقَبائِحِ المجرمة، كالقَذفِ، والسَّبِّ والفُحشِ، إلى غَيرِ ذلك مِمَّا يستَحي مِنه ذَوو العُقولِ مُطلقًا، وقائِلُه عِندَ فُتورِ غَضَبِه، ومِمَّا ينشَأُ عن الغَضَبِ أيضًا: الأيمانُ التي لا يجوزُ التِزامُها شَرعًا، وطَلاقُ الزَّوجةِ الذي يُعقِبُ النَّدَمَ، ورُبَّما ارتَقى الأمرُ إلى دَرَجةِ الكُفرِ، كما أنَّ الغَضبانَ لا ينتَظِمُ كلامُه، بَل يتَخَبَّطُ نَظمُه، ويضطَرِبُ لفظُه، ومِن آثارِ الغَضَب على الأفعالِ: أنه ينشَأُ مِن الغَضَبِ كثيرٌ مِن الأفعال المُحَرَّمةِ، كالضَّربِ فما فوقَه إلى القَتلِ عِندَ التَّمَكُّنِ، وأنواعِ الظُّلمِ والعُدوانِ،
وأما آثارِ الغَضَب على الباطِنِ، فقُبحُه أشَدُّ مِن الظَّاهرِ؛ فالغَضَبُ يولِّدُ الحِقدَ في القَلبِ على المَغضوبِ عليه، وحَسَدَه وإضمارَ السُّوءِ له على اختِلافِ أنواعِه، وإظهارَ الشَّماتةِ بمَساءَتِه ،والحُزنَ بسُرورِه، والعَزمَ على إفشاءِ سِرِّه، وهَتكِ سِترِه، والاستِهزاءِ به، وغَيرِ ذلك مِن القَبائِحِ، مِن آثارِ الغَضَبِ: أنَّه يطغى على العَقلِ فيُضعِفُه أو يُزيلُه؛ قال ابنُ حِبَّانَ: (سُرعةُ الغَضَبِ أنكى في العاقِلِ مِن النَّارِ في يَبسِ العَوسَجِ؛ لأنَّ مَن غَضِبَ زايله عَقلُه، فقال ما سَوَّلت له نَفسُه، وعَمِل ما شانَه وأرداه)
ومن آثار الغضب: أن الغَضَب يُعمي صاحِبَه، ويُصِمُّه عن كُلِّ مَوعِظةٍ، بَل لا تَزيدُه المَوعِظةُ إلَّا اشتِعالًا؛ لانطِفاءِ نورِ عَقلِه، قال الرَّاغِبُ: (واعلَمْ أنَّ نارَ الغَضَبِ متى كانت عنيفةً تَأجَّجَت واضطَرمَت، واحتَدَّ مِنه غَليانُ الدَّمِ في القَلبِ، ومَلأت الشَّرايينَ والدِّماغَ دُخانًا مُظلِمًا مُضطَرِمًا، يسودُّ مِنه مَجالُ العَقلِ، ويَضعُفُ به فِعلُه؛ ولهذا حُكي عن إبليسَ -لعنه اللهُ- أنَّه يقولُ: متى أعجَزَني ابنُ آدَمَ فلن يُعجِزَني إذا غَضِبَ؛ لأنَّه ينقادُ لي فيما أبتَغيه مِنه، ويعمَلُ بما أُريدُه وأرتَضيه)
ومن آثار الغضب وأضراره: أن الغَضَب يمنَعُ كثيرًا مِن مَنافِعِ الدُّنيا، قال ابنُ حَجَرٍ: (ومَن تَأمَّل هذه المَفاسِدَ عَرَف مِقدارَ ما اشتَمَلت عليه هذه الكَلِمةُ اللَّطيفةُ مِن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “لا تَغضَبْ” مِن الحِكمةِ واستِجلابِ المَصلحةِ في دَرءِ المَفسَدةِ، مِمَّا يتَعَذَّرُ إحصاؤُه والوُقوفُ على نِهايتِه، وهذا كُلُّه في الغَضَبِ الدُّنيويِّ لا الغَضَبِ الدِّينيِّ)، والغَضَبُ يُؤَثِّرُ على صِحَّةِ الإنسانِ، ورُبَّما كان سَبَبًا لأمراضٍ صَعبةٍ مُؤَدِّيةٍ إلى التَّلفِ. ومن أخطار وأضرار الغضب: أنه يورث العبد العدوات، والأحقاد التي تنغص عيشه، وتكدر صفوه، وأيضا: يُلجئ صاحبه إلى الاعتذار.
أيها المسلمون
أما عن وسائل دفع الغضب وعلاجه، فمنها: اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، فالله تعالى هو المعين على تزكية النفوس، ومن وسائل العلاج: التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهو الذي يوقد جمرة الغضب في القلب، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الاعراف: (200)، وفي الحديث المتقدم: «إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، وعلى الغاضب أن يكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار؛ فإن ذلك يعينه على طمأنينة القلب وذهاب فورة الغضب.
ومن وسائل علاج الغضب ودفعه: التطلع إلى ما عند الله تعالى من الأجور العظيمة، لمن كظم غيظه، قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134) آل عمران، وقال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى :40]. وفي سنن الترمذي وغيره: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لاَ تَغْضَبْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن وسائل علاج الغضب ودفعه: الصمت والإمساك عن الكلام، وأن يغير المغضب من هيئته التي عليها، بأن يقعد إذا كان واقفا، ويضطجع إذا كان جالسا، فقد أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مَوْقُوفًا: { الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَالْمَاءُ يُطْفِئُ النَّارَ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ} وَفِي رِوَايَةٍ: “فَلْيَتَوَضَّأْ”، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: {إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ}، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ: {إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ}، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ: {إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ}، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ: {الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ أَحَدُكُمْ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، وَإِنْ وَجَدَهُ جَالِسًا فَلْيَضْطَجِعْ}… ومن وسائل علاج الغضب ودفعه: الابتعاد عن كل ما يسبب الغضب، والتفكر فيما يؤدي إليه، وتدريب النفس على الهدوء والسكينة في معالجة القضايا والمشاكل، في شتى شؤون الدنيا والدين، والوضوء ثم صلاة ركعتين، فإن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء، وأن يتذكر قدرة الله عليه، وحاجة العبد إلى عفو ربه، فلا يأمن إن أمضى عقوبته بمن قدر عليه، أن يمضي الله غضبه عليه يوم القيامة، وفي صحيح مسلم: (قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ – قَالَ – فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَقُولُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي فَقَالَ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا). ومن وسائل العلاج: أن يطالع المرء سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصالحين من أمته، الذين تأسوا به، فما كانوا يغضبون إلا لله، وهم في غضبهم مأجورون.
الدعاء