خطبة عن (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا)
أبريل 22, 2024خطبة عن (كيف تحقق التقوى؟)
أبريل 22, 2024الخطبة الأولى (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (32) النجم، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (49) النساء
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع قوله تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ): قال المفسرون: (أي لا تمدحوا أنفسكم ولا تشكروها، ولا تمنوا بأعمالكم، وبطهارة أنفسكم من المعاصي والرذائل، فإن التقوى وطهارة النفس محلها القلب، والله سبحانه وتعالى هو المطلع عليها، والمجازي على العمل والتقوى، ومن استحضر أن الله تعالى عالم به، ومطَّلع على أعماله وأقواله، فإنه يتواضع لله تبارك وتعالى، ويصغر في عينيه ما عمله، ويكون خائفاً ألا يتقبل الله تعالى منه عمله، أو أن يُحبط عمله، فيصبح هباءً منثوراً، فالعجب بالأعمال من محبطات الأعمال، وكذا: من يعلم يقيناً أن الله تعالى يراه، ويعلم ما كان منه من تقوى، يطمئن قلبه، لأن الله لا يضيع عمله، وسيجازيه به خيرا، قال تعالى: “وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ” [آل عمران:115].
والإنسان لا يعلم مصيره، ولا يعلم ما قُبل من أعماله الصالحة وما لم يقبل، فهو يقدم العمل الصالح خائفا وجلا، يخاف أن يرده الله عليه، وألا يتقبله منه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون:60،61)، وهذا ما ربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأمته من بعده، ففي صحيح مسلم: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ هَذَا الاِسْمِ وَسُمِّيتُ بَرَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ». فَقَالُوا بِمَ نُسَمِّيهَا قَالَ «سَمُّوهَا زَيْنَبَ». وفي صحيح البخاري: (قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ)،
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينادي حذيفة فيقول: “أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو، هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين”، وعندما جُرح عمر جُرحه الذي نال به الشهادة في سبيل الله ، زاره ابن عباس يعوده فوجده يبكي وهو يأمر ابنه عبد الله أن يضع له خده على الأرض، وهو يقول: “يا ليتني كنت حيضة حاضتها أمي، ليتني خرجت من الدنيا كفافاً لا علي ولا لي”، فقال: ألم تشهد بدراً؟ ألم تبايع تحت الشجرة؟ ألم يشهد لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ قال: “لعل ذلك على شرطٍ لم يقع”،
فالمسلم لا بد أن يكون دائماً على خوف ووجل، وأنه عرضة لحسن الخاتمة، ولسوء الخاتمة، ولا بد أن يخاف مكر الله تعالى، قال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فعلى المسلم أن يكون بين الرجاء والخوف، وجاء في قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) النساء :49. أنها نزلت في اليهود والنصارى، حين قالوا: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) المائدة: 18، وفى قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) (111) البقرة،
وفى صحيح مسلم: (عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ – وَكَانَ رَجُلاً ضَخْمًا – فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ». وفى الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- – قَالَ – فَقَالَ « وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ». مِرَارًا «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ كَذَا وَكَذَا». فليحذر المسلم من تزكية نفسه، أو الاغترار بعمله، أو مدح الناس وتزكيتهم دون حاجة، أو مقصد شرعي،
والاسلام لا ينهى عن تزكية النفس فحسب، بل أمر المسلم بالتواضع للخَلْق، وترك التكبر عليهم؛ فقد قال الله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر:88]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء:37]، وفي صحيح مسلم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)، فمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ، وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، إِلَّا لَقِيَ اللهَ وَهو عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
أيها المسلمون
ومن دلائل الإخلاص، وعلامات المخلصين: اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله تعالى، وعدم القيام بالعبودية له، وإذا عمل المؤمن عملًا صالحًا، أو كان له سبق إلى البر، أو خبيئة من الخير؛ فلَّا يُظهِر ذلك للناس إن أمكن إخفاؤه؛ ليكون ذلك أدعى إلى الإخلاص والقبول والاستمرار، وأبعد عن الرياء والعجب والحبوط والانقطاع، وفي صحيح مسلم: (قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ) ، وهذا كان دأْبُ الصالحين من السالفين ؛ فعَنِ الْحَسَنِ البصري قَالَ: “إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَجْلِسُ الْمَجْلِسَ فَتَجِيئُهُ عَبْرَتُهُ فَيَرُدُّهَا، فَإِذَا خَشِيَ أَنْ تَسْبِقَهُ قَامَ”، وعن محمد بن واسع قال: “إن كان الرجل ليبكي عشرين سنةً وامرأته معه لا تعلم”، وعن إبراهيم النخعي قال: “كانوا يكرهون أن يُظهر الرجل أحسن ما عنده”
فإياك إياك من تزكية النفس، فكَمْ جَرتْ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النُّكُوصِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَمْ كَانَتْ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ قَنْطَرَة لِلِاعْتِدَادِ بِالرَّأْيِ، وَعَدَمِ التَّسْلِيمِ لِلشَّرْعِ، فَكَانَتْ نِهَايَةُ أَهْلِهَا قَدْحًا فِي الْأَحْكَامِ، وَكَرَاهِيَةً لِمَا أَنْزَلَ رَبُّ الْأَنَامِ.
وقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَخْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وأن الله تعلى أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، فَاغْتَرُّوا، وَبَطَرُوا، وَتَعَالَوْا عَلَى الْخَلْقِ، وَمَا شَكَرُوا، وَبَلَغَ مِنْ مَدِيحِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ قَالُوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [الْمَائِدَةِ:18]، فقال الله لهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) [الْمَائِدَةِ:18]، بَلْ تَعَدَّتْ بِهِمْ نَزَغَاتُ الْغُرُورِ وَالتَّعَالِي إِلَى حَصْرِ الْهِدَايَةِ فِيهِمْ: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) [الْبَقَرَةِ:135]، فكان الرد عليهم: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) (135): (137) البقرة، بل وَزَعَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَجَنَّتَهُ هِيَ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [الْبَقَرَةِ:111]. فكان الجواب: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (111)، (112) البقرة
ويقول أهل العلم: إن تَزْكِيَة النَّفْسِ لَهَا صُوَرٌ وَأَشْكَالٌ متعددة: فقَدْ تَأْتِي تَزْكِيَة النَّفْسِبِلِسَانِ الْمَقَالِ، فيتحدث المرء عن نفسه ويزكيها، وَقَدْ تَكُونُ بِلِسَانِ الْحَالِ، فيعجب بنفسه وعمله، وَقَدْ تَجِيءُ فِي صُوَرِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْمِيحِ، ومن المعلوم أن مُرَاءَاة النَّاسِ بِالْأَعْمَالِ صُورَةٌ من صور تزكية النفس، وَغَايَتُهَا إِظْهَارُ النَّفْسِ وَإِشْهَارُهَا. وقد تكون تزكية النفس بالنَّقْد اللَّاذِع لِلْآخَرِينَ، وَحَشْدُ هَفَوَاتِهِمْ، وَتَقْزِيم آرَائِهِمْ، وَاحْتِقَارُ أَفْعَالِهِمْ، فهذه كلها رَسَائِلُ خَفِيَّةٌ صَامِتَةٌ فِي تَلْمِيعِ الذَّاتِ. وقد تكون تزكية النفس بالتَّعَصُّبُ لِلرَّأْيِ، وَعَدَمُ الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ، خَشْيَةَ التَّعَرُّضِ لِلْقَدْحِ وَالتَّنَقُّصِ، وهذه كلها مُؤَشِّرَاتٌ عَلَى الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ، وَحُبِّ تَزْكِيَتِهَا. وَأَقْبَحُ صُوَرِ مَدْحِ النَّفْسِ أَنْ يَمْدَحَ ذَاتَهُ لِشَيْءٍ لَمْ يَعْمَلْهُ، وَذلك مِنْ صِفَاتِ اليَهُودَ التي وردت فِي الْقُرْآنِ، قال تعالى: (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) [آلِ عِمْرَانَ:188]، فَمَنْ فَعَلَهَا فَقَدْ كَسَا نَفْسَهُ زُورًا وَغُرُورًا؛ وقال صلى الله عليه وسلم: “وَالْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ”،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إذا نظر الإنسان إلى نفسه بعين الإعجاب، وإلى غيره بعين الاحتقار، فصار معجبًا بعمله الصالح، مرائيًا به، محتقرًا لمن لم يصل إلى ما وصل إليه؛ فهذا العمل مآله إلى الخسران، ففي صحيح مسلم: (عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ «أَنَّ رَجُلاً قَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ». فالذي يزكي نفسه، ويحتقر غيره، فصاحب هذا الخُلُق الرديء يصير مبغوضًا لدى الخلق، دنيَّ المكانة في قلوبهم، مكروهَ البقاء في مجالسهم.
فاعرف قدر نفسك وحقيقتها، وقصورها وكثرة عيوبها، واعترف لنفسك بضعفها وعجزها، وجهلها ونقصها، وإياك واحتقار الآخرين وازدراءهم، والتباهي عليهم وانتقاصهم؛ بل احترم الناس واعرف أقدارهم، واحملهم على أحسن المحامل، وظُنَّ بهم خير الظنون، واحذر أن تنزل الناس في نفسك علوًّا أو دنوًّا بما ترى من هيئاتهم وصورهم، وما تعرف من فقرهم وغناهم. فالأيام متقلبة، والفتن كاشفة، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء.
وهذا يستلزم منا الخوف، والعمل، والمجاهدة، ومراجعة النفس، ومراقبتها، والتنبه، والحذر ،ويحسن بالمسلم أن يتملكه الخوف من سوء الخاتمة، وانكشاف الحقيقة قبل الموت، وعليه بالعمل الدؤوب وفق مراد الله سبحانه، وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم حتى الممات، والمجاهدة ومكابدة المشاق، والقيام بأوامر الله وترك نواهيه، مهما كان شاقا على النفس، ومراجعة النفس من حين لآخر، فإنها خداعة؛ تظهر لصاحبها ما ليس فيها أحيانا، وتبدي له أوهاما ملفقة، وزيفا مصطنعا، وباطلا في صورة حق، وعليه بمراقبتها على الدوام لتصحيح النية في كل الأعمال الصالحة، والحذر الحذر من استيفائها حظوظها، من حطام الدنيا وحب الظهور، والثناء عليها من الناس.
الدعاء