خطبة عن (الدُّعَاءُ)
نوفمبر 10, 2024خطبة عن (احذروا الأخبار الكاذبة)
نوفمبر 13, 2024الخطبة الأولى (الرِّضا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (119) المائدة، وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (100) التوبة،
إخوة الإسلام
الرِّضا: (هو طيب النفس بما يصيب المسلم ويفوته، وهو سكون القلب تحت مجاري الأحكام، وعدم الجزع في أي حكم كان)، ويقول الراغب الأصفهاني: (رضا العبد عن الله؛ أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد؛ أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه). فالرضا من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يتحلى بها المؤمن، وهي صفة تجلب له الهدوء والتوازن النفسي، والقدرة على مكابدة الحياة، والعيش فيها بأحسن ما يمكنه ذلك، فيكون فعّالاً نتيجة لتوازنه الداخلي، وتسليمه لمجريات القدر، مع احتفاظه بعزيمته وإصراره وهمته، يقول ابن قيم الجوزية: (وطريق الرضا طريق موصلة إلى أجل غاية، ولكن فيها مشقة وعقبات.. وإنما عقبتها همة عالية، ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله).
والرضا ثمرة من ثمرات المحبة، وهو أعلى مقامات المقربين، وباب الله الأعظم، ومستراح المتقين، وجنة المؤمن في الدنيا، لأن الرضا يفرغ القلب لله، ومن ملأ قلبه من الرضا، ملأ الله صدره غنىً ومنًا وقناعة، ورضا الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا هي صفته، والجنة هي من خلقه، فمنزلة الرضا فوق منزلة جنات عدن، قال تعالى: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:72]، فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا». والرضا بقسمة الله وقدره من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ». قَالَ قُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ثُمَّ قَالَ «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
ويوم القيامة ستكون العيشة الراضية هي عاقبة المؤمنين المتقين، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) (6)، (7) القارعة، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (19): (24) الحاقة، وقال تعالى: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (27): (30) الفجر
أيها المسلمون
ومن أعظم نماذج الراضين، نبي الله وخليه إبراهيم (عليه السلام): ففي صحيح البخاري: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ، خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ، وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا قَالَ إِلَى اللَّهِ. قَالَتْ رَضِيتُ بِاللَّهِ)، فأكرمها الله تعالى على رضاهما؛ أنْ جعل ابنَهما إسماعيل – عليه السلام – رسولاً نبياً، وأعظمُ كرامة نالتها في الدنيا؛ أنْ جعل من نسلها إمامَ المرسلين، وخاتَمَ النبيين، محمداً صلى الله عليه وسلم،
ويقول العلماء المحققون: الرضا نوعان: أحدهما: الرضا بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه ،ويتناول هذا النوع ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور، كما قال تعالى:﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:62]، وقال تعالى:﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة:59]، وهذا النوع من الرضا واجب، والدليل على وجوبه ما ورد في القرآن من ذم تاركه كقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ٥٨ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة:58–59].
والنوع الثاني من الرضا: الرضا بالمصائب: كالفقر، والمرض، وفقد الأحبة وغيرها، ففي مسند أحمد: (يقول صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً».
والرضا عن الله تعالى من أجل العبادات، واسمى الدرجات، وأعظم القربات، قال تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (119) المائدة، وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (100) التوبة، وقال تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (22) المجادلة، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (7)، (8) البينة، وقد كان السلف الصالح يوصي بعضهم بعضاً في الرضا، فها هو عمر الفاروق يوصي أبا موسى الأشعري – رضي الله عنهما – قائلاً له: (إنَّ الخير كلَّه في الرضا، فإن استطعت أنْ ترضى وإلاَّ فاصبر)؛ ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين،
وطريق الوصول إلى الرضا عن الله تعالى، تكون بأمور ومنها: اعتقاد العبد لكمال ربه سبحانه وتعالى، ولإحسانه إلى عباده، وأنه يستحق أن يرضى بقضائه؛ لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيرًا وعدلًا، ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن إصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، ويكون بمجاهدة النفس على زيادة الإيمان، وتسليم الأمر لله تعالى؛ حتى يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وبذلك يرضى عن الله تعالى،
أيها المسلمون
ومن علامات الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء بالاستخارة. وفقد المرارة عند القضاء. ودوام حب الله في القلب بعد القضاء. يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “إن الرضا يُثمِّر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة واغتباط العبد بقسمه من ربِّه، وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلامه لمولاه في كل شيء، ورضاه منه بما يجريه عليه، وتسليمه له الأحكام والقضايا، واعتقاد حسن تدبيره، وكمال حكمته، ويذهب عنه شكوى ربِّه إلى غيره، وتبرمه بأقضيته.. “
والراضي عن الله تعالى هو: المُقدِّم مرضاة ربه على رغائب نفسه، ورهائب الخلق؛ قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172-174]
واعلموا أن من رضي الله عنه فلا عليه ما فاته من حطام الدنيا وما عليها، قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]، فليس وراء رضوان الله لأولي الألباب غاية.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الرِّضا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما عن فضائل الرضا: ففضائله عظيمة وكثيرة ومتعددة، ومن أهمها: أن الرضا سببٌ لمغفرة الذنوب: كما جاء في صحيح مسلم: «مَنْ قَالَ – حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ»، وأن الرضا سببٌ لوجوب الجنة لصاحبه: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا أَبَا سَعِيدٍ! مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا؛ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»، والرضا سببٌ لنيل رِضوان الله الأبدي: لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»، والراضي بقضاء اللهِ أغنَى الناس: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ؛ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ. وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ؛ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ» رواه الترمذي. والرَّاضي يتذوَّق طعمَ الإيمان: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ؛ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» رواه مسلم.
ومن فوائد الرضا وثمراته: أن الرضا يثمر محبة الله تعالى ورضوانه وتجنب سخطه، والفوز بالجنة والنجاة من النار، وهو دليل على حسن ظن العبد بربه، ودليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، ومظهر من مظاهر صلاح العبد وتقواه، وسبب من أسباب الراحة النفسية والروحية، فالرضا يجعل المسلم في حياة مطمئنة، وهدوء بال، وراحة نفسية، والرضا يغرس الحقائقَ الإيمانيةَ في القلوب: كالاستعانة بالله تعالى، والتوكل عليه، والاستغاثة، والخشية، والإنابة، ونحوها، والرضا يجعل القلبَ سليماً، نقيًّا من الغش والحقد، والحسد والشحناء؛ لأنه يوقن بحكمة الله، ورحمته في كُلِّ أقضيته الكونيةِ والشرعية، والرضا يُحوِّل المِحَنَ إلى مِنَح، والمصائبَ إلى أجور: قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن:11]. والرضا يُثمر القناعةَ وعِزَّةَ النفس: فالمؤمن يعلم أنَّ رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفيَ رِزقَه، وأنَّ العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلاَّ بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعِزَّةِ النفس، وتركِ التكالب على الدنيا، وقطعِ الطمع مما في أيدي الناس، والرضا يُوجب التواضع: فإذا رَزَقَ اللهُ المؤمنَ مالاً أو جاهاً أو علماً، أو غيرَ ذلك تواضَعَ لله؛ لأنَّ ما به من نعمة فمن الله، ولو شاء لانتزعها منه، والرضا يُثمر الشكر، وفيه مُحاربةٌ لليأس: فالذي لا يرضى بما قدَّره الله عليه؛ رُبَّما يصيبه اليأس والقنوط.
الدعاء