خطبة عن (نعيم القبر)
ديسمبر 22, 2024الخطبة الأولى (كيف أتأثر بالقرآن وأعمل به؟)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (2): (4) الأنفال
إخوة الإسلام
الكثير من المسلمين اليوم يقرأون القرآن، ولكنهم لا يتأثرون به، ولذلك، فكثيرا ما يسأل أحدهم: كيف أتأثر بالقرآن وأعمل به؟، وهذا هو موضوع لقائنا اليوم -إن شاء الله تعالى- وبداية فمن المعلوم: أن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنتلوه، ونتدبر آياته، ونعمل بما جاء فيه، فالقرآن الكريم كتاب هداية، وعقيدة، وشريعة، ومنهاج حياة، قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (9) الاسراء، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (29) ص، والرسول صلى الله عليه وسلم بلغه لأصحابه -رضوان الله عليهم، فتعلموه، وتدبروا آياته، وتأثروا به، وعملوا بما فيه، والسؤال: كيف تأثَّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن؟؛ وكيف زالت عنهم أوصاف الجاهلية، من الصلف والغلظة، وقسوة القلوب، إلى اللين، والرحمة، والاخلاق الحسنة؟، وكيف عالج القرآن نفوسهم، وعدل إعوجاجهم؟، وكيف أصبح لهم مع القرآن أحوالٌ؟، فإذا استطعنا أن نجيب على ذلك، أمكننا أن نسلك الطريق الذي سلكوا، والموصل إلى التأثر بالقرآن الكريم، فلنا فيهم أسوة حسنة،
لقد كان حال الصحابة مع القرآن: الاستجابة الفورية لأمر الله تعالى ونهيه، وأسوق لكم في ذلك موقفين، ففي الصحيحين: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ،وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ». فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِى طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلاَّ الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي فَقَالَ اخْرُجْ فَانْظُرْ فَخَرَجْتُ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ – قَالَ – فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَاهْرِقْهَا. فَهَرَقْتُهَا فَقَالُوا أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ قُتِلَ فُلاَنٌ قُتِلَ فُلاَنٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ – قَالَ فَلاَ أَدْرِي هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ – فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ)،
وكان حال الصحابة عند سماع القرآن الكريم: وَجَل القلوب، ودموع العيون، واقشعرار الجلود؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشَرَ آيَاتٍ فَلاَ يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ). وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (مَا كُنَّا نَتَجَاوَزُ عَشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ حُكْمَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا)، وهكذا كان حال الصحابة مع القرآن: قراءةُ تدبُّرٍ وخشوع، تُورِث الخشية، وربما غلبهم البكاء، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «اقْرَأْ عَلَيَّ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ «نَعَمْ». فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا) قَالَ «حَسْبُكَ الآنَ». فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)، وفي صحيح البخاري: (لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ)، وفي صحيح البخاري مقطوعا: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)،
أيها المسلمون
فلعلنا أدركنا السر، والفرق بيننا وبين الصحابة (رضي الله عنهم)، فهم يمتثلون القرآن، يقرؤونه بألسنتهم، ويتدبرونه بعقولهم وقلوبهم، ولديهم الاستعداد للتطبيق الفوري، والالتزام بالأمر والنهي، ونحن دونهم في ذلك، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لِلَّهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) قَالَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ نَعَمْ (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قَالَ نَعَمْ (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قَالَ نَعَمْ (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) قَالَ نَعَمْ).
والآن نستطيع أن نجيب على السؤال: كيف أنتفِعُ وأعمل بالقرآن؟، وكيف يكون للقرآن أثرٌه في حياتي؟، والإجابةَ نسمعها من ابن القيِّم؛ يقول: “إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن؛ فاجمع قلبكَ عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سمعَكَ، واحضر حضور مَنْ يخاطبه به مَنْ تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالي: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37]، وذلك أن تمام التأثير لمَّا كان موقوفًا على مؤثٍّر مقتضٍ، ومَحَلٍّ قابلٍ، وشرطٍ لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه – تضمنت الآيةُ بيانَ ذلك كلِّه بأوجز لفظٍ وأَبْيَنِه وأَدَلِّه على المراد. فقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ هو المؤثِّر، وقوله: ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ هو المَحَلُّ القابل، والمراد به: القلب الحي، الذي يَعْقِل عن الله؛ كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ [يس:69-70]؛ أي: حي القلب. وقوله: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾؛ أي: وجَّه سمعه، وأصغى حاسَّة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثُّر بالكلام. وقوله: ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾؛ أي: شاهد القلب، حاضرٌ غير غائبٍ، فاسْتَمَعَ كتاب الله وهو شاهد القلب والفَهْم، ليس بغافِلٍ ولا ساهٍ، وهو إشارةٌ الى المانِع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغَيْبَته عن تعقُّل ما يُقال له، والنَّظر فيه وتأمُّله، فإذا حصل المؤثِّر – وهو القرآن – والمحل القابل – وهو القلب الحي – ووُجِدَ الشَّرط – وهو الإصغاء – وانتفى المانِع – وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلي شيءٍ آخر – حصل الأثر؛ وهو الانتفاع والتذكُّر”. وفي مسند أحمد: (عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ سَأَلَتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ)، فكان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، وكان الصحابة أحرص الناس على تدبر القرآن، وفهم معانيه، واستيعاب أمثاله، وقد كان بعضهم يقف على الآية الليلة، أو جزءا من النهار، يتدبرون ويتأملون، ويحذون في ذلك حذو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سنن النسائي: (أن أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَصْبَحَ بِآيَةٍ وَالآيَةُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
أيها المسلمون
فينبغي أن يكون هناك أثر للقرآن عند قارئه وسامعه، في سلوكه وخلقه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي أن يكون باكياً محزوناً حكيماً عليماً ساكناً، ولا يكون جافياً ولا غافلاً ولا صاخباً ولا صيّاحاً ولا حديداً) -أي: ولا شديداً- في مطالبة الخلق ومعاملتهم .
ولحصول التأثر بالقرآن أسباب، ينبغي الأخذ بها، وأمور ينبغي التخلي عنها، أما الأسباب فهي: أن يكون القارئ على وضوء، جالساً جلسة أدب وسكون، مستقبلاً القبلة، مطرقاً رأسه، غير جالس على هيئة المتكبر، وأن يقرأ القرآن مع فهم المعاني، والوقوف عندها، وأن يرتل القرآن، فالترتيل أقرب إلى توقير القرآن واحترامه، ويستحب البكاء عند سماع القرآن أو تلاوته، ففي سنن ابن ماجه: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا». وعلى تالي القرآن أن يراعي حق الآيات، فإذا مر بآية سجدة سجد، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، أو آية رحمة سأل الله من فضله، وعليه أن يعظم المتكلم بالقرآن، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن تعظيم الكلام يؤدي إلى الخشوع عند سماعه وتلاوته، وتعظيم الكلام يأتي من تعظيم المتكلم سبحانه، وعليه بحضور القلب، وترك حديث النفس، فقد قال الله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12]، أي بجد واجتهاد، وأن يستشعر المسلم بأنه مخاطَب بكل آية: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ «يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ أَشْتَكَى». قَالَ سَعْدٌ إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى. قَالَ فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ ثَابِتٌ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، ومن الأسباب: الجهر بتلاوة القرآن: فذلك يساعد على يقظة القلب، ومِن ثمَّ التأثر بالقرآن، بخلاف ما لو قرأ المسلم سرًّا، فإنه يكون أقرب لشرود الذهن وانصراف القلب؛ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يجهر بالقرآن، فعندما سُئل ابن عباس رضى الله عنهما عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل قال: (كان يقرأ في حجرته، فيَسمع قراءتَه مَن كان خارجاً) رواه البيهقي في “شعب الإيمان”. : ومن الأسباب: الحرص على قيام الليل بالقرآن: فإنّ قيام الليل من أعظم العبادات وأحبها إلى الله، وأكثرها حضورًا للقلب؛ لذلك إن أراد المسلم التأثر بالقرآن فعليه أن يقوم الليل به، وهذه وصية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم،
وأما ما ينبغي أن يتخلى عنه القارئ، ليحصل له التأثر المطلوب فمن ذلك: ألا ينصرف نحو تحقيق الحروف وإقامتها، ويترك المقصود الأعظم وهو الفهم والتدبر، وهذا لا يعني أن إقامة الحروف غير مطلوبة، بل هو واجب على ما ذهب إليه علماء التجويد، لا لذاته، بل لتحقيق الاتباع وفهم المقروء، ومنها: عدم الإصرار على الذنوب والمعاصي، فإنها أعظم حجاب بين فهم كلام الله تعالى وبين قلب المؤمن، وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كيف أتأثر بالقرآن وأعمل به؟)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقد ذكر العلماء بعض الأسباب التي تحُول بيننا وبين التأثر بالقرآن، ومنها: طول الهجر للقرآن، فذلك يولّد فجوة كبيرة تحُول بين القلب والتأثر به، ومنها: مرض القلب وقسوته فالقلب هو المخاطَب الأول بالقرآن، ولن ينتفع بآيات القرآن ومواعظه وعِبَرِه إلّا القلب السليم، أمّا القلوب التي أمرضتها الذنوب واستولت عليها الشهوات المحرّمة فلن تتأثر بالقرآن، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) ق، ومنها: الغفلة والانشغال بالمُلهيات: فالإنسان الذي استولت عليه الدنيا وزخارفها لا يشعر بأثر القرآن، ولن يتذوق حلاوته، ومنها: عدم الاهتمام بالتفسير ومعاني القرآن، فذلك يحجب القلب عن الـتأثر به، قال صاحب التفسير: “إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذُّ بقراءته؟!”.
والقارئ للقرآن على الوجه الذي بيناه، يجني الكثير من الثمرات بتدبُّره وتأثره بالقرآن، ومن ذلك: زيادة الإيمان، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (124) التوبة، ومن ذلك: صلاح القلوب: فالقرآن الكريم أعظم أدوية القلوب أثراً في إزالة أمراض الشهوات والشبهات، ولِمَ لا، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)، ومن ذلك: الإقبال على طاعة الله: فالإقبال على الطاعات وشحن الهمم للقيام بها من أعظم الآثار العملية التي يحدِثها القرآن، ومنها: زيادة خشية الله تعالى: فإنّ التأثّر بالقرآن وتدبّر ما فيه من الحديث عن عظمة الله سبحانه وقدرته من أعظم أسباب زيادة خشيته سبحانه، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (21) الحشر، ومنها: تهذيب السلوك والأخلاق: فانعكاس القرآن على سلوك المسلم من أعظم الثمرات المرجوّة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها: عندما سُئلت عن خُلقه صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: (خُلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن) رواه مسلم.
الدعاء