خطبة عن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً)
ديسمبر 29, 2024خطبة عن (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ)
ديسمبر 30, 2024الخطبة الأولى (كيف تكون سعيدا؟)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه: (عَنْ عَلِيٍّ – رضي الله عنه – قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) الآيَةَ، وفي مسند الإمام أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ السُّوءُ وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ».
إخوة الإسلام
(السَّعَادَةُ) هي جنة الأحلام، وهي منتهى الآمال، فكل البشر ينشدها، وقليل من يدركها، فالجميع متفقون على طلب السعادة، لطمعهم في حياة سعيدة هنيئة، لا أحزان فيها ولا هموم، ولكن من المعلوم: أن نيل السعادة منحة من الرحمن، يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، فمنهم من ينعم في جناها، ومنهم من يحرمها، ويعيش في أمانيها، والموفق من هدي إلى طريقها وسبيلها فسلكها، وخطى إليها، وعمل لها، والسؤال: كيف تكون سعيدا؟، والجواب: لقد ظن البعض أن السعادة في جمع المال والثراء، وظن آخرون في أنها في المنصب والجاه، ومنهم من طلبها في الشهوات وتحقيق الأماني المحرمة، فآثر دنياه على دينه، واتبع هواه، ونسي آخرته، فجنى الوهم والهموم، وكابد المعيشة وقاسى الأحزان،
إذن: كيف تكون سعيدا؟: فنقول: السعادة لن تُنال إلا بتقوى الله عز وجل، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالبعد عن المعاصي والسيئات، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]. فلا سبيل إلى نيل السعادة إلا بطاعة الله، ومن أكثر من الأعمال الصالحة، واجتنب الذنوب والخطايا، عاش سعيداً، وكان من ربه قريباً، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97].
والسعادة يكتمل عقدها بالإحسان إلى الخلق، مع ملازمة طاعة الرب، ومن ذاق طعم الإيمان ،ذاق حلاوة السعادة، وعاش منشرح الصدر، مطمئن القلب، ساكن الجوارح،
والشقاء كل الشقاء: في اتباع الهوى، واقتراف المعاصي والسيئات، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه:124] أي في شدة وضيق. وقال تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (15)، (16) طه، فالفرار من الشقاء إلى السعادة يكون: بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، فاطرق أبواب التوبة، وأوصد أبواب المعاصي، لتذوق طعم السعادة، فعافية القلب في ترك الآثام والذنوب، ومن انتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة، أغناه الله بلا مال، وآنسه بلا صاحب، والشقي من أعرض عن طاعة مولاه، واقترف ما حرم الله.
واعلموا أنه من جمع ثلاثة كان سعيداً حقاً: الشكر على النعم، والصبر على الابتلاء، والاستغفار من الذنوب، قال ابن القيم: “إذا أُنعم عليه شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، وإذا أطرقت ملياً تُحاسب نفسك على تقصيرها، وتعظم زلاتها، وتخشى من هفواتها خوفاً من بارئها، وتتغافل عما قدمت من محاسن بين يديها طمعاً في ثواب خالقها، فتلك أمارة على نفس تطلب حياة سعيدة، فالسعيد من اتقى خالقه وحسنت معاملته مع الخلق، وشكر النعم واستعملها في طاعته، وتلقى البلاء بالصبر والاحتساب، وشرح الفؤاد يقيناً منه بأن الله يطهره بذلك ويرفع درجاته واستغفر ربه عن الخطايا وندم على الأوزار.
أيها المسلمون
والسعادة في الاتباع، لا في الابتداع، ومعنى الاتباع: الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في المعتقد، وفي الأقوال، والأفعال، والأمر والنهي، مع توفر القصد والإرادة في ذلك كله، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]. فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، الذي توزن عليه الأعمال، فمهما قال قائل أو ادعى داعي، فلا قيمة لها، حتى تزن كلامه وفعله بالميزان الأكبر، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا سعادة من أطاعه واتبعه، ويا خزي وندامة من خالف أمره وعصاه، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:27]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ [الأحزاب:66]
فأتباع النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً هم أشرح الناس صدراً، وأهنأهم عيشاً، وأسعدهم حياة، وأثبتهم قلباً، وأسلمهم ضميراً، ولو أصابهم من المحن والابتلاء ما أصابهم، فعلى حسب متابعة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينال من انشراح صدره، ولذة روحه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور:54] وفي الصحيحين: (عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب السعادة كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة. لذلك أمرنا الله تعالى بطاعته طاعة مطلقة: فقال تعالى: ﴿وما آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:7]، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:80]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:71]. فمفتاح الجنة في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، والسير على منهجه وطريقته: ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى» . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»، فالاعتصام بالسنة وإتباعها عصمة من الضلال ونجاة من الفتن: قال عليه الصلاة والسلام: «”تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبداً كتاب الله وسنتي”» [رواه الحاكم وصححه الألباني]. وقال عليه الصلاة والسلام – في وصيته التي وصّى بها أصحابه: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ» [رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما وصححه الألباني].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كيف تكون سعيدا؟)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) الشرح(1): (8)، ومن أراد أن يأخذ من السعادة التي نالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا نصيباً، فليحرص على سلوك هديه، فبقدر التزام الإنسان بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقدر ما يكون معه من انشراح الصدر، وتخفيف الوزر، ورفع الذكر، يقول ابن القيم رحمه الله: (شرح الله صدر رسوله صلى الله عليه وسلم أتم الشرح، ووضع عنه وزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع، وجعل لأتباعه حظاً من ذلك، إذ كل متبوع فلأتباعه حظٌ ونصيبٌ من حظ متبوعهم في الخير والشر)، فأتبعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أشرحُ الناس صدراً، وأوضعهم وزراً، وأرفعهم ذكراً، وهذا فضل الله الذي منَّ به على الأمة؛ والله عز وجل ذكر السبب الذي حصَّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم السعادة، فقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:٧-٨]، فهذا هو سبب السعادة، وسر شرح الصدر، ورفع الذكر، الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما أن الله وعد المتبعين لخليله -صلى الله عليه وسلم -توعد المخالفين له بالفتنة والعذاب الأليم، فقال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]،
الدعاء