خطبة عن (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا)
يناير 11, 2025خطبة عن (تزيين الشيطان)
يناير 12, 2025الخطبة الأولى (الْهُدَى والضَّلاَلُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم، ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) (27) الرعد، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (4) إبراهيم، وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (93) النحل، وقال تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (8) فاطر، وقال تعالى: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) المدثر:31،
إخوة الإسلام
يقول الله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (8) فاطر: والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن، من الذي يضله الله تعالى؟، ومن الذي يهديه سبحانه وتعالى؟، وبداية يجب أن نعلم: أن الله تعالى حكم عدل، وأنه سبحانه عليم حكيم، ولا يظلم ربك أحدا، وأن معنى قوله تعالى: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ): أي: بعد البيان، وبعد إقامة الحجة عليهم، فيضل الله تعالى- من يشاء من عباده عن الهدى، ويهدي من يشاء إلى الحق، فمعتقد أهل السنة والجماعة: أن الهداية والإضلال بيد الله تعالى، وأنه سبحانه خالق العباد وأفعالهم، وهو الذي جعل المهتدي مهتديًا، وجعل الضال ضالًّا، وأنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بمشيئته سبحانه، فمعنى: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ): أي أنه يجعل من يشاء مهتديًا، ويجعل من يشاء ضالًّا، وليس معنى هذا نفي مسؤولية العبد عن أفعاله، بل العبد قد ضلّ بمشيئته واختياره وإرادته هو، ولكنه لم يفعل ذلك إلا بمشيئة الله واختياره، كما قال تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) {التكوير:29،28}. فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، والعبد هو الضال أو المهتدي؛ فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.
والله سبحانه وتعالى يُضلُّ مَن يشاء: ممن علم منه إيثار الضلال، فلا يهديه عدلا منه، ويهدي مَن يشاء: مِمَّن علم منه إيثار الحق، فيوفقه فضلا منه، فهذه المشيئة مقْرُونَة بالحكمة، فمَنِ اقْتَضَتْ حكمةُ اللهِ عز وجل أن يَضِلّ أَضَلَّه، ومَنِ اقتَضَتْ حكمَتُه أن يَهْدِيَه هداه، واعْلَمْ أنَّ الهِدَايةَ والضلال إمَّا عَدْل، وإما فَضْل، فالضَّلَال عدْل: لأنه جُوزِيَ بحسَب ما أرَاد، فلَمَّا أرادَ العبد الضَّلال، وزاغَ قلبه أُزِيغ، وأمَّا الهِدَاية: فإنَّها فَضْلٌ مِن الله عز وجل، يتَفَضَّلُ بها على مَن يشاءُ مِن عِبَادِه، فمن هداه فبفضله، ومن أضله فبعدله.
أيها المسلمون
والله تعالى أخبرنا أن من أسباب هدايته للعبد، وتثبيته له: إقبال العبد على الهداية، واجتهاده في تحصيلها، وعمله بما علم، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69)، وقال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) {النساء:66: 68}.
وأما الإضلال فيكون: بحجب الله توفيقه عن العبد، وتخليته بينه وبين تلك الذنوب، فإذا خلى الله العبد ونفسه الظالمة الجاهلة، أوجب له ذلك أن يختار الضلال على الهدى، فيزيده الله ضلالًا على ضلاله، باختياره ما يسخطه سبحانه، ولله في ذلك كله الحكمة البالغة، ففعل الله كله خير، ولا يتطرق الشرّ إليه بوجه من الوجوه، وإنما الشرّ في فعل العبد، وهو منسوب إليه؛ قال تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) [النساء:88]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 39]
ففي هذه الآياتِ يُعلِمُ اللهُ عزَّ وجَلَّ عبادَه المؤمنين أنَّه هو الهادي المضِلُّ، وأنَّ الرُّسُلَ لا يهتدي بها إلَّا من هداه اللهُ، ولا يأبى الهدايةَ إلَّا من أضلَّه اللهُ، ولو كان من اهتدى بالرُّسُلِ والأنبياءِ مُهتَدِيًا بغيرِ هدايتِه لكان كُلُّ من جاءهم المُرسَلون مهتدينَ؛ لأنَّ الرُّسُلَ بُعِثوا رحمةً للعالَمين ونصيحةً لِمن أطاعهم من الخليقةِ أجمعين، فلو كانت الهدايةُ إليهم لما ضلَّ أحدٌ جاؤوه؛ أمَا سَمِعتَ ما أخبَرَنا مولانا الكريمُ من نصيحةِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحِرْصِه على إيمانِنا حين يقولُ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]، وبالذي أخبَرَنا به عن خطابِ نوحٍ عليه السَّلامُ لقومِه وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود:34]. وكَونَ الهِدايةِ والإضلالِ بيَدِ اللهِ تعالى حقيقةً، لا يمنَعُ العَبدَ مِن عَمَلِ الصَّالِحاتِ، والسَّعيِ للخَيراتِ، واكتِسابِ الحَسَناتِ، واجتِنابِ السَّيِّئاتِ؛ فإنَّ للهِدايةِ والإضلالِ أسبابًا تؤدِّي إليهما، قال تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) الليل:4-10. وفي الصحيحين: (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِى يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلاَّ وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ «لاَ. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ». ثُمَّ قَرَأَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) إِلَى قَوْلِهِ ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)،وقال السَّعديُّ: (فَسُنَيِّسُرُهُ لِلْيُسْرَى أي: نُسَهِّلُ عليه أمرَه، ونجعَلُه مُيَسَّرًا له كُلُّ خيرٍ، مُيَسَّرًا له تَركُ كُلِّ شَرٍّ؛ لأنَّه أتى بأسبابِ التيسيرِ، فيسَّر اللهُ له ذلك… فَسُنَيِّسُرُهُ لِلْعُسْرَى أي: للحالةِ العَسِرةِ، والخِصالِ الذَّميمةِ، بأن يكونَ مُيَسَّرًا للشَّرِّ أينما كان، ومقيَّضًا له أفعالُ المعاصي)، وسُئِلَ الحسَنُ البَصريُّ عن القَدَرِ، فقال: (إنَّ اللهَ خلق الخَلْقَ للابتلاءِ، لم يطيعوه بإكراهٍ منه، ولم يَعْصُوه بغَلَبةٍ، ولم يُهمِلْهم من المملَكةِ، بل كان المالِكَ لِما ملَّكَهم فيه، والقادِرَ لِما قَدَّره عليهم، فإنْ تأثَّمَ العِبادُ بطاعةِ اللهِ، لم يكُنْ اللهُ صادًّا عنها ولا مُبَطِّئًا، بل يزيدُهم هُدًى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإنْ تأثَّم العِبادِ بمعصيةِ اللهِ، كان القادِرَ على صَرْفِهم، إن شاء فعل، وإن شاء خلَّى بينهم وبين المعصيةِ فيَكسِبونَها، فمِن بعد الإعذارِ والإنذارِ للهِ الحُجَّةُ البالغةُ، لا يُسأَلُ عمَّا يَفعَلُ وهم يُسأَلون، فلو شاء لهداكم أجمعينَ)
أيها المسلمون
والمتدبر لآيات القرآن الكريم، يتبين له أن الهداية في القرآن على أربعة أنواع: أولها: الهداية العامة: وهذه الهداية العامة وهبها الله لكل نفس لتهدي إلى ما يصلح شأنها ومعاشها، وفطرها على جلب النافع ودفع الضار، قال تعالى: “الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى” (الأعلى 2-3)، وقال تعالى: “قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” (طه:50). وبهذه الهداية اهتدت الأزواج من الكائنات إلى التزاوج والتكاثر ورعاية الصغار، واهتدى الصغار إلى التقام الثدي والتماس الغذاء. ثاني أنواع الهداية: هداية الدلالة والإرشاد: وهذه الهداية هي وظيفة الرسل والكتب المنزلة، وهي إيضاح سبيل الفلاح وسبيل الهلاك للناس، قال الله تعالى: “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” (البلد:10)، وقال تعالى: “وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (فصلت:17)، فالهداية هنا دلالة إرشاد، والله تعالى لم يمنع هذه الهداية عن أحد من خلقه، بل إنه منع العذاب على من لم تتحقق فيه فقال سبحانه: “…وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا” (الإسراء:15)، وثالث أنواع الهداية: هداية التوفيق والمعونة: والمقصود بها هو زيادة الهدى والبصيرة إلى الحق، قال تعالى: “وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى” (مريم:76)، وقال تعالى: “إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى” (الكهف:13)، فهذا النوع من الهدى له شرط، وهو مبادرة الإنسان إلى الهدى، قال تعالى: “يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ” (المائدة:15)، وقال تعالى: “وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ” (الرعد:27). فالله لا يضل من اختار الهدى، أو سعى إلى الحق، وإنما يضل من اختار الضلال والفسوق والعصيان، قال الله تعالى: “وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ” (البقرة:26)، وقال تعالى: “وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ” (إبراهيم: 27)، وقال تعالى: “كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ” (غافر:34)، وقال تعالى: “كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ” (غافر:74)، وقال تعالى: “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” (الأعراف:146). ورابع أنواع الهداية: الهداية إلى الجنة والنار: فالمسلم الذي اختار الهداية في الحياة الدنيا، وزاده الله هدى، سيهديه الله إلى الجنة يوم القيامة، قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ” (يونس:9). وأما الظلمة فتكون هدايتهم إلى الجحيم، قال تعالى: “احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ” (الصافات:22-23)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْهُدَى والضَّلاَلُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم، ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن سنن الله في الهداية والإضلال: أن الهداية تجر إلى مزيد من الهداية، وأن الضلال يجر إلى مزيد من الضلال، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد:17]. وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]. وقال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف:5]. ومن القواعد في سنة الهداية: أن المعاند المصر على العناد والتكذيب لا يوفقه الله، بل يختم على قلبه، فالمستكبر، والمصر والمكذب للرسل، لا يناله إلا الطبع والختم، والطرد والإضلال، قال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:42- 43]. وقال سبحانه: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس:33].
فإذا علمنا هذا، فلا بد أن نأخذ بأسباب الهداية، ونحذر من أسباب الضلال، فمن أسباب الهداية: الدعاء: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6]. وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَلِىٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ»، وكذا الاستعاذة من الضد: ففي صحيح مسلم: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ « اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي..)، ومن أسباب الهداية: الإيمان: قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11]. ومن أسبابها: التوبة والإنابة: فمن تاب وأناب هداه الله ووفقه لكل خير، ومن أسباب الهداية: القرآن، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]. ومن أسبابها: المجاهدة: قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]. وكذا الصحبة الطيبة: قال تعالى: (حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) [الأنعام:71]. ومن أسباب الهداية: الاعتصام بالله: يقول تعالى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101]. ومن أسباب الهداية: طاعة الرسول ﷺ: قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54]. ومنها: حضور مجالس العلم والوعظ التي ترقق القلوب، وتزكي النفوس, ومنها دعوة الآخرين للاستقامة، والاشتغال بالأعمال الصالحة.
وأما عوائق الهداية، وأسباب الضلال، فهي كثيرة، ومنها: (العادة والتقليد، والتعلق بالشهوات، واتباع الهوى، والتسويف وطول الأمل، والاعتذار بالقدر، والإصرار على المعصية، والفهم القاصر للاستقامة، والفهم الخاطئ للوسطية، والغنى المطغي، وسكرة الشهرة، والمنصب، والأضواء، والمشجعين).
الدعاء