خطبة عن (تزيين الشيطان)
يناير 12, 2025خطبة عن (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
يناير 13, 2025الخطبة الأولى (أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى النسائي في سننه، والامام أحمد في مسنده: (عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِالْقَوْمِ صَلاَةً أَخَفَّهَا فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا فَقَالَ أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قَالُوا بَلَى. قَالَ أَمَّا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو بِهِ «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ الإِخْلاَصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ وَقُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذا الدعاء النبوي الكريم، والذي فيه الثَّناء على اللهِ تعالى، والتَّوسُّل إليه بأسمائِه الحسنى، وصفاتِه العلى؛ وهي سببٌ مِن أسبابِ استجابةِ الدُّعاءِ، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اللَّهمَّ بعِلْمِك الغيبَ)، وفي هذا ثناءٌ على اللهِ، وتوسُّلٌ إليه بأسمائِه وصفاتِه، والمعنى: (اللَّهمَّ إنِّي أسألُك وأتوسَّلُ إليك، بما عَلِمتَه من الغيبِ، والغيبُ: هو ما خَفِي عن الإنسانِ، ولا يَعلَمُه،
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: “وقُدرَتِك على الخَلقِ”، أي: أتوسَّلُ إليك بقُدرتِك الكاملةِ، النَّافذةِ على جَميعِ مَخلوقاتِك، ثمَّ شرَع صلى الله عليه وسلم في طلَبِ مسألتِه مِن اللهِ تعالى، فقال: “أحْيِني ما عَلِمتَ الحياةَ خيرًا لي”، أي: ارزُقني الحياةَ، إذا كان في سابقِ عِلمِك أنَّ الحياةَ تكونُ زِيادةً لي في الخيرِ؛ مِن التَّزوُّدِ من الأعمالِ الصَّالحةِ، والبرِّ، ونحوِ ذلك، ثم قال: “وتَوفَّني إذا عَلِمتَ الوفاةَ خيرًا لي “، أي: أمِتْني إذا كُنتَ تعلَمُ أنَّ الوفاةَ فيها الخيرٌ لي،
ثم يقول: “وأسألُكَ خشيتَك في الغيبِ والشَّهادةِ”، أي: وأسألُك أن تَرزُقَني الخوفَ والخشية منك، والتَّعظيمَ لك في سِرِّي وخَلْوتي، إذا غِبتُ عن أعيُنِ النَّاسِ، وفي عَلانيَتي، أي كُنتُ بين النَّاسِ، ثم قال: “وكلمةَ الإخلاصِ في الرِّضا والغَضبِ”، أي: أسألُك الثباتَ على كلمةِ الإخلاصِ وهي كلمةُ التَّوْحِيدُ للهِ تعالى، أو هي النَّصيحةُ الخالِصَةُ عَنِ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، في حالِ رِضايَ وسُروري، وفي حالِ غضَبي وانفِعالي؛ فلا أتَكلَّمُ بباطلٍ، ولا أميلُ عن الحقِّ، بحيثُ لا تُلجئني شِدَّةُ غضبي إلى النُّطقِ بخِلافِ الحقِّ، ويَحتمِلُ أنْ يكون المعنى: أسألُك قولَ الحقِّ في حالتَيْ رِضا الخَلقِ عنِّي، وغضبِهم عليَّ فيما أقولُه؛ فلا أُداهن، ولا أُنافِق، بل أكونُ مُستمِرًّا على قول الحقِّ في جَميعِ أحوالي وأوقاتِي.
ثم يقول: “وأسألُك نَعيمًا لا يَنفَدُ”، أي: وأدعوك أن تَرزُقَني النَّعيمَ المقيمَ، الَّذي لا يَنتهي ولا يَنقضي، ولا يَنقطِعُ، وهو نَعيمُ الجنَّةِ، وأسألك: “قُرَّةَ عينٍ لا تَنقطِعُ”، أي: لما رأَتْ عيني ما كانت مُتشوِّفةً إليه، فقَرَّت ونامَت، وبلغنا الأماني حتَّى تَرضى نفسي، وتَسكُنَ عَيني، فلا تَستشرِفَ إلى غيرِه، ثم قال: “وأسألُك الرِّضاءَ بالقضاءِ”، أي: وأسألُك أن تَرزُقَني الرِّضا بما قضَيتَه وقدَّرتَه، فتَلْقاه نفْسي وهي مُطمئنَّةٌ، فلا أتسَخَّطُ، ولا أتضَجَّرُ، ثم يقول: “وبَرْدَ العيشِ بعدَ الموتِ”، أي: وأسـألُك عَيشًا يكونُ طيِّبًا لا يكونُ فيه نَكدٌ وكَدرٌ، بل يكونُ فيه انشراحٌ للصَّدرِ، وتكونُ الرُّوحُ فيه بعدَ الموتِ في مَكانةٍ عاليةٍ، ومنزِلةٍ رفيعةٍ،
ثم يقول: “ولَذَّةَ النَّظرِ إلى وجهِك”، أي: وأسألُك رُؤيةَ وجهِك الكريمِ، التي هي أعلى وأكبَرُ نعيمٍ في الجنَّةِ، ووصَف هذا النَّظرَ باللَّذَّةِ؛ لأنَّ النَّظرَ إلى اللهِ قد يكونُ فيه خوفٌ وإجلالٌ، وقد يكونُ نظرًا فيه رحمةٌ ولطفٌ وجمالٌ، “والشَّوقَ إلى لقائِك”، أي: وأسألُك أن تَرزُقَني الاشتياقَ إلى مُلاقاتِك في دارِ المجازاةِ؛ فيكون قد جمَعَ في هذا الدعاءِ بين أطيبِ ما في الدُّنيا وهو الشوقُ إلى لِقاءِ اللهِ تعالَى، وأطيبِ ما في الآخرةِ، وهو النظرُ إليه سبحانَه،
ثم يقول: “وأعوذُ بِك مِن ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ”، أي: وأحتَمي بك مِن كلِّ شِدَّةٍ يكونُ فيها ضررٌ عليَّ؛ لأنَّ بعضَ الضَّرَّاءِ قد تكونُ عاقبتُها نافعةً، “وفِتْنةٍ مُضِلَّةٍ”، أي: وأحتمي بك مِن فِتنةٍ توقِعُني في حَيرةٍ، وتكونُ عاقبتُها إلى الهلاكِ، وقال ابن رجب: “وإنما قال: (من غير ضرَّاء مضرَّة، ولا فتنةٍ مضلَّة)؛ لأن الشوق إلى لقاء الله يستلزم محبَّةَ الموت، والموت يقع تمنِّيه كثيرًا من أهل الدنيا بوقوع الضراء المضرَّة في الدنيا، وإن كان منهيًّا عنه في الشرع، ويقع من أهل الدِّين تمنِّيه لخشية الوقوع في الفتن المضلَّة، فسأل تمنِّيَ الموت خاليًا من هذينِ الحالين، وأن يكون ناشئًا عن محض محبة الله، والشوق إلى لقائه)،
ثُمَّ دعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائلًا: “اللَّهمَّ زَيِّـنَّا بزينَةِ الإيمانِ”، أي: يا رَبِّ أسألُك أن تُثبِّتَنا على الإيمانِ، وأن تُرسِّخَه في قُلوبِنا، وتُجمِّلَنا به، “واجعَلْنا هُداةً مهتَدِين”، أي: اجعَلْنا هادِين إلى الدِّينِ هُداةً في أنفسِنا، ثابِتين على طريقِ الهُدى، وبالهِدايةِ واليَقينِ، نكونُ صالِحين لأنْ نَهديَ غيرَنا).
أيها المسلمون
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ): فالشوق إلى الله تعالى ينبع من المحبة، فإن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجدّ في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته، والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه والأنس بذكره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه، قال ابن القيم: “الشوق: هو سفر القلب إلى المحبوب)، وقال بعض أهل البصائر، في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (5) العنكبوت، قالوا: لما علم الله سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه، وأن قلوبهم لا تهدأ دون لقائه، ضرب لهم أجلا وموعدا للقاء، تسكن نفوسهم به)،
فأطيب العيش وألذه على الإطلاق عيش المحبين، المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها، يقول ابن القيم: “الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئًا هو أحب إليهم ولا أقرُّ لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يُعطِهم في الدنيا شيئًا خيرًا لهم، ولا أحبَّ إليهم، ولا أقرَّ لعيونهم من الإيمان به، ومحبته، والشوقِ إلى لقائه، والأُنْسِ بقربه، والتنعُّم بذِكْره)، فمن أنس باللَّه في الدُّنْيَا واشتاق إِلَى لقائه، فقد فاز بأعظم لذّة يمكن لبشر الوصول إليها في هذه الدار، لذا كان الصحابي أبو الدرداء يقول: (أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي عز وجل).
وَلِمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عَلَامَاتٌ، يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْرِفَهَا، لِيُدْرِكَهَا، وَيَتَعَلَّمَهَا لِيَعْمَلَ بِهَا، فَيَعْلُوَ قَلْبُهُ مِنْ ضَعَةِ الدُّنْيَا إِلَى الرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. فَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّ حُبَّهُمْ لَهُ تَعَالَى أَشَدُّ مِنْ حُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِمَعْبُودَاتِهِمْ قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: 165]، وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُمْ مِنْ شَوْقِهِمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَيُدْرِكُونَ بِهَذَا التَّفَكُّرِ شَيْئًا مِنْ عَظَمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَمَا كَانَ إِدْمَانُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاضِرٌ فِي عُقُولِهِمْ، مُمْتَلِئَةٌ بِهِ قُلُوبُهُمْ، فَإِذَا تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِهِ ذَكَرُوهُ سُبْحَانَهُ، فَتَوَجَّهَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ رَغَبًا وَرَهَبًا، وَلَهِجَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ أَبَدًا. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: مُلَازَمَتُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا أَحَبَّ كَلَامَهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَكَانَ كَلَامُهُ كِتَابَهُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْ عِبَادِهِ، فَلَا شَكَّ حِينَئِذٍ أَنَّ كُلَّ مَنِ اشْتَاقَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اشْتَاقَ إِلَى كَلَامِهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَبْيَنِ عَلَامَاتِ الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: كَثْرَةُ ذِكْرِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى: بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْحَوْقَلَةِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْبَرُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: 45]؛ وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُهُمْ إِذَا ذَكَرُوهُ، فَمِنْ شَوْقِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمِنْ شَوْقِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى يَذْكُرُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: 152]. وَفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ…». وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: «مَا تَنَعَّمَ الْمُتَنَعِّمُونَ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: كَثْرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَمِنْ شَوْقِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ يَشْتَاقُونَ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيُنَافِسُونَ فِيهِ، وَيُسَابِقُونَ عَلَيْهِ ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ:61]، وَأَيْضًا لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمْ بِتَقَرُّبِهِمْ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ يَشْتَاقُونَ إِلَيْهِ وَيُحِبُّونَ قُرْبَهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وقد صف الله حال هؤلاء المشتاقين، فقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (9) (الزمر). وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: خُشُوعُهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ؛ فَهِيَ سَعَادَتُهُمْ وَأُنْسُهُمْ حَيْثُ مُنَاجَاةُ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ اشْتَاقَ إِلَى صَلَاتِهِ وَأَحْسَنَهَا وَطَوَّلَهَا، وَخَشَعَ فِيهَا، فَهِيَ صِلَتُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ:45-46]. فَهِيَ ثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الْمُشْتَاقِينَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والمشتاقون إلى الله تعالى: تكون حياتهم بين الرغبة والرهبة، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) (الأنبياء). فالعبد الصالح تارة يمده الرجاء والرغبة، فيكاد يطير شوقاً إلى الله، وطوراً آخر يقبضه الخوف والرهبة، فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى، فهو دائب في طلب مرضاة ربه، مقبل عليه، خائف من عقوباته، ملتجئ منه إليه، عائذ به منه، راغب فيما لديه، والمشتاقون إلى الله تعالى: هم الذين يعتزون بدينهم ويقدمون حبه والانتماء إليه على كل حب وانتماء، (فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: “الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ”. (أخرجه أحمد والبُخَارِي في الأدب المفرد). وفي صحيح مسلم: (وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ، مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا، فَمَا يُمْسِي حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)
أيها المسلمون
وفي هذا الدعاء كبير النفع، وغزير الفوائد؛ لما فيه من معانٍ ومقاصد جليلة، ومطالب عالية: في العقيدة، والأخلاق، والعبادات الظاهرة والباطنة، وفيه: توسل إلى اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، وتفويض الأمور إلى اللَّه تعالى، والتوكل عليه جل وعلا، وسؤاله التوفيق إلى كمال العبودية من العبادات، وسؤال أعلى نعيم الآخرة، وأعلى نعيم الدنيا، وفي الحَديثِ: بيانُ حِرصِ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم على الاقتِداءِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد علم صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه آدابَ الدُّعاءِ، والثَّناءُ على اللهِ، والتَّوسُّلُ إليه بأسمائِه وصفاتِه؛ وهذا سببٌ مِن أسبابِ استجابةِ الدُّعاءِ.
وهذا الدعاء –كغيره- من الأدعية النبوية؛ عظيم نفعها، عميم خيرها، بليغ لفظها، رصين حرفها، قوي مدلولها، مستوعِب معناها، محكم مبناها. ولا يتأتى للمسلم الانتفاع المطلق بهذه الأدعية إلا بثلاث أمور: الأول: حفظها. الثاني: تكرارها والدعاء بها. الثالث: السعي لتحقيق مدلولها والمجاهدة في ذلك.
الدعاء