خطبة عن (الْغَفْلَةُ عَنِ الْمَوْتِ)
يناير 14, 2025خطبة عن (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
يناير 15, 2025الخطبة الأولى (أَنْفِقُوا يُنْفِق اللَّهُ عَلَيْكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين البخاري ومسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، وفي رواية: (أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ». وَقَالَ «يَمِينُ اللَّهِ مَلأَى – سَحَّاءُ لاَ يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ».
إخوة الإسلام
هذا الحديث النبوي الكريم، هو من الأحاديث التي تحث على الصدقة، وعلى البذل والإنفاق في سبيل الله، ويبين أن الانفاق في سبيل الله تعالى من أعظم الطاعات والقربات، وأنه من أسباب البركة في الرزق، وإخلاف الله على العبد ما أنفقه في سبيله، فما ينفقه الإنسان المؤمن عائد عليه أضعافًا مضاعفةً في الدنيا والآخرة، وأن ما عند الله تعالى خير أبقى مما يدخره الإنسان لنفسه،
والإنفاق في سبيل الله تعالى يكون بإخراج المال وغيره، وقد يكون واجبًا، وقد يكون تطوُّعًا، والكل مطلوب، وقوله: «أُنفِق عليك»؛ أي: أعوِّضه لك، وأُعْطِك خَلَفَه، بل أكْثَرَ؛ أضعافًا مضاعفةً؛ وهو يحمل معنى قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، وفي صحيح البخاري: (عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا مَلَكَانِ ينزلانِ، فيقول أحدهما: اللهم أعْطِ منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»؛ ومن الناس من يظن أنه إذا أنفق من ماله نَقَصَ مالُه ،وهذا فهم خاطئ، فإذا أنفق الإنسان في الوجوه الصحيحة، من الواجبات والمستحبَّات، فإن ذلك يكون سببًا لرزق أوفر وأكثر، يسُوقه الله تعالى إليه، قال الله تعالى: (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (16)، (17) التغابن، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (261)، (262) البقرة، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ». ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “إن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وتبارك فيه، وتدفع عنه الآفات، والزيادة للمال إما كَميَّة؛ بأن يفتح الله للعبد أبوابًا من الرزق، أو كيفية؛ بأن ينزل الله تعالى البركة التي تزيد على مقدار ما أخرجه من الصدقة”.
فأنفق – أخي – يُنفَق الله عليك، ولا تخشَ الفقر ببذل المال وانفاقه، فما عندكم ينفَدُ وما عند الله باقٍ، وينبغي للمؤمن ألَّا يتقرَّب بالرديء والخبيث، بل ينبغي له أن ينفق الطيب من ماله؛ قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وفي صحيح البخاري: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ». فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ). وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أَوْ (مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قَالَ أَبُو طَلْحَةَ وَكَانَ لَهُ حِائِطٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَائِطِي لِلَّهِ وَلَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ. فَقَالَ «اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِكَ أَوْ أَقْرَبِيكَ».
أيها المسلمون
وقد جاءت الكثير من النصوص التي تبين فضائل الصدقة، وثمرات الإنفاق في سبيل الله، وتحث المسلم على البذل والعطاء، ابتغاء الأجر الجزيل من الله سبحانه وتعالى، فقد جعل الله الإنفاق على السائل والمحروم من أخص صفات عباد الله المؤمنين المحسنين، فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (16): (19) الذاريات، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (24)، (25) المعارج،
ومن فضائل الانفاق في سبيل الله: أن ضاعف الله العطية للمنفقين، بأعظم مما أنفقوا، أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (245) البقرة،
ومن فضائل الانفاق في سبيل الله: أنه من أحب الأعمال إلى الله: ففي معجم الطبراني (عن بن عمر أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله وأي الأعمال أحب إلى الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا)،
ومن فضائل الانفاق في سبيل الله: أن الصدقة ترفع صاحبها حتى توصله أعلى المنازل، ففي سنن الترمذي: (وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ «إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ..)،
ومن فضائل الانفاق في سبيل الله: أنه يدفع عن صاحبه المصائب والبلايا، وتنجيه الله بسببه من الكروب والشدائد، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ»، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والمهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، أضف إلى ذلك إطفاء الخطايا وتكفير السيئات، وفي الصحيحين: (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ — ثُمَّ قَالَ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ »
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: السعة في الرزق: ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا. وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». فمهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فإنه يخلفه عليكم في الدنيا بالبدَل، وفي الآخرة بحسن الجزاء والثواب ،ومما يدل على أن الصدقة بوابة للرزق، وأنها من أسباب سعته واستمراره وزيادته، قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7)، والصدقة غايةٌ في الشكر، وفي مسند البزار: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَ، وَلَكِنِ اسْتَقْرِضْ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ فَنُعْطِيَكَ فَقَالَ عُمَرُ: مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ هَذَا، أَعْطَيْتَ مَا عِنْدَكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ فَلا تُكَلَّفْ قَالَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَ عُمَرَ حَتَّى عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ، فَأَعْطِ وَلاَ تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالا ،قَالَ: فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ). وفي رواية: (عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بِلالٍ وَعِنْدَهُ صَبْرٌ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِلالُ؟ قَالَ: أَعُدُّ ذَلِكَ لأَضْيَافِكَ ،قَالَ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَهُ دُخَانٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، أَنْفِقْ يَا بِلالُ وَلاَ تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالا). كما أن المعونة من الله تأتي على قدر المؤونة، وأن رزق العبد يأتيه بقدر عطيته ونفقته، فمن أَكثر أُكثر له، ومن أقل أُقِل له، ومن أمسك أُمسِك عليه، قال الحسن البصري رحمه الله: “من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية”.
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أنها دليل على صدق الإيمان: ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ – أَوْ تَمْلأُ – مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أن الصدقة بالأموال من أنواع الجهاد المتعددة: ففي سنن أبي داود وغيره: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ».
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أن الله تعالى يربيها: ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلاَّ أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ».
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أنها تجعل المؤمن يتطلع إلى الأجر والثواب من الله، ويستعلي بذلك على نزغات الشيطان الذي يخوفه الفقر، ويزين له الشح والبخل، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (268) البقرة
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: محبة الناس لك، فمن طباع البشر أنهم يحبون من أحسن إليهم، ومن وقف بجانبهم، وفرج كربهم، ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أن الإنفاق في سبيل الله تعالى طُهرة لنفس المسلم، وقُربة إلى الله عز وجل.
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أنها من أفضل القربات، التي يرغب كل مؤمن أن يتقرب بها إلى الله تعالى: ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»، وفي صحيح البخاري: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ ،وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ»، وعن أبِي هُريرة رضِي الله عنْه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: (يقول العبد: مالي مالي، إنَّما له من مالِه ثلاث: ما أكل فأفْنَى، أو لبِس فأبلى، أو أعطى فاقتَنَى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركُه للنَّاس) أخرجه مسلم
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أن المتصدق يُدعى يوم القيامة من باب الصدقة، فقد جاء في الصحيحين: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا دُعي في الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِي مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِي مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِي مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِي مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ”.
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: فيه انشراح الصدر، وطيب النفس، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّىَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ». فَسَمِعَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ »
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَنْفِقُوا يُنْفِق اللَّهُ عَلَيْكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أن الإنفاق في الخيرِ فيه النجاةُ من النَّار، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا». فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ». فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ». ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ «أَيُّ الزَّيَانِبِ». فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ «نَعَمِ ائْذَنُوا لَهَا». فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ»
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أن المتصدق يعيش يوم القيامة تحت ظل صدقته، ففي مسند أحمد: (أن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ». أَوْ قَالَ «يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ»
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أنها تجري على صاحبها في لحده، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». وفي الصحيحين : (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليْه وسلَّم قال: (يتبع المؤمنَ بَعد موتِه ثلاثة: أهْله وماله وعمله، فيرجع اثْنان ويبقى واحد؛ يرجع أهلُه وماله ويبقى عمله)، وفي المستدرك للحاكم: (عن أنس بن مالك رضي الله عنْه قال: قال رسول الله صلَّى اللَّه عليْه وسلَّم: (الأخلَّاء ثلاثة: فأمَّا خليل فيقول: أنا معَك حتَّى تأْتي قبرَك، وأمَّا خليلٌ فيقول: لك ما أعطيْتَ، وما أمسكْتَ فليس لك، فذلك مالك، وأمَّا خليل فيقول: أنا معك حيثُ دخلْتَ، وحيث خرجتَ، فذلك عملُه، فيقول: لقد كنتَ مِن أهْونِ الثَّلاثة عليَّ)
ومن فضائل الصدقة والانفاق في سبيل الله: أنها طُهرةٌ للمال، ففي سنن الترمذي: (عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى غَرَزَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالإِثْمَ يَحْضُرَانِ الْبَيْعَ فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ»، وفي رواية: (خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ». فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ».
أيها المسلمون
فاعملوا ليومٍ تكونون فيه أحوجَ ما تكونون إلى الحسنات، والأعمال الصَّالحة؛ فإنَّ معايير الأعمال تُوزَن بميزان دقيق، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7، 8]، وكان الرَّبيع به خُثيم رحِمه الله تعالى لا يُعطي أقلَّ مِن رغيف، ويقول: (إنِّي لأستحْيي أن يُرى في ميزاني أقلُّ مِن رغيف). وفي الصحيحين: (عن سهل رضي الله عنه؛ أنَّ امرأة جاءت النَّبي صلى الله عليه وسلم ببُرْدَة منسوجة فيها حاشيتُها، أتدْرون ما البردة؟ قالوا: الشَّمْلة، قال: نعم، قالت: نسجتُها بيدي فجئتُ لأكسوَكها، فأخذها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُحتاجًا إليها، فخرج إليْنا وإنَّها إزارُه فحسَّنها فلانٌ فقال: اكسُنيها ما أحسَنَها! قال القومُ: ما أحسنتَ؛ لَبِسَها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها ثمَّ سألتَه وعلِمْتَ أنَّه لا يردُّ، قال: إنِّي والله ما سألتُه لألبسَها إنَّما سألتُه لتكُون كَفَنِي، قال سهل: فكانت كفَنَه)
الدعاء