خطبة عن حديث (عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ)
أبريل 20, 2025خطبة عن حديث (طُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ)
أبريل 22, 2025الخطبة الأولى (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (216) البقرة.
إخوة الإسلام
قال السعدي رحمه الله في تفسيره: ” في هذه الآية فرض القتال في سبيل الله ، بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه، لضعفهم، وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكثر المسلمون وقووا، أمرهم الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس، لما فيه من التعب والمشقة، وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا، فهو خير محض، لما فيه من الثواب العظيم، والتحرز من العقاب الأليم، والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم، وغير ذلك، مما هو مُرْبٍ (أي: يزيد) على ما فيه من الكراهة (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة، فإنه شر، لأنه يعقبه الخذلان، وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله، وحصول الذل والهوان، وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب. وهذه الآيات عامة مطردة، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحبها النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم”.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة:216]. تبين أن الإنسان في حياته الدنيا قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب، والعكس صحيح: فكم من إنسان سعى في شيءٍ ظاهره خيرٌ، وأهطع إليه، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف ما يريد،
وقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. هي من أعظم ما يملأ القلب طمأنينة وراحةً، ومن أهم أسباب دفع القلق، الذي عصف بحياة كثير من الناس، بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدر من الأقدار المؤلمة ـ في الظاهر ـ جرى عليه في يوم من الأيام، ولو قلبنا قصص القرآن ،وصفحات التاريخ، أو نظرنا في الواقع حولنا، لوجدنا من ذلك عبراً، وشواهدَ كثيرة، لعلنا نذكر ببعض منها، عسى أن يكون في ذلك سلوةً لكل محزون، وعزاء لكل مهموم: ففي قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر: إذا تأملتَ ـ وجدتَ أنه لا أكره لأم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون، ومع ذلك، ظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة في مستقبل الأيام، وصدق ربنا: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وتأمل في قصة يوسف (عليه الصلاة والسلام) تجد أن هذه الآية منطبقة تمام الانطباق على ما جرى ليوسف وأبيه يعقوب (عليهما الصلاة والسلام)، فالوالد (يعقوب)، والابن (يوسف)، يكرهان ما حدث ليوسف من إلقائه في الجب، وبيعه في سوق العبيد، ولكن الله تعالى أراد له أن يكون عزيز مصر، ونبيا إلى بني اسرائيل، حقا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وتأمل في قصة الغلام الذي قتله الخضر، بأمر الله تعالى، فإنه علل قتله بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80،81]، فقتل الغلام بلا شك يحزن الأبوين، وفي ظاهره جريمة بشعة، ولكن الله تعالى أن يحفظ بذلك على الأبوين إيمانهما، ويبدلهما خيرا منه (يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، نعم {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فكم من إنسان لم يقدر الله تعالى أن يرزقه بالولد، فضاق ذرعا بذلك، واهتم واغتم وصار ضيقا صدره ــ وهو لا يعلم أن الله تعالى قد أراد له الخير بهذا الحرمان، فيا ليت من حرم نعمة الولد أن يتأمل هذه الآية، لا ليذهب حزنه فحسب، بل ليطمئن قلبه، وينشرح صدره، ويرتاح خاطره، وليته ينظر إلى هذا القدر بعين النعمة، وبصر الرحمة، وأن الله تعالى رُبَما صرف هذه النعمة رحمةً به! وما يدريه؟ لعله إذا رزق بولد صار – هذا الولد – سبباً في شقاء والديه، وتعاستهما، وتنغيص عيشهما، حقا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
فالمؤمن عليه: أن يسعى إلى الخير جهده، وأن يتوكل على الله، ويبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة، فإذا وقع شيءٌ على خلاف ما يحب، فليتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. وليتذكر أن من لطف الله بعباده أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، و الابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفاً، وسوقا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم، ومن ألطاف الله العظيمة أنه لم يجعل حياة الناس وسعادتهم مرتبطة ارتباطاً تاماً إلا به سبحانه وتعالى، وبقية الأشياء يمكن تعويضها، أو تعويض بعضها.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. فإن الخير كل الخير في الثقة بالله تعالى، والتسليم لأمره، والرضا بقضائه وقدره وتدبيره، فالإنسان كما وصفه به خالقه (ظلوم جهول)، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه، ميله وحبه ونفرته وبغضه؛ بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له، بأمره ونهيه، فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرُّ الأشياء عليه معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له؛ فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له، وإذا تخلَّى عن طاعته وعبوديته؛ فكل ما هو فيه من محبوب هو شرٌّ له، فمَنْ صحَّتْ له معرفة ربِّه والفقه في أسمائه وصفاته، علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به، فيها ضروب من المصالح والمنافع، التي لا يُحصِيها علمه ولا فكرته؛ بل مصلحة العبد فيما يكره أعظمُ منها فيما يحب،
إن عامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارِّها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فانظر إلى غارس جنة من الجنات أو بستان من البساتين، هو خبير بالفلاحة، وغرس جنته أو بستانه، وتعاهدها بالسقي والإصلاح، حتى إذا أثمرت أشجارُها، أقبل عليها يُفصِّل أوصالها، ويقطع أغصانها، لعلمه أنها لو خلِّيت على حالها لم تطب ثمرتُها، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت؛ بل يُعطِّشها وقتًا، ويسقيها وقتًا، ولا يترك الماء عليها دائمًا، وإن كان ذلك أنضر لورقها، وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زيَّنت بها من الأوراق فيُلقي عنها كثيرًا منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، فلو أن الجنة ذات تمييز وإدراك لتوهَّمَتْ أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.
وكذلك الأب الشفيق على ولده، العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بَضَعَ جلده وقَطَعَ عروقه وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، وكان ذلك رحمة به وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يُوسِّع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حمية له ومصلحة، لا بخلًا عليه.
فأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأعلم العالمين، إذا أنزل بعباده ما يكرهون؛ كان خيرًا لهم من أن لا ينزله بهم، رحمة منه بهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم، ولو مُكِّنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا وإرادةً وعملًا، لكنه سبحانه تولَّى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا، فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهلة به وبأسمائه وصفاته، فنازعوه تدبيره، وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحُكمه، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصَّلوا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. فمن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك. ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له، أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات، التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله، أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر، وهو مذموم غير ملطوف به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه، ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه اللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره، إذا نفذ القدر في العبد، كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام، وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا بين يدي رب الأنام.
الدعاء