خطبة عن (التربية الإيمانية في زمن الاستضعاف)
مايو 5, 2025الخطبة الأولى (أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى النسائي في سننه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ وَنَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ). وفي مسند أحمد: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ وَنَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ».
إخوة الإسلام
كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُربِّي أُمَّتَه على التَّوجُّهِ إلى اللهِ بالدُّعاءِ، ويُعلِّمُها ما تقولُ في دُعائِها، فالدعاء أساس العبادة، وروح قوامها؛ فالداعي إنما يدعو الله تعالى وهو مؤمن أنه لا يجلب الخير إلا الله تعالى، ولا يدفع الضر إلا الله جل وعلا، وهذه هي حقيقة التوحيد والإخلاص، فالله تعالى يحب أن يُسأل، ويغضب على من لم يسأله، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (60) غافر.
وفي هذا الحديث المتقدم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى: (مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)، أي يا رب أَعِذْنِي واعْصِمْنِي مِن عِلْمٍ لا يُصْلِحُ قَلْبِي وَعَمَلِي، ولا أَسْتَعِينُ بِهِ على طاعَتِك، ولا أَزْدادُ بِهِ رِفْعَةً وخَشْيَةً، ولا يُهَذِبُ أَخْلاقِي، لأنّ المَقْصُودَ مِن العِلْمِ العَمَلُ بِهِ، وإصْلاحُ النَّفْسِ، ودَعْوَةُ الناسِ إليه، وأَنْ يَكُونَ صاحِبُهُ قُدْوَةً صالحةً، والعَبْد قَدْ يَجْمَعُ العِلْمَ النافِعَ، ولكنَّه لا يَنْتَفِعُ بِه، بِسَبَبِ عَدَمِ الإخلاصِ، أو عَدَمِ تَطبيقِ العِلْمِ على النَّفْسِ أَوَّلاً، وكَذلك قَدْ يَجْمَعُ الإنسانُ العِلْمَ الكَثيرَ في أَنواعِ الثقافاتِ، ولكِنَّها مِن سَفاسِفِ العِلْمِ، وحُثالَةِ الأفكارِ، كما هي حالُ أهْلِ البِدَعِ ،وأَهْلِ الأهواءِ، المُخالِفين لِلكِتابِ والسُّنَّةِ، مِمَّن يَسْعَونَ لِنَشْرِ الباطِلِ، وما يُخالِفُ تَعالِيمَ الإسلامِ.
والعبد المؤمن إذا كان يستعيذ بالله (مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)، فهو بذلك يسأل الله تعالى علما نافعا ومفيدا، ففي سنن ابن ماجه وغيره: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً». وقوله: (أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا) فيه دلالةٌ على أن العلم نوعان: علمٌ نافع، وعلم ليس بنافع، أو ضار، كما في سنن ابن ماجه: (عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ». والعلم النافع: هو العلم الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ومن علاماته: أنه يزهّد صاحبه في التعلق بأحبال الدنيا، ويرغَّبه في الآخرة، ويحثه على طاعة الله تعالى وتقواه، ويبعد عنه أنواع الهموم والكَدَرِ، ولهذا، فينبغي على المسلم أن يقصد من تعلّم العلم وتعليمه الأجر والثواب من الله تعالى، ومن تعلّم علماً من علوم الشرع، فينبغي أن يعمل به، لأن الثمرة الحقيقية من العلم هي العمل، وفي معجم الطبراني: (قال عبد الله: ليس العلم من كثرة الحديث ولكن العلم من الخشية)، فالعالم الذي لا يعمل بما عنده من علمٍ، ولا يأتمر بأوامر الله تعالى، ولا ينتهي عن نواهيه، ليس بعالم، وما يحمله من علم إنما هي مجرد معلومات، مثالها كمثال الشجرة التي لا تثمر، ذلك أن تحصيلَ العلوم إنما هو للانتفاع بها، فإذا لم يُنتفع به يكون وبالاً، ولذلك استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفضائل طلب العلم عظيمة، وثماره قويمة: فيكفي شرفًا لأهل العلم أن الله عز وجل استشْهَدهم على ما شَهِدَ به هو تبارك وتعالى؛ قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18].
ومن فضائل العلم: أن العلماء هم ورثة الأنبياء، ففي سنن ابن ماجه وغيره: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»، فلا شيء في الدنيا أشرف من العلم؛ ولذلك أمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يزيدَه من العلم؛ قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]،
ومن فضائل العلم: أن العلم نور يهدي به الله من يشاء؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19]. والناس في الدنيا صنفان؛ إما شخص لديه علم ونور يهتدي به، وإما أعمى لا يرى.
ومن فضائل العلم: أن الله تعالى رفع قدر أهل العلم، لا لحسبٍ، ولا لجاه، ولا لمال، وإنما بسبب العلم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]،
ومن فضائل العلم: أن أجر العلم لا ينقطع، حتى بعد موت الإنسان؛ ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»،
ويكفي في فضل العلم أنه علامة على إرادة الله عز وجل الخير للعبد؛ ففي الصحيحين واللفظ للبخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»، وتكمن فائدة أي علم في العمل به، وقد جاء عند الإمام الدارمي في مسنده: (عَنْ عَلِىٍّ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ تُعْرَفُوا بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ)، وفي سنن ابن ماجه: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «لاَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِتَصْرِفُوا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ».
فالعلم بدون عمل يكون حسرةً على صاحبه يوم القيامة، لأن المسلم عندما يتعلَّم العلم ويعمل به، فإن أعماله وعباداته تكون على بصيرة، أما إذا لم يعمل بما تعلّمه من علمٍ، فإن عِلمه يكون حجةً عليه، لا حجةً له، وقد يكون الجاهل أحسن منه حالاً، فلا يستوي العاصي الجاهل مع العاصي العالم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
نقل صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ عن أبي طَالِب الْمَكِّيِّ قال: (قَدْ اِسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْع مِنْ الْعُلُوم كَمَا اِسْتَعَاذَ مِنْ الشِّرْك وَالنِّفَاق وَسُوء الْأَخْلَاق، وَالْعِلْم الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ التَّقْوَى فَهُوَ بَاب مِنْ أَبْوَاب الدُّنْيَا وَنَوْع مِنْ أَنْوَاع الْهَوَى)، ويمكن أن نحصي من أنواع العلوم التي لا تنفع، تلك العلوم التي ليس لها ثمرة، فاليهود كانوا يعلمون أن محمداً هو رسول الله، ولكن علمهم هذا لم ينفعهم، حيث لم يعملوا بمقتضى الشهادتين، وكذا تعلم السحر والكهانة، وتعلم العلوم الضارة غير النافعة.
ويعرف العلم النافع بدلالته على: تعظيم اللَه تعالى، وإجلاله وخشيته، وحسن التوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، واتباع ما يحبه، فإذا أثمر العلم لصاحبه، فهو علم نافع، فمتى كان العلم نافعاً، ووقر في القلب، أدى إلى خشوع القلب للَّه، وانكساره له سبحانه ، وذلّ هيبة وإجلالاً وخشية ومحبة وتعظيماً، قال ابن عطاء اللّه السكندري في الحِكم: “العلمُ النافعُ هو الذي يَنْبَسِط في الصدر شعاعُه، ويُكْشَفُ به عن القلبِ قناعُه، خَيرُ العلم ما كانت الخشيةُ مَعَه؛ والعلم إن قارَنَتْهُ الخشيةُ فَلَكَ؛ وإلا؛ فَعَلَيْكَ”. وقد أثنى الله تعالى على العلماء بذلك فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28)،
الدعاء