خطبة عن (إرَادَةُ الْإِصْلَاح)
يونيو 25, 2025الخطبة الأولى (اعْرِفْ نَفْسَك)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7): (10) الشمس. وفي صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا».
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع: (اعْرِفْ نَفْسَك): فقد اهتم الدين الاسلامي بقضية معرفة النفس، وسلط أنواره في أعماق الإنسان، بحثا عن النفس، وتحديدا لمعالمها، وحدودها، وطاقاتها، فمعرفة النفس ليس أمرا سهلا وميسورا، ولكنه جهد مضني ومتواصل ،وبحث واستكشاف، ورحلة يبحر فيها الإنسان في داخله،
ولأهمية معرفة النفس في الإسلام دور كبير في: فهم الذات: فمعرفة النفس تساعد على تحقيق التقوى: فمن خلال معرفة النفس، يدرك المسلم دوافعه وأهواءه، فيستطيع مقاومة الشهوات والمعاصي، والتقرب إلى الله تعالى، ومعرفة النفس تساعد على فهم نقاط القوة والضعف في الشخصية، مما يتيح للمسلم العمل على تطوير نفسه وتحسينها، ومعرفة النفس يساعد على التأثير الإيجابي على الآخرين: فعندما يكون المسلم على دراية بنفسه، يكون أكثر قدرة على التأثير الإيجابي على من حوله، من خلال سلوكه وأخلاقه، ومعرفة النفس تساعد على تحقيق السعادة الحقيقية: ففهم الذات والعمل على إصلاحها يقودان إلى تحقيق السعادة الحقيقية، التي لا تعتمد على الملذات الدنيوية الزائلة، بل على الرضا الداخلي والتقوى.
أما عن كيفية معرفة النفس في الإسلام، فمنها: التأمل في آيات الله: فالقرآن الكريم هو كتاب هداية للبشرية، وفيه من الآيات ما يدعو إلى التفكر في خلق الله، وفي النفس البشرية، ومنها أيضا: التأمل في الكون: فالنظر في الكون، والتفكر في عظمته، يساعد على استشعار عظمة الخالق، وعظمة النفس البشرية، ومعرفة النفس يكون أيضا: عن طريق محاسبة النفس: فمراجعة الأفعال والأقوال، وتقييمها، وفقًا لتعاليم الدين، ومحاولة تصحيح الأخطاء، هذا كله يؤدي إلى معرفة وتقييم النفس، وكذلك الاستعانة بالصالحين: فصحبة الصالحين والتأثر بهم، والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم في الحياة، يفيد في معرفة النفس، وأيضا الدعاء: اللجوء إلى الله بالدعاء أن يوفق المسلم لمعرفة نفسه، وأن يرزقه الثبات.
أيها المسلم
(اعْرِفْ نَفْسَك): فللنفس البشرية نواحي متعددة، وأنواع كثيرة، ومنها: أنواع النفوس من حيث علاقتها بربها، وتزكيتها، فتزكية الأنفُس، والارتقاء بها، يُعتَبران من أهمِّ القَضايا التي يبحَثُها، ويُعالِجها القُرآن الكريم، والسُّنَّة والنبويَّة الشريفة، ولقد ورَد لفظُ التزكية على لسان موسى (عليه السلام) حين دعوَتِه لفرعون مصر؛ يقولُ الله تعالى: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ﴾ [النازعات:18]، وكذلك أتى لفظ التزكية في معرض الحديث عن رسالة المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) الجمعة:2،
والله سبحانه وتعالى قد سهل على المؤمن هذا الطريق، وبصره بمكنون نفسه، وعرفه بطبيعتها، فقال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7): (10) الشمس. فمن زكى نفسه، وطهرها من كل رذيلة، وألزمها تقواها، وجعل سيرها في طريق الحق والفضيلة، فهو المفلح في الدنيا والآخرة؛ وهو الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9]. وأما الذي قبِلَ أن يسير وراء فجور نفسه، واتبع طريق الضلال، وانصاع لكل ما تهواه نفسه، فهو الخائب والخاسر؛ وهو الذي قال الله فيه: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس:10].
والنفس في داخل كل انسان، من حيث علاقتها بخالقها، تتقلب حسب الحال؛ فهي على أربع حالات، وهي: (النفس الكافرة الفاجرة العصية، والنفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة). أما النفس الكافرة الفاجرة العصية: فهي النفس التي كفرت بالله، ورفضت الإيمان به، ورفضت الاستسلام لأوامره، وتركت عبادته، وهي التي يقال لها عند الموت كما اخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن ابن ماجه: (اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ. وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَلاَ يُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا فَيُقَالُ: فُلاَنٌ. فَيُقَالُ: لاَ مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لاَ تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَيُرْسَلُ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ».
وأما النفس الأمارة بالسوء: فقد جاء ذكرها على لسان امرأة العزيز حين قالت: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (53) يوسف، فهي نفس مسلمة، ولكنها تأمر صاحبها بالسوء والفحشاء، وترغبه في المنكر، وتنهاه عن المعروف، وهي نفس قرينها الشيطان، وهو مخلوق يتمتع بإمكانات هائلة في المكر والخديعة والدهاء والتضليل، وفي صحيح مسلم: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ».
وأما النفس اللوامة: فقد قال الله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]، فالنفس اللوامة هي نفس مؤمنة، وهي نفس تلوم صاحبها على أفعاله، سواء كانت خيراً أو شراً، فهي نفس متيقظة، تراجع نفسها وتحاسبها، وقال الحسن البصري (رحمه الله): «هي نفس المؤمن، إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا على الفعل: لِمَ فعلت هذا، وما أَردت بهذا؟ ونحو ذلك» ولكن غيره يقول: هي نفس المؤمن، توقعه في الذنوب والمعاصي ثم تلومه، وهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي، فإن نفسه لا تلومه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته دون فعله. وهناك آخرون يقولون: إن هذا اللوم للسعيد والشقي أيضًا، فالأول يلومها على ارتكاب معصية الله، وترك طاعته، والثاني لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها.
أما النفس المطمئنة: فقال قال الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر:27-30]، فهي النفس التي تدفع الفرد للعمل الصالح، والاستمرار عليه، وهي نفس المؤمن التقي، وهي تمثل الجانب المشرق للإنسان، فمنها تنطلق الدمعة، حين تتدبر آية من آيات الله تعالى، ومنها تنطلق الرحمة، حين ترى معدمًا ومحتاجا، يقول ابن القيم رحمه الله عن النفس المطمئنة: (وأيد الله النفس المطمئنة بجنود عديدة، فجعل الملك قرينها، وصاحبها الذي يليها ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر، وجعل وفود الخيرات ومداد التوفيق تنتابها، وتصل إليها من كل ناحية، وكلما تلقتها بالقبول والشكر والحمد لله ازداد مددها)، فالنفس المطمئنة: هي نفسٌ قد لجأت إلى الله تعالى، واطمأنت إليه، ورضيت عنه، فأثابها الكريم سبحانه بأبلغ ثواب، وأجزل عطاء بما تُغْبَط عليه في الدنيا والآخرة. والإنسان إذا وصل إلى مرحلة النفس المطمئنة فلن يكون بمعزلٍ عن الخطايا؛ لأن كل بني آدم يعتريهم النقص والخطأ، إنما إذا سعيت للتحلي بصفات أصحاب النفس المطمئنة، ستنال الاطمئنان النفسي في الدنيا والراحة الأبدية في الآخرة. وهي التي يقال لها عند الموت، كما في سنن ابن ماجه: (اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: فُلاَنٌ. فَيُقَالُ :مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)
أيها المسلم
(اعْرِفْ نَفْسَك): وهناك معرفة النفس من حيث قدراتها، ومواهبها، وجوانب القوة والضعف فيها، فالكثير من البشر يجهل نفسه في هذا الجانب، ولا يعرفها، ولا يبصر فيها مكامن القوة ،ولا مناطق الضعف، كما أنه غافل عن رغباتها، ومخاوفها، فهو جاهل بنفسه، فقد يحسب نفسه كالجبال الراسخة، لا تأخذ العواصف والزوابع، حتى إذا ما تعرض لموقف من المواقف التي تحتاج القوة والصبر، انهزم وولى مدبرا، فمجابهة العظائم تتطلب أعصابًا لا ترتجف، وكل من لم يتسلح برباطة الجأش، لا يستطيع أن يواجه الصعاب، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) النساء: (77)، وقال تعالى عن بني إسرائيل: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة: (249)
ومعرفة الانسان لقدراته ومواهبه، تتيح للإنسان تنظيم ذاته، فالإنسان في هذه الحالة يمتلك معلومات واضحة عن أهدافه، ولديه معايير من خلالها يقيس الأمور، ولذلك يُقال: ”إذا كنت لا تعرف من أنت حقًا، فلن تعرف أبدًا ما تريده حقًا”، والقرآن جاء فيه التركيز على نقاط القوة، من إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص:26. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يركز على جوانب القوة لدى أصحابه ؛ فهذا خالد بن الوليد سيف الله المسلول، كان يُؤَمِّرُهُ وَيُقَدِّمُهُ في قيادة الجيش في أكثر من موقع، وكان –صلى الله عليه وسلم– يقول: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ». ويقول: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ يَقُولُ بِهِ». فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف نقاط القوة عند أصحابه، ويحسن استغلالها وتوظيفها. وكان صلى الله عليه وسلم يدرك إمكانيات كل فرد من أصحابه، ويعرف مواهبهم وقدراتهم، ويوجههم ويشجعهم على استثمارها في خدمة الإسلام، بتوجيههم وتكليفهم بالمهام التي تتناسب مع قدراتهم، مما يساهم في تحقيق النجاح في مهامهم، ونشر الخير بين الناس.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اعْرِفْ نَفْسَك)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
(اعْرِفْ نَفْسَك): فقد قيل: (اعْرِف نفسك تعرف ربك): فمن عرف نفسه بالضعف، عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز، عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل، عرف ربه بالعز، ومن عرفها بالجهل، عرف ربه بالعلم؛ فالعَبْدُ، فقيرٌ، ناقصٌ، محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه، وعيبه، وفقره، وذله، وضعفه، ازدادت معرفته لربه، بأوصاف كماله، ومن نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة: من القوة، والإرادة، والكلام، والحياة، عرف أن معطي الكمال أحق بالكمال، وإذا لم تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها، ولا ماهيتها، ولا كيفيتها، فكيف تعرف ربك؟، وكيف تتعرف على أسمائه وصفاته.
ولو تفكر الإِنسَان في ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لآمن به، وازداد به يقينا ومعرفة، فإذا عرفت ضعفك عرفت قوة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي، وإذا عرفت جهلك عرفت علم الله سبحانه تعالي، وإذا عرفت ذنوبك عرفت رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بك ولطفه، وأنه لم يهلكك بهذه الذنوب، ولم يؤاخذك بها، بل تركك لعلك تتوب، وإذا عرفت تقصيرك، عرفت كرم الله ومنَه عليك بالنعم والخيرات، التي تتتابع وتتوالى، وأنت في غفلة عنها، ولا تدري ولا تحسب لها أي حساب، ولو فقدت واحدة منها لتغيرت حياتك جميعها.
إذن: لو أن الإِنسَان عرف نفسه عَلَى الحقيقة، فلن يرى في نفسه إلا الضعف والعجز والافتقار، ويعرف أن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الموصوف بكمال الغني، وكمال العلم، وكمال الحكمة، وأنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطي، ولا معطى لما منع، فالتفكر في هذه الأمور، مما يجب علينا جميعا، لنزداد إيمانا بالله تَعَالَي، ونزداد عبودية له سبحانه في أنفسنا.
أيها المسلم
(اعْرِفْ نَفْسَك): ومن أعظم درجات معرفة النفس: هي معرفة الإنسان لدوره في الحياة، ودور الإنسان في شطرين، وهما: حق الله تعالى، وحق العباد؛ ففي الصحيحين واللفظ لمسلم 🙁عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةَ ثُمَّ قَالَ «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ». فالطريقُ لنجاةِ العَبدِ في الدُّنيا والآخرةِ يبدَأُ وينتهي بإفرادِ اللهِ عزَّ وجَلَّ بالعبادةِ وَحْدَه، ونَبْذِ وتَرْكِ كُلِّ ما سواه عزَّ وجَلَّ في عُلاه.
فاعْرِفْ نَفْسَك، واخلُ بها، وغُصْ في أسرارها، ولا تنسَ أنّ مَن عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة، وأن أكبر عقاب عاقب الله به مَن نسوه أنه أنساهم أنفسهم، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (18): (20) الحشر.
الدعاء