خطبن عن (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)
يوليو 21, 2025خطبة عن (قَدَّرَ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ)
يوليو 23, 2025الخطبة الأولى (يَنْصُرُ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (40) الحج، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (7) محمد، وقال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (47) الروم.
إخوة الإسلام
من سنن الله -تبارك وتعالى- الجارية، أن من آمن به، وامتثل أوامره، فإن الله تعالى ينصره ويؤيده، ويعزه في الدنيا، ويرزقه الجنة في الآخرة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وقال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]، فهذا أمر منه سبحانه وتعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله، وثبت أقدامهم، وهو الذي يربط على قلوبهم، بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم، ويعينهم على أعدائهم،
فهذا وعد من الكريم، الصادق في وعده، فمن أصدق من الله قيلا، ومن أصدق منه حديثا، فنصر الله لعباده المؤمنين أمر متقرر شرعا وقدرا، لا يرتاب فيه مؤمن صادق الإيمان، ولكن النصر له أسباب، فالله عز وجل أرشدنا أنه: من انتصر على نفسه، وقتل شهواتها، وحطم أصنامها، لينصرنه ربه كما وعده، فهو ينصر من ينصره، ونصر الله هو اتباع شريعته، ونصر دينه، والقيام بحقه، وهو سبحانه ليس في حاجة إلى عباده؛ بل هم المحتاجون إليه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:15-17]. فالله سبحانه هو الغني الحميد، فنصره سبحانه نصر ما بعث به رسوله، وأنزل به كتابه الكريم، فإذا قام المسلمون بنصر دينه، والقيام بحقه، ونصر أوليائه، نصرهم الله على عدوهم، ويسر أمورهم، وجعل لهم العاقبة الحميدة، كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49]، وقال سبحانه: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120]. ويقول سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:40-41]، فهؤلاء هم المنصورون، وهم الموعودون بالعاقبة الحميدة، ثم أوضح سبحانه صفات الناصرين له، فقال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: أقدرناهم، ﴿أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، يعني: حافظوا على هذه وهذه كما أمر الله، فأقاموا الصلاة كما أمر الله، بأركانها وواجباتها، وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ويدخل في المعروف: الصيام والحج والجهاد، وبر الوالدين، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، ويدخل في المنكر : كل ما نهى الله عنه من أنواع الشرك وسائر المعاصي،
أما هؤلاء الذين يمكن الله لهم في الأرض، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فليس لهم وعد من الله بالنصر، لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، نسوا الله فنسيهم، قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (19) المجادلة.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (40) الحج، فلهذا النصر قوانين، لابد أن يعيها من يطمع في النصر؛ فالنصر لا يُمنح إلا لمن بذل من أجله كل غالٍ ونفيس، والنصر لا يأتي عفوًا، ولا ينزل اعتباطًا، فللنصر قوانين وسُنن، سجَّلها الله في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، وليتعاملوا معها على بصيرة، ومن هذه القوانين: أن النصر مِن عند الله تعالى: فمَن نصره الله فلن يُغلب أبدًا، ولو اجتمع عليه مَن بأقطارها، ومَن خذله الله فلن يُنصر أبدًا، ولو كان معه العَدد والعُدَّة، وهذا ما نطقت به آيات القرآن واضحة بلا غموض، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرُكُمْ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الذِي يَنْصُرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ المُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 16)، وقال تعالى: {إِذْ تستغيثون ربَّكم فاستجابَ لكم أنِّي مُمِدُّكُم بألفٍ مِن الملائكة مُرْدِفِينَ ومَا جعلَه اللهُ إِلًّا بُشْرى ولِتَطمئن بِهِ قُلُوبُكُمْ ومَا النصرُ إِلَّا مِن عندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حكيمٌ} (الأنفال:9ـ10)، فقد ينصر الله القِلَّة على الكثرة، كما نصر أصحاب طالوت ـ على قلتهم ـ على جند جالوت مع كثرتهم، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } (البقرة: (249): (251). وقد يُنصر من ليس معه جيش ولا سلاح قط، كما نصر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم يوم الغار، قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40). أما القانون الثاني: أن النصر للمؤمنين، فالله تعالى لا ينصر إلا من نصره، فمن نصر الله نصره الله، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7)، وجاء في صورة الخبر الثابت المؤكَّد بلام القسم ونون التوكيد، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40). فإنَّما تتحقَّق النُّصرة لله تعالى بنُصرة دينه، وإعلاء كلمته، وتحكيم شرعه في خلقه؛ وبهذا جاء في وصف مَن ينصرون الله تعالى عقب الآية السابقة قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41). وقد يُعبِّر القرآن عن نصر الله تعالى بالإيمان أو الجُندية لله تعالى، فمن آمن بالله حق الإيمان، فقد نصر الله تعالى، وغدا جنديًا في جيشه، وفي هذا يقول سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47)، ويقول تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 173). أما القانون الثالث: أن النصر بالمؤمنين: فكما لا يكون النصر إلا للمؤمنين ـ فلا يكون إلا بِالمؤمنين، فالنصر لهم، والنصر بهم، فهم غاية النصر، وعُدَّته، وفي هذا يخاطب الله رسوله الكريم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (الأنفال:62ـ63). وقد ينصر الله من يريد نصره بالملائكة؛ فيُنزلهم من السماء إلى الأرض، كما في غزوة بدر والخندق وحنين، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} (الأنفال: 12)، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (الأحزاب:9)، وقال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (التوبة:26). وقد ينصر الله من يريد نصره بالظواهر الطبيعية، فيُسَخِّرُها في خدمته، أو يُسلِّطها على عدوه، كما سلَّط الريح على المشركين في الخندق، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا}، (الأحزاب:9، فُصِّلت:16)، وكما أنزل المطر رحمةً على المسلمين في بدر، قال تعالى: {ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال:11). وقد ينصر الله من يريد نصره بأيدي أعدائه، وأعداء الله أنفسهم؛ بما يَقذف في قلوبهم من رعب، يُدمِّر معنوِيَّاتهم، ويَقتل شخصياتهم، كما حدَث ليهود بني النضير، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر:2).
أيها المسلمون
فالله -جل وعلا- جعل للنصر أسبابا، وجعل للخذلان أسبابا، فالواجب على أهل الإيمان، في جهادهم، وفي سائر شئونهم، أن يأخذوا بأسباب النصر، ويستمسكوا بها في كل مكان وزمان، في المسجد، وفي البيت، وفي الطريق، وفي لقاء الأعداء، وفي جميع الأحوال، ومن أهم أسباب النصر: أن يكون المؤمنون في معية الله: بذكره، وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وعد الله عباده المؤمنين، أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوسهم، وتمثلت في واقع حياتهم ،عبادة لله في جميع أحوالهم، ومنهجًا للحياة، ونظامًا للحكم، وتجردًا لله في كل خاطرة وحركة، فسيجعل الله لهم العز والنصر والتمكين، ويدفع عنهم تسلط الكفار، فسنته -سبحانه- نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، ودفع الباطل بالحق، فإذا هو زاهق، قال تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء:141]. وفي الصحيحين: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “..وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أمْرِ الله، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ الله”، ولا تلحق الهزيمة بالمؤمنين، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان، إما في الشعور، وإما في العمل،
ومن أسباب النصر: الابتعاد عن التنازع والخلاف، ومخالفة أمر القائد وحب الدنيا: قال الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} آل عمران,158، فالآية نزلت بعد غزوة أحد، لتبين للمسلمين سبب خسارتهم في الغزوة، ذلك أن بعض الرماة خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفشلوا وتنازعوا في الأمر، بعدما رأوا النصر في بداية المعركة، ففرحوا به، وخالفوا أمر الرسول بالثبات في أماكنهم، وذهبوا يجمعون الغنائم، ويقول سبحانه مخاطبا لهم في نفس الأمر {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران:165،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (يَنْصُرُ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أسباب النصر: الثبات والصبر عند لقاء العدو، يقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (45)، (46) الأنفال. فإذا كنا من الصابرين فلن نهزم أبدا، لأن الله معنا، وقد وعدنا بإرسال الملائكة لنصرتنا إذا صبرنا واتقينا، يقول سبحانه: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (125)، (126) آل عمران، ” وبالإيمان بالله والتوكل عليه يقول سبحانه: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران,139، وفي صحيح البخاري: (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آ ل عمران, 173، ، وبتقواهم وخشيتهم لله، وإحسانهم في عبادته، وعلى خلقه، يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} النحل,128، وبإعدادهم وتنظيمهم، كما أمر الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} الأنفال,60.
ولعل من أنجح أسباب النصر: الدعاء والتضرع إلى الله، يقول سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} النمل,62، وفي الصحيحين: (عن عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوْ وَاسْأَلُوا الله الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُّوفِ اللَّهُم مُنَزِّلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمِ الْأَحْزَابِ اهُزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ}، وفي صحيح البخاري: (عن مصعب ابن سعد قال رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم {هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَاءِكُمْ}.
فعلينا أن نعد العدة حسب استطاعتنا ،ولنتخذ الأسباب، ولا نتكل على ذلك، قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) الأنفال 17. وما نراه في غزة- رغم ألمه- نستبشر به خيرا، ونراه بارقة أمل قد تذكي فينا جذوة التفاؤل، وتنفض عنا غبار اليأس، قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:139) إذن فلنؤمن بالله حقا، ولننصر الله صدقا، بتطبيق أوامره، والخضوع له في منهج افعل ولا تفعل، لينصرنا فرادى وجماعات وأمما. ومن أسباب النصر: توحيد الصفوف، وإصلاح الآخرين، ورأب الصدع، وتأليف القلوب، وجمع الكلمة، حتى لا ينخر في سفينة الأمة من يغرقها، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وعلينا بالتربية الجادة للأمة، بإحياء السلوك الإسلامي فيها، والقضاء على السيئ منها، وإحياء روح الجهاد في سبيل الله، وإعداد النفوس لذلك، وتحقيق مفهوم الولاء لله عز وجل، ولمن يحبهم سبحانه وتعالى من الأنبياء والصالحين، والبراءة من كل ما يُعبد من دون الله تعالى، والكفر به ومعاداته، والإنفاق في سبيل الله، مع تخليص النفس من الشح، وحب الدنيا والركون إليها، وطلب الشهادة في سبيل الله، والتطلع إليها بشتى الوسائل، مع الصدق في النية، فمن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، فإذا اجتمع في المؤمنين المجاهدين في سبيل الله هذه الصفات، حصل لهم النصر، وإن قلوا وكثر عدوهم، قال -سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:45،47].
الدعاء