خطبة عن (اصْبِرُوا وَاتَّقُوا)
أغسطس 11, 2025خطبة عن (ارْتَقِبُوا آيَةَ الدُخَان)
أغسطس 13, 2025الخطبة الأولى (تفويض الأمر لله)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (44) غافر .وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، وَقُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ).
إخوة الإسلام
تَّفْوِيضُ الأمر لله تعالى: هُوَ رُوحُ التَّوَكُّلِ، وَلُبُّهُ وَحَقِيقَتُهُ، وَهُوَ إِلْقَاءُ أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْزَالُهَا بِهِ، طَلَبًا وَاخْتِيَارًا، لَا كَرْهًا وَاضْطِرَارًا، وقوله: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) يعني: أجعله مفوَّضًا إليه -سبحانه- وحده، لا أعتمد على غيره، ولا أرجو إلا إياه، وقد كان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ) (متفق عليه). لذا كان تفويض الأمر لله تعالى من أخلاق المؤمنين، ومن صفات المتقين، فإذا علم العبد المؤمن أن كل شيء بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) {القمر: 49}. وإذا علم العبد أن الله تعالى لا يقضي قضاء للعبد المؤمن إلا كان خيراً له، كما في صحيح مسلم: (عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». وفي رواية أحمد: «عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْراً لَهُ»،
فإذا علم المؤمن ذلك كله، توكل على الله تعالى، وفوض أمره إلى الله، وأسلم نفسه إليه، فوثق به، واعتمد عليه، وأخذ بالأسباب المشروعة، في جلب الخير ودفع الضر، فصار متوكلا على الله، فإذا نزلت به حاجة، أنزلها بالله سبحانه، وفوض أمره إليه، بصدق وتضرع وإخلاص، فيرى من خفي لطفه ما لا يخطر على البال، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) {الطلاق:3}، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ»،
وتفويض الأمور إلى الله مِن أسباب حفظ العبد، ووقايته مِن السوء والشرِّ، كما أخبر الله تعالى- عن إنجائه لمؤمن آل فرعون، لما مكروا به، وأرادوا السوء به، فلجأ إلى الله، وفوَّض أمره إليه، فقال: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر:44-45). فدلت هذه الآية الكريمة، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم، وأن الله وقاه، وحفظه ونجاه من أضرار مكرهم وشدائده، بسبب توكله على الله، وتفويضه أمره إليه، ومثلها قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) آل عمران /173–174.
وهذا التفويض مِن العبد لربه يكون في كل أموره وشئونه وأحواله؛ من أمور الدين والدنيا؛ فإن العبد لا يدري ما يكون فيه صلاح أمره أو فساده؛ فربما زاولَ أمرًا واعتقد أن فيه صلاحه وفلاحه، فانقلب فسادًا، وبالعكس؛ قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هود /123. وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح وإذا أمسى: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه النسائي وحسنه الألباني).
والتوكل والتفويض الصحيح لا بد أن يقترن به القيام بالأسباب المشروعة، ففي سنن الترمذي: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»، فتفويض الأمر إلى الله لا ينافي الأخذ بالأسباب التي قدَّر الله -سبحانه- المقدورات بها؛ فإن الله كما أمر بالتوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، أمر كذلك بتعاطي الأسباب بالجوارح، مع توكل القلب عليه، وتفويضه الأمر إليه، وهذا ما كان عليه سادات المتوكلين على الله، مِن النبيين والمرسلين والصالحين.
أيها المسلمون
فما أجمل أن يلجأ الإنسان إلى رب العالمين في كل أموره، ويُسند أمره لله، فيما يقابله من تحديات أو صعوبات، وهذا هو مبدأ التفويض الذي يجب أن نأنس به في كل أحوالنا، وأن نعتمد على الله في كل أمورنا، فالتفويض إلى الله هو قمة الإيمان، والتوكل عليه، فنعلم أن مرجع الكل إلى الله، وتقدير الكُلّ فيها لله، وتوطِّن نفسك على فرش التوكل، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود:123].
وإذا علمت أن الله تعالى هو المالك لهذا الكون، فلا يكن اتكالك إلا عليه، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ [الرعد:30]. وإذا داهمك الخوف، وخشيت بأس أعداء الله، والشيطان والغدّار، فلا تلجأ إلاّ إلى باب الله وعليه توّكل، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل:99]، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». فتفويض الأمر لله يجعل الإنسان في حالة طمأنينة داخلية، لأنه يعلم أن الله يدبر له الأمور بحكمته، فيتخلص المؤمن من الشعور بالقلق، والخوف من المستقبل،
أيها المسلمون
ومن مواقف السابقين في تفويض وتسليم الأمر لله: حينما أمر الله موسى وقومه بالخروج مع بني إسرائيل، فوجد نفسه أمام البحر، ومن خلفه جيش فرعون، قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (61): (67) الشعراء،
وحينما ورد ما مدين، شكا إلى فاقته: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (24)، (25) القصص،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (تفويض الأمر لله)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وعندما أُلقي إبراهيم، عليه السلام، في النار، لم يتردد في تسليم أمره لله، فقال: “حسبنا الله ونعم الوكيل”. فكانت النتيجة أن قال الله للنار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69).
وفي غزوة الأحزاب، عندما اجتمعت قوى الكفر لتحاصر المدينة، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: قَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ» رواه أبود داود. وقد أظهر الله قدرته حين هزم الأحزاب بريح شديدة وملائكة لم تُرَ.
وهذا نبي الله أيوب (عليه السلام) فوض أمره لله، قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (41)، (42) ص،
وهذا الإمام أحمد بن حنبل: (فحين سُجن وعُذب في محنة خلق القرآن، كان يقول: “إن كان الحق معي فالله سينصرني، وإن لم يكن معي فلا خير لي في الانتصار”، وقد رفع الله ذكره وخلّده، وأثبت له الحق على مر العصور.
الدعاء