خطبة عن (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)
سبتمبر 29, 2025خطبة عن (من أحوال الكافرين والمؤمنين عند الموت)
أكتوبر 1, 2025الخطبة الأولى (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (21)، (22) المؤمنون، وقال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) (66) النحل، وقال تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (5): (7) النحل.
إخوة الإسلام
إنها لكثيرة تلك النعم التي يراها الإنسان، ويشاهدها من حوله، ولا يدرك قيمتها، ولا يفكر في أهميتها، والانسان إذا فكر وتدبر في كيفية إيجاد هذه النعم، أدرك عظمة الله الخالق- سبحانه وتعالى-، والقرآن الكريم يدعونا دائماً إلى التفكر والتدبر، فالواجب على المكلَّف أن يشغل نفسه بهذه العبادة الجليلة، في حدودها ومجالاتها المنضبطة، وذلك أن التفكير السليم يوصل صاحبه إلى الخير في الدنيا والآخرة، فالله تعالى أنعم علينا بنعم عظيمة، سخَّرها لنا، لنعرفه ونعظمه، ونعبده ونوحده، محققين الغاية التي من أجلها خلقنا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، من أعظم هذه النعم نعمة العقل، الذي هو أداة التفكير، وقد ورد الحديث عن هذه النعمة في أكثر من موضع في كتاب الله، عز وجل. قال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، فالله سبحانه وتعالى قد وهب الإنسان العقل ليفكر به، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:51].
أيها المسلمون
ومن بين الآيات القرآنية التي أشارت إلى نعم الله على الانسان، وعليه أن يتفكر فيها: قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ» النحل:66. لذلك، فسوف يكون لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)، ففي هذه الآية يرشدنا الله إلى مظهرٍ مِن مظاهرِ وحدانيتِه، وعظيمِ قدرتِه، والمعنى: إنَّ لكم- أيُّها النَّاسُ- في الأنعامِ لَعِظةً تَستَدِلُّونَ بها على استحقاقِ الله للعبادةِ؛ ففي هذا الإنعامِ دليل وشاهد على قُدرةِ الله، لِقَومٍ يَعقِلونَ آياتِ اللهِ فيَعتَبِرون بها.
والأنعام: اسم يطلق على (الإبل والبقر والضأن والمعز)، وفي الآية الكريمة عرض للأدلة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، من خلال عرض عظيم مخلوقاته؛ لأنه لا يخلق العظيم إلا من هو أعظم منه، ومن عظيم خلقه سبحانه وتعالى، هذه الأنعام، التي يشرب الإنسان لبنها، وهو لبن أبيض خالص عن الشوائب، سهل شربه، واللبن يتولد من بين ما في الكرش من الفضلات، ومن بين الدم، قال تعالى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) (66) النحل ،فسبحان من خلق اللبن الأبيض من غير لونه، وسبحان من خلق اللبن السائغ اللذيذ من الفضلات المقززة، ومن الدم النجس،
وفي بحث للعلماء المتخصصين: يؤكد أنه لا توجد أي مادة غذائية يمكن أن تقارن باللبن، فهو أفضل الأغذية للأطفال، والناشئين، والبالغين، والمسنين، على السواء، حيث أودعه المولى عز وجل أسراراً كثيرة، ما زالت وستظل الأبحاث تجرى لكشفها.
وتشير الآية إلى أن اللبن يبدأ تكوينه من المواد الغذائية التي تتغذى عليها إناث الثدييات، بعد أن يتم هضم الطعام وامتصاصه، ووصوله إلى الكبد عبر الأوعية الدموية، ومن ثم إلى خلايا الضرع، أو الثدي وقنواته ليفرز اللبن الخالص من كل الشوائب في قنوات الضرع.
وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب، وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة، فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة، ولكن القرآن الذي يعبر عن هذه الحقائق العلمية البحتة – يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى، لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها؛ وورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين والمتعنتين.
ويقول العلماء المتخصصون: يتكون الحليب من بعض الدهون التي تتركب بواسطة أعضاء خاصة في داخل الضرع، وتصنع طبقة رقيقة على سطح الحليب، وتعد من أهم مصادر الطاقة، فهي من العناصر المنهكة للحليب، والتي تعطي له طعمًا، على حسب كمية ونوع هذه الدهون، وأما البروتينات الموجودة بالحليب، ذات الجودة العالية والقيمة الغذائية العظيمة، وكذا البروتينات الموجودة بالحليب، لهي من أفضل البروتينات على الطبيعة حتى الآن، كما يحتوي الحليب على «اللاكتوز» الذي يعد نوع من السكريات، ويعطي طعمًا للحليب، فسبحان الذي سخر لنا لبنًا سائغًا.
وقد اخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، بما توصل إليه العلم الحديث حول أهمية اللبن الغذائية والصحية للإنسان، وأن اللبن غذاء كامل، أو هو أكمل غذاء للإنسان، ولا يوجد ما هو خير منه للإنسان. ففي سنن أبي داود: (أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِلَبَنٍ فَشَرِبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ. وَإِذَا سُقِىَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ اللَّبَنُ». وهكذا يتجلى لنا بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى قيمة اللبن الغذائية المتميزة، في زمن لم يدرك الناس فيه تركيب اللبن، وما يحتويه من عناصر غذائية مهمة، فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
أيها المسلمون
قال تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (21) المؤمنون، فالأنعام لها فوائد متعددة، ومنافع كثيرة، ومنها: بجانب شراب (اللبن)، ما يؤكل من أفضل الطعام وهو (اللحم)، ومنها ما يستفاد به في التدفئة (كالجلود)، ومنها ما يستخدم في الاستشفاء والصناعة (كالشحم) ومنها ما يستخدم في صناعة الملبس والمسكن (كالوبر، والصوف والشعر)، كما تستخدم في الركوب، والتنقل، قال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (22) المؤمنون، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (79)، (80) غافر، كما جعل الله تعالى من جلود الأنعام بيوتا، قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) (80) النحل
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فالله تعالى جعل في خلق الأنعام آية من آياته، في قوتها، وجمالها، وتسخيرها للإنسان، ثم إنها فوق ذلك هي زينة من زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (5)، (6) النحل،
ومن نعم الله تعالى علينا أن ذلل لنا هذه الحيوانات، فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) (71): (73) يس، فهذا التذليل نعمة في الأنعام، لأن الله وحده هو الذي جعلها مقهورة ذليلة، لا تمتنع علي صاحبها عند الحاجة إليها، في تسييرها، وتوجيهها للرعي، أو للطرق، أو للحمل، أو للوقوف، فهذا التذليل ضروري لتمام الانتفاع بها، وركوب الأنعام والحمل عليها نعمة تلفت النظر، وتوجب الشكر، لأنها توفر كثيراً من الجهد، فيستطيع الإنسان السير في المصالح البعيدة والتجارة بلا مشقة، لأن هذه الأنعام تحمله، وتحمل متاعه وطعامه وشرابه، وبدونها فإن الإنسان عاجز عن حمل الأثقال لمسافة قصيرة.
الدعاء