خطبة عن (فِقْهُ النَّصْرِ وَالْهَزِيمَةِ)
أكتوبر 5, 2025خطبة عن (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى جَهْلٍ)
أكتوبر 7, 2025الخطبة الأولى (كيف يخرج المسلمون من حالة الاستضعاف)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص:٥].
إخوة الإسلام
إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يَرْوِي لَنَا قِصَصًا فِيهَا سُنَنُ اللهِ فِي الِاسْتِضْعَافِ وَالْتَّمْكِينِ، فَقَدْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُسَامُونَ سُوءَ الْعَذَابِ، وَتُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَأَظْهَرَ دِينَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا الْوَعْدُ بِالتَّمْكِينِ لَيْسَ خَاصًّا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ مَشْرُوطَةٌ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالثَّبَاتِ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ،
وَقَدْ مَرَّ الْمُسْلِمُونَ فِي الْبِدَايَةِ بِمَرَاحِلَ شَدِيدَةٍ مِنَ الِاسْتِضْعَافِ، كَانُوا فِي مَكَّةَ يُعَذَّبُونَ وَيُضْطَهَدُونَ، وَقَدْ قُتِلَ سُمَيَّةُ وَزَوْجُهَا يَاسِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا تَحْتَ التَّعْذِيبِ، وَبِلاَلٌ يُسْحَبُ عَلَى الرِّمَالِ الْحَارَّةِ، وَخَبَّابٌ يُوضَعُ الْحَدِيدُ الْمُلْتَهِبُ عَلَى جَسَدِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» [رواه الحاكم]. وَلَكِنَّ تِلْكَ الْمَرَاحِلَ مِنَ الِاسْتِضْعَافِ لَمْ تَكُنْ هَوَانًا عَلَى اللهِ، بَلْ كَانَتْ مِهَادًا لِلتَّمْكِينِ، وَامْتِحَانًا لِلصِّدْقِ فِي الْإِيمَانِ.
والسؤال: مَا هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي بِهَا يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الِاسْتِضْعَافِ؟،
والجواب: هذه الطرق والوسائل تتلخص فيما يلي: أَوَّلًا: الإِيمَانُ الصَّادِقُ بِاللهِ: فَالْقُوَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ، وَمَنْ فَقَدَهَا لَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ كَثْرَةٌ وَلَا سِلَاحٌ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران:١٦٠].
ثَانِيًا: التَّرْبِيَةُ عَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ: فلَا يَسْتَطِيعُ أُمَّةٌ مُرْتَعِشَةُ الْقُلُوبِ أَنْ تُقَاوِمَ أَعْدَاءَهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:٢٤]. فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ هُمَا عِلَّةُ التَّمْكِينِ.
ثَالِثًا: الْعِبَادَاتُ رُوحُ النَّصْرِ: فالصَّلَاةُ الَّتِي تُقَوِّي الْقُلُوبَ، وَالصَّوْمُ الَّذِي يُرَبِّي الْإِرَادَةَ، وَالدُّعَاءُ الَّذِي يُثْبِتُ عَلَى الطَّاعَةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:١٥٣].
رَابِعًا: إِصْلَاحُ الْأَخْلَاقِ وَتَرْكُ الْمَعَاصِي: فإِنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْهَوَانِ هِيَ الْمَعَاصِي. قَالَ ابْنُ الْقَيْمِ: «إِذَا تَخَلَّى النَّاسُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ»، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى:٣٠].
خَامِسًا: الْوَحْدَةُ وَتَرْكُ التَّفَرُّقِ: فَمَا ضَعُفَتْ أُمَّةٌ إِلَّا بِتَفَرُّقِهَا، وَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣].
فهَذِهِ هِيَ الْخُطُوطُ الْعَامَّةُ لِطَرِيقِ الْخُرُوجِ مِنَ الِاسْتِضْعَافِ: (إِيمَانٌ وَصَبْرٌ وَعِبَادَةٌ وَأَخْلَاقٌ وَوَحْدَةٌ)، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ، فَإِنَّ مَوْعِدَ اللهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ آتٍ لَا مَحَالَةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:٤٠].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (كيف يخرج المسلمون من حالة الاستضعاف)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِضْعَافَ لَيْسَ نِهَايَةَ الطَّرِيقِ، بَلْ هُوَ مَرْحَلَةٌ تَسْبِقُ التَّمْكِينَ. وَإِذَا نَظَرْنَا فِي سِيرَةِ نَبِيِّنَا ﷺ وَسِيرَةِ أَصْحَابِهِ، وَجَدْنَا الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ عَلَى هَذَا، فَقَدْ مَكَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُعَذَّبُونَ وَيُطَارَدُونَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، بَلْ كَانَ شِعَارُهُمْ: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء:٧٧]. ثُمَّ كَانَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَذِنَ اللهُ بِالدِّفَاعِ وَالْقِتَالِ ،فَكَانَتْ بَدْرٌ، وَفِيهَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران:١٢٣].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إن النَّصْر مِنْ عِنْدِ اللهِ وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَلَا الْعُدَّةِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:٢٤٩]. وَإِذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ الْخُرُوجَ مِنْ ضِيقِ الِاسْتِضْعَافِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَبْدَؤُوا بِأَنْفُسِهِمْ: تَوْبَةً إِلَى اللهِ، وَتَصْفِيَةً لِلْقُلُوبِ، وَعَمَلًا بِالْعَدْلِ وَالْأَخْلَاقِ، وَتَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وعلى المسلمين أَنْ يُوقِنُوا أَنَّ الِاسْتِضْعَافَ مَرْحَلَةٌ سَتَمْضِي، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا شَكَا إِلَيْهِ مَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» [رواه البخاري].
فَاصْبِرُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاعْمَلُوا، وَأَصْلِحُوا أَنْفُسَكُمْ وَأُسَرَكُمْ وَمُجْتَمَعَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّصْرَ آتٍ مَتَى مَا حَقَّقْتُمُ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَالْوَحْدَةَ، قال تعالى: ﴿وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٦].
الدعاء