خطبة عن (كيف يخرج المسلمون من حالة الاستضعاف)
أكتوبر 6, 2025خطبة عن (اللهُ يُنَادِينَا: يَا عِبَادِي)
أكتوبر 8, 2025الخطبة الأولى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى جَهْلٍ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين واللفظ للبخاري: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
إخوة الإسلام
تأمَّلوا هذا الموقفَ العظيم؛ لثلاثَةٌ من الصالحين، امتلأت قلوبُهم حُبًّا للهِ، ورغبةً في القُربِ منه، ولكنَّهُم أخطأوا الطريقَ، لأنَّهم عَبَدوا اللهَ على جهلٍ، وغابت عنهم بصيرةُ العلمِ، التي تَهدي إلى سواءِ السَّبيل، فظنُّوا أنَّ شدَّةَ التكلُّفِ في العبادةِ، وتركَ المباحاتِ، هو طريقُ القُربِ من الله، فنهاهم رسولُ اللهِ ﷺ، وأقامَ الميزانَ العادلَ فقال لهم: «فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ منِّي».
فعبادةٌ بلا علمٍ كجسدٍ بلا روح، تُرهِقُ صاحبَها ولا ترفعُه، وتُثقِلُه ولا تُزكِّيه، وقد قال اللهُ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9]. وقال جلَّ شأنُه فيمن ضلَّ طريقَ العبادة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج:11]. أي: يعبُدُ اللهَ على طرفٍ من الدينِ لا على ثباتٍ ورسوخٍ؛ إن أصابَه خيرٌ رضِيَ، وإن أصابَته فتنةٌ ارتدَّ، فتلك عبادةُ الجاهلِ المتردِّدِ، لا عبادةُ العارفِ الموقِنِ.
أيُّها المؤمنون
إنَّ العبادةَ الحقَّةَ ليست كثرةَ ركعاتٍ، ولا طولَ صيامٍ، ولكنَّها عبادةٌ على علمٍ، واتباعٍ وإخلاصٍ، كما قال سفيانُ الثَّوريُّ رحمه الله: (العملُ القليلُ في السُّنَّةِ خيرٌ من العملِ الكثيرِ في البِدعةِ)، ومن عبدَ اللهَ على جهلٍ، ربَّما أسرفَ في التشدُّدِ، حتّى يحرِّمَ ما أحلَّ الله، أو تراهُ يبتدعُ في الدينِ ما ليس منه، ظانًّا أنَّهُ يُحسنُ صنعًا، وما درى أنَّه خالفَ هديَ نبيِّه ﷺ، وكم من مسلمٍ اليومَ يجهلُ حقيقةَ العبادةِ!، يظنُّ أنَّها صلاةٌ وصومٌ فقط، وينسى أنَّ البرَّ بالوالدين عبادة، وأنَّ الصدقَ في القولِ عبادة، وأنَّ الإحسانَ إلى الخلقِ عبادة، وأنَّ طلبَ العلمِ عبادة، وأنَّ الكلمةَ الطيّبةَ عبادة، وأنَّ الكفَّ عن الأذى عبادة، فالعبادةُ هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه اللهُ ويرضاهُ، من الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطنة، ولكن بشرطَيْنِ اثنين لا ثالثَ لهما: (الإخلاصُ للهِ، والمتابعةُ لرسولِ الله ﷺ)، فمن أخلَّ بأحدِهما، عبدَ اللهَ على جهلٍ وضلال.
وكم نرى اليومَ من الغُلاةِ والمتساهلينَ في العبادةِ، فمن هؤلاءِ من يُضيِّقون ما وسَّعَ الله، ومنهم أولئكَ الذين يُوسِّعون ما حرَّم الله، وكلٌّ قد عبدَ ربَّه على غير علمٍ ولا هُدى، وفي المقابلِ، كان أصحابُ النبيِّ ﷺ يعبدونَ اللهَ على بصيرةٍ، ويعلمونَ أنَّ الطاعةَ تقتضي فقهًا، وأنَّ من أرادَ أن يَسْلَمَ دينُه فليتعلَّمْه قبلَ أن يَعمَلَ به، ولذلك قال عمرُ بنُ الخطّابِ رضي اللهُ عنه: (تفقَّهوا قبلَ أن تُسَوَّدوا).
فالعلم هو النورُ الذي يَهدي العابدَ في دربِ العبادةِ، وهو البوصلةُ التي تمنعُه من الغلوِّ والانحرافِ، ولذلك قال رسولُ اللهِ ﷺ: «من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدِّينِ» [متفقٌ عليه]. فمن لم يتفقَّهْ في دينِه، ولم يتعلَّمْ حدودَ ما أمرَ اللهُ به، وما نهى عنه، وقعَ في الجهلِ، وعبدَ اللهَ على حرفٍ، وربَّما أفسدَ وهو يحسَبُ أنَّه يُصلح،
فيا أيُّها العابدُ لربِّه، يا مَن يُكثِرُ من الطاعاتِ، لا تكن كمن قال اللهُ فيهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:103-104]. فالعبادةُ بلا علمٍ تُورِثُ الغرورَ، والعبادةُ على علمٍ تُورِثُ الخشيةَ والخضوعَ، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28].
فاحرصوا على تعلُّمِ دينِكم، وتفقُّهِ أحكامِ عبادتِكم، ولا تستحيوا من سؤالِ العلماءِ فيما أشكلَ عليكم، فالسؤالُ بابُ العلمِ، والجهلُ بابُ الضلال.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم
الخطبة الثانية (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى جَهْلٍ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وبعد أن علمنا أنَّ العبادةَ لا تكونُ مقبولةً إلَّا إذا قامت على العلمِ والبصيرةِ والاتباعِ، وأنَّ الجهلَ يُفسِدُ العبادةَ كما يُفسِدُ الغُلُوُّ فيها، فقد جسَّدَ النبيُّ ﷺ هذا الميزانَ العظيمَ في حديثِ سلمانَ مع أبي الدرداءِ رضيَ اللهُ عنهما، حينَ زارَه فوجدهُ صائمًا قائمًا، مهمِلًا لزوجتِه ونفسِه، وهو يحسب أنه في عبادة تقربه من الله تعالى، ولم يعلم أنه عبد الله على جهل، وعلى خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضيع حق نفسه، وحق زوجه، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً. فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ، قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا. فَقَالَ كُلْ. قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ. قَالَ نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ .فَقَالَ نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الآنَ. فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ). فَأَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «صَدَقَ سَلْمَانُ»،
فهكذا هو فقهُ العبادةِ، لا إفراطَ فيها ولا تفريط، ولا تكلُّفَ يُرهِقُ الجسدَ، ولا تهاونَ يُميتُ القلبَ، وإنَّما عبادةٌ متوازنةٌ بين حقِّ اللهِ وحقِّ النفسِ وحقِّ الخلقِ.
أيُّها المسلمون
ومَن يعبدُ اللهَ على جهلٍ قد يُسيءُ إلى دينِه وهو لا يشعر، فيتعصَّبُ لرأيٍ، أو يبدِّعُ غيرَه، أو يتألى على عبادِ اللهِ، فيحكُمُ عليهم بالضلالِ والفسقِ، وربَّما كان هو الأجهلَ بطريقِ الحقِّ، وقد قال ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (كم من مريدٍ للخيرِ لم يُصِبْه! أي أرادَ الخيرَ لكنَّهُ أخطأهُ لجهلِه).
والعلمُ لا يزيدُ العابدَ إلا تواضعًا وخشيةً، والجهلُ لا يزيدُه إلا غلُوًّا وغرورًا، فالجاهلُ إذا عَبَدَ ظنَّ أنَّه أكمَلُ الناسِ، والعالِمُ إذا عَبَدَ شعرَ أنَّه مقصِّرٌ في جنبِ الله، ولهذا كانَ من دعاءِ النبيِّ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أسألُكَ علمًا نافعًا، ورزقًا طيِّبًا، وعملاً متقبَّلًا» [رواه ابن ماجه].
ومن الملاحظ أنه ليس الجهلُ اليومَ في أمورِ الفقهِ فقط، بل في فَهمِ مقاصدِ الدينِ كلِّه، فترى من يُطيلُ الصلاةَ ولا يُحسِنُ معاملةَ الناس، أو يُكثِرُ من الصيامِ ويظلمُ زوجتَه وأولادَه، أو يتحدَّثُ باسمِ الدينِ ويجهلُ سُننَ اللهِ في الكونِ والمجتمع.
إنَّ العبادةَ الحقةَ لا تُخرِجُ من الواقعِ، بل تُصلِحُه، ولا تَعزِلُ المسلمَ عن النَّاسِ، بل تجعلهُ رحمةً للناس، ومن ظنَّ أنَّ التديُّنَ يعني الاعتزالَ والانغلاقَ فقد عبدَ اللهَ على جهلٍ، فاللهُ تعالى يقول: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص:77].
فيا عبادَ الله، تعلَّموا دينَكم، فإنَّ الجهلَ هلاكٌ، والعلمَ حياة، قال ابنُ القيمِ رحمه الله: الجاهلُ يعملُ فيفسدُ أكثرَ مما يُصلح، والعالمُ يعملُ فيُصلحُ أكثرَ مما يُفسد، ويا من يريدُ القربَ من الله، فالطريقُ إلى ربِّك ليس بكثرةِ التكاليفِ، ولا بالمشقَّةِ على النفسِ، ولكن بالعلمِ والنيةِ الصالحةِ، والاقتداءِ برسولِ الله ﷺ، الذي قال اللهُ تعالى عنه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21].
ألا فاجعلوا عبادتَكم على سُنَّته، واسألوا اللهَ أن يُعينَكم على فقهِ دينِكم، وثباتِ قلوبِكم على طاعتِه.
الدعاء