خطبة عن (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى جَهْلٍ)
أكتوبر 7, 2025خطبة عن (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)
أكتوبر 9, 2025الخطبة الأولى (اللهُ يُنَادِينَا: يَا عِبَادِي)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزُّمَر:٥٣].
إخوة الإسلام
ما أعظَمَها من آية، وما أكرمَها من دعوة ربّ عظيم، فخالقُ السَّماواتِ والأرضِ، يَنادي عبادهُ المُذنبين، ويُخاطبهم برِقَّةٍ وحنانٍ: «يَا عِبَادِي». ولم يقل: يا أيُّها العصاة، ولا يا مَن خالَفوا أمري، بل قال: «يَا عِبَادِي»، إنه نِداءُ محبَّةٍ ورحمة، نداءُ مغفرةٍ وتوبة، نداءُ رجاءٍ وأمل، فكم مِن عبدٍ أبعدتْه الذنوبُ عن ربِّه، وكم من قلبٍ غَلَفه الرانُ، فإذا سَمِع هذا النداءَ الإلهيَّ رقَّ قلبُه، وسالت دموعُه، وقال: يا ربِّ، إن كنتَ تناديني، فأنا العبدُ المُقصِّرُ الذي عاد إليك، لقد نادانا اللهُ لِيُقرِّبنا لا ليُبعِدنا، نادانا لِيغفرَ لا ليعاقب، قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحِجر:٤٩-٥٠]. فهُوَ ربٌّ يُوازنُ بين الرَّحمةِ والعَدل، بين العفوِ والحساب.
أيُّها المسلمون
إنّ هذا النداء الربّانيَّ يتكرّرُ في مواضعَ شتّى من القرآن: فيَنادينا اللهُ حينَ يأمُرُنا بالعبادة: ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ الزمر:16. ويَنادينا حينَ يَدعونا للتوبة: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ العنكبوت:56. ويَنادينا حينَ نُصابُ بالضِّيق: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾ الزمر:10. إنه نِداءٌ بعدَ نِداء، وكُلُّ نِداءٍ يحملُ في طيّاتِه محبّةَ الخالقِ لعبادِه، ورغبتَه في رجوعهم إليه. فالله لا يَنادينا إلا لِيُكرِمَنا، ولا يَدعونا إلا لِيَرفَعَنا، قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ النساء:27، وقال تعالى :﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ البقرة:185. فهل سَمِعْتَ عن مَلِكٍ يُنادِي عبيدَه ليَرحَمَهم؟، وهل سَمِعْتَ عن سُلطانٍ يقولُ لمَن عَصَوه: لا تقنطوا من رحمتي؟، هذا هو اللهُ الرَّحيمُ الودودُ. فلو لم يكن في القرآن إلا هذه الآيةُ لكفَتْ مَن فَهِمها: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ الزمر:53، أي لا تيأسوا، ولا تَظنّوا أنَّ أبوابَ الرحمةِ قد أُغلِقَت، فبابُ اللهِ مفتوحٌ دائمًا، لا يُغلَقُ في وجهِ مُذنِبٍ عادَ إليه، ولا يُردُّ مَن قال: “ربِّ، اغفر لي”.
ألا ترَونَ –عبادَ الله– أن نبيّ اللهِ موسى حينَ قتلَ نفسًا بغيرِ حقٍّ؟، قال فورًا: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ القصص:16، فَغَفَرَ لَهُ. ونبيُّ اللهِ يونسُ حينَ ابتلَعَه الحوتُ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنبياء: (87)، (88)، وهكذا جاءه الفرجُ وهو في ظلماتِ البحر. فبابُ الله لا يُغلَق، ونِداءُ الله لا يَنقَطِع، ومغفرتُه تَعمُّ الجميعَ.
أيُّها المؤمنون
وإذا كان اللهُ يُنادي عباده العصاةَ، أفلا يُنادي أحبابه الطائعين؟، بلى والله، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ الاحزاب:41، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ التحريم:8. فنداءاتُ الله لا تنحصرُ في المغفرة، بل تشملُ الذكرَ، والطاعةَ، والتقوى، والإحسانَ، والإخلاصَ. وتأمّلوا قولَ النبيِّ ﷺ في الحديثِ القدسيِّ الصحيح: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا… يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ…) رواه مسلم. فتأمّلوا كيف يُكرّر الله النداءَ: يا عبادي… يا عبادي… ليُذكِّرَنا أننا مِلكُه، وأنه أرحمُ بنا من أُمِّهاتِنا.
فيا من أثقلَتْه الذنوب، ويا من حَبَسَتْه الغفلة، ويا من بَعُدَتْ بينه وبين اللهِ المسافات، اعلم أنَّ اللهَ يُناديك الآن: عُد إليَّ، فبابي لا يُغلق. واعلم أنَّ الشيطانَ يُريدُك أن تيأس، وربُّك يُريدُ أن تُقبِلَ عليه. وأجمل ما في الإسلامِ أنَّ التوبةَ تمحو ما قبلها، وأنَّ العبدَ إذا تابَ تابَ اللهُ عليه، بل يُبدِّلُ الله سيِّئاتِه حسناتٍ. فهل بعدَ هذا النداءِ الربانيِّ يبقَى لأحدٍ عُذرٌ في البُعد عنه؟، فيا مَن قصَّر في صلاته، ويا مَن عقَّ والديه، ويا مَن ظلمَ عبادَ الله، ويا مَن تابَ ثم عاد، اسمع نداءَ ربِّك: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ الزمر:53.
أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية (اللهُ يُنَادِينَا: يَا عِبَادِي)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإِذَا كَانَ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ نَادَانَا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ: «يَا عِبَادِي»، فَإِنَّ هَذَا النِّدَاءَ الْعَظِيمَ لَيْسَ مُجَرَّدَ لَفْظٍ يُتْلَى، وَلَا صَوْتٍ يُسْمَعُ، بَلْ هُوَ رِسَالَةٌ تُحَرِّكُ الْقَلْبَ، وَتُغَيِّرُ السُّلُوكَ، وَتَصْنَعُ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَعْرِفُ قَدْرَ رَبِّهِ، وَيَسِيرُ إِلَيْهِ تَائِبًا مُنِيبًا. فنِدَاء اللهِ لَنَا يَعْنِي أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ رَحْمَتَهُ سَابِقَةٌ لِغَضَبِهِ، وَأَنَّ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ صَادِقًا وَجَدَهُ غَفُورًا وَدُودًا. وَلَكِنِ السُّؤَالُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَسْأَلَهُ لِأَنْفُسِنَا الْيَوْمَ: كَيْفَ نُجِيبُ نِدَاءَ اللهِ تعالى؟.
والجواب: أَوَّلًا: بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ ،تَوْبَةٍ لَا تَغُرُّهَا الْأَقْوَالُ، وَلَا تُؤَجِّلُهَا الْأَعْذَارُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: مَا زَالَ الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا زَالَ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا تَابَ إِذَا أَذْنَبَ، وَاسْتَغْفَرَ إِذَا أَخْطَأَ. فَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ ضَعْفًا، بَلْ هِيَ عَوْدَةُ الْقَوِيِّ إِلَى مَصْدَرِ قُوَّتِهِ، وَاعْتِرَافُ الْإِنْسَانِ بِعَجْزِهِ أَمَامَ عَظَمَةِ رَبِّهِ.
وثَانِيًا: بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَا يَكْفِي أَنْ نَقُولَ: يَا رَبِّ تُبْنَا، ثُمَّ نَعُودَ إِلَى الذُّنُوبِ بَعْدَ سَاعَاتٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ [هود:١١٢]. وَالِاسْتِقَامَةُ مَعْنَاهَا أَنْ تَجْعَلَ اللهَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، فِي بَيْتِكَ، وَفِي عَمَلِكَ، وَفِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ.
وَثَالِثًا: بِإِحْسَانِنَا إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ رَحْمَةَ اللهِ أَحَبَّ أَنْ يُرْحَمَ الْخَلْقُ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». فَكَمَا نُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَنَا، يَجِبُ أَنْ نَغْفِرَ نَحْنُ لِإِخْوَانِنَا، وَأَنْ نُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَنْ نَتْرُكَ الْبَغْضَاءَ وَالْحَسَدَ وَالْخُصُومَةَ الَّتِي تُفْسِدُ الْقُلُوبَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
إِنَّ نِدَاءَ اللهِ «يَا عِبَادِي» هُوَ تَذْكِيرٌ بِأَنَّنَا مِلْكٌ لله، وَأَنَّنَا لَا نَغِيبُ عَنْ عَيْنِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فَإِذَا دَعَاكَ اللهُ فَلَا تَتَأَخَّرْ، وَإِذَا نَادَاكَ فَلَا تُعْرِضْ، وَإِذَا فَتَحَ لَكَ بَابًا فَلَا تُغْلِقْهُ بِذُنُوبِكَ.
أَمَا آنَ للقلب أَنْ يخْشَعَ؟، أما آن للعين أن تدمع؟، أما آن للعاصي أن يقلع؟، أَمَا آنَ لِلْغَافِلِ أَنْ يسمع؟، أَمَا آنَ لِلْمُذْنِبِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَوْلَاهُ؟، أَلَا يَسْمَعُ نِدَاءَ رَبِّهِ الرَّحِيمِ: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزُّمَر:٥٣].
إِنَّ اللهَ يُنَادِينَا جَمِيعًا: يُنَادِي الشَّابَّ الْغَافِلَ، وَالْمَرْأَةَ الْحَائِرَةَ، وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ، يُنَادِينَا جَمِيعًا أَنْ نَرْجِعَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ الْبَابُ، وَقَبْلَ أَنْ يُقَالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ فَلَا يُسْتَجَابُ النِّدَاءُ.
فَيَا مَنْ سَمِعْتَ الْيَوْمَ نِدَاءَ رَبِّكَ، لَا تُؤَخِّرِ الْإِجَابَةَ إِلَى غَدٍ، فَإِنَّ الْغَدَ مَجْهُولٌ، وَالْعُمْرَ قَصِيرٌ، وَالْفُرَصَ لَا تَدُومُ. لا تقل من أين أبدأ؟، فطاعة الله البداية، لا تقل أين طريقي؟، فشرعة الله الهداية، لا تقل أي نعيمي؟، جنة الله كفاية، لا تقل في الغد أبدأ. ربما تأتي النهاية.
فَأَقْبِلْ عَلَى اللهِ بِقَلْبٍ جَدِيدٍ، وَأَمَلٍ كَبِيرٍ، وَصِدْقٍ فِي التَّوْبَةِ، لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ يُنَادِيهِمُ اللهُ فِي الدار الْآخِرَةِ نِدَاءَ الْكَرَامَةِ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر:٢٧–٣٠].
الدعاء