خطبة عن الاستعاذة من عذاب النار وعذاب القبر ،وحديث (وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ)
أكتوبر 11, 2025الخطبة الأولى (اِصْبِرْ وَلَكَ الْجَنَّةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين: (عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ قالَ: قالَ ليَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: «أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قلتُ: بَلَى، قالَ: «هذِهِ المَرْأَةُ السَّوْداءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، وَلَكِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا».
إخوة الإسلام
ما أَعْظَمَ هذا الموقفَ!، وما أَنْبَلَ هذا الإيمانَ!، امرأةٌ ضعيفةُ الجسد، فقيرةُ الحيلة، ابتلاها اللهُ بداءٍ عُضالٍ، يُصرِعُها بين الحينِ والحين، لكنَّها في قلبِ البلاءِ رأتْ نورَ الجنةِ يتلألأ أمامَها، فاختارتِ الصبرَ على ألمِ الجسدِ، رجاءَ نعيمِ الأبد، وقالت بلسانِ المؤمنِ الصادقِ: «أصبرُ ولكِنِّي أَتَكَشَّفُ»، همُّها دِينُها، وشُغلُها سَترُها، وغَرضُها رِضي ربِّها، أيُّ إيمانٍ هذا يا عبادَ الله؟!، امرأةٌ تُخَيَّرُ بين العافيةِ العاجلةِ، والجنّةِ الباقيةِ، فتُؤْثِرُ الجنّةَ، وتَصبرُ على البلاءِ، وتَسألُ نبيَّها ألا تَنكشِفَ عورتُها؛ لأنَّها تَرى أنَّ صونَ الحياءِ أعظمُ من شفاءِ الجسد!، ألا فاسمعوا يا مَن تَضجُّونَ من ألمٍ يسيرٍ، أو بلاءٍ عابرٍ، أو خسارةٍ دنيويةٍ صغيرةٍ: تِلْكَ المرأةُ نالتِ الجنةَ بالصبر، وأنتَ تشكو من تأخيرِ رزقٍ، أو مرضٍ يسيرٍ، أو ظلمٍ من بشرٍ، وتنسى أنَّ اللهَ لا يُضَيِّعُ أجرَ الصابرينَ، كما قال تعالى:﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10].
يا أيُّها المؤمنون
الصبرُ ليسَ حبسَ النَّفَسِ فحسب، بل هو سكونُ القلبِ، وطمأنينتُه عند البلاءِ، وثقتُه بعدلِ اللهِ وحكمتِه، ورجاؤه لِوعدِه الصادقِ. والصبرُ ليسَ سلبًا ولا ضعفًا، بل هو قُوَّةٌ في الثباتِ، وعِزَّةٌ في الرِّضا، ونورٌ يَهدي في الظُّلُماتِ، وتأمَّلوا قولَ اللهِ جلَّ وعلا: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155–157]. فانظروا كيفَ جَعلَ اللهُ للصابرينَ ثلاثَ كراماتٍ عظيمة: (صَلَواتٍ من ربِّهم، ورحمةً واسعةً، وهدايةً في الطريق. وهل بعدَ هذا الجزاءِ جزاء؟ وهل بعدَ هذا النورِ نور؟
أيُّها الأحبةُ في الله: من الملاحظ أن الكثير من الناسِ يعبدونَ اللهَ ما دامتِ الحياةُ ميسورةً، فإذا جاءَ البلاءُ تغيَّرتِ القلوبُ، وتبدَّلتِ الوجوهُ، وارتابوا في وعدِ اللهِ. وهؤلاءِ هم الذين قال اللهُ عنهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج:11]. فليحذرِ المؤمنُ أن تكونَ عبادتُه عبادةَ رخاءِ فقط، أو إيمانَه إيمانَ مصالح، فإنَّ العبدَ الصادقَ هو من يَثبُتُ إذا اهتزَّ الناسُ، ويَرضى إذا جَزعوا، ويقول كما قال النبيونَ والصالحونَ: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف :126].
أيها الأحبّة: والصبرُ ليسَ في المرضِ وحدَه، بل في كلِّ وجوهِ الحياةِ: الصبرُ على الطاعةِ حتى لا تَمَلَّ، والصبرُ عن المعصيةِ حتى لا تَنزَلِقَ، والصبرُ على أقدارِ اللهِ حينَ تَجري بما لا تُحبُّ. فكم من مريضٍ صَبَرَ فارتفعَ قدرُه عند الله!، وكم من فقيرٍ رضيَ فصارَ من أغنياءِ الآخرة!، وكم من مظلومٍ احتسبَ، فكانتْ دعوتهُ تهزُّ السماءَ حتى قال اللهُ: «وعِزَّتي لأنصُرَنَّك ولو بعد حين».
أيها المسلمون
لو فَهِمَ الناسُ أنَّ البلاءَ طريقٌ إلى الجنّةِ، لما جزعوا، ولما تسخّطوا، ولما فقدوا الثقةَ بوعدِ اللهِ، ففي الحديث: «إِنَّ عِظَمَ الجزاءِ مَعَ عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رَضِيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ». فاصبروا، فالدنيا دارُ اختبارٍ لا دارُ قرارٍ، وكلُّ دمعٍ تُذرفُه في صبرٍ صادقٍ، يُكتَبُ لك به أجرٌ لا يخطرُ على بالٍ. واسمع إلى وعدِ اللهِ البديع: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:24]. هكذا يُستقبِلُ أهلُ الصبرِ على أبوابِ الجنةِ بالسلامِ من الملائكةِ، جزاءً لما صبروا في الدنيا. فاصبر يا مَن أصابك المرضُ، واصبر يا مَن نالَك الفقرُ، واصبر يا مَن فقدتَ قريبًا أو عزيزًا، فكلُّ ألمٍ يُختزَنُ لك في ميزانِ الصابرينَ، يُحوِّله اللهُ يومَ القيامةِ إلى نورٍ ورضوانٍ، ويُقالُ لك: «ادخُلِ الجَنَّةَ بما كنتَ تَعملُ، واصبِرْ ولكَ الجَنَّةُ».
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية (اِصْبِرْ وَلَكَ الْجَنَّةُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (155): (157) البقرة،
فالصَّبْر عبادةٌ عظيمةٌ، وبعضَ الناسِ يَظُنُّ أنَّ الصَّبْرَ يعني السُّكوتَ على الظُّلمِ أو تركَ السَّعيِ في رفعِ البلاءِ، وهذا فَهمٌ قاصِرٌ. فالصَّبْرُ أن تَعمَلَ وأنتَ مُحتسِبٌ، وأن تُداويَ وأنتَ راضٍ، وأن تُقاوِمَ وأنتَ مُؤمِنٌ أنَّ اللهَ يُدبِّرُ الخيرَ ولو خَفِيَ علينا وجهُهُ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155]. وتأمَّلوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – أنَّ اللهَ لم يقُلْ: واصبِروا، بل قال: وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، وكأنَّ البلاءَ رسالةُ حُبٍّ من اللهِ لعبدٍ يُريدُ أن يَرفَعَهُ لا أن يُعذِّبَه، يُريدُ أن يُطهِّرَهُ لا أن يُعاقِبَه.
واعلموا أننا في زمانٍ كَثُرَتْ فيه الفِتَنُ، وتنوَّعَتِ المَصائِبُ، وتقلَّبَتِ الأحوالُ، فلا نَجاةَ لنا إلَّا بصَبْرٍ جميلٍ، وإيمانٍ راسِخٍ، وعملٍ صالحٍ، فلنَكُنْ من الصَّابرينَ على الطَّاعةِ، الصَّابرينَ عنِ المعصيةِ، الصَّابرينَ على أقدارِ اللهِ المؤلِمةِ، رجاءَ أن يُنادِيَنا ربُّنا يومَ القيامةِ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:24].
أيُّها المسلمون
ولعلَّ بعضَكم يَعيشُ بَلاءً في مالٍ أو ولدٍ أو جَسَدٍ أو وَطَنٍ، فاصبِروا واحتسِبوا، واعلَموا أنَّ الجَنَّةَ ليستْ رَخيصَةً، بل ثَمَنُها الصَّبْرُ الجميلُ، كما قالَ النَّبيُّ ﷺ: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ». فاصبِروا على المَكارِهِ، واثبُتوا على طاعةِ اللهِ، فإنَّ لحظةَ صَبْرٍ في الدُّنيا قد تُكافَأُ بخالِدِ النَّعيمِ في الآخرةِ، وابتسامةً واحدةً في وجهِ البلاءِ قد تفتحُ لكَ أبوابَ الجَنَّةِ الثَّمانيةَ. واسمَعوا نِداءَ اللهِ لعبادِه الصَّابرينَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:153]. فما أعظَمَها من مُرافقةٍ، وما أجلَّها من مَعيَّةٍ، أن يكونَ اللهُ معكَ حينَ يبتعِدُ النَّاسُ عنكَ، ويُعطيكَ الثَّباتَ حينَ تَضطَرِبُ القلوبُ من حولِكَ.
أيُّها الأحبَّة: والصَّبْرُ بابُ الجَنَّةِ، ومِفتاحُ الرِّضا، وسَببُ الفلاحِ في الدُّنيا والآخرةِ، فلتكُنْ لِسانُ حالِ كلِّ واحدٍ منَّا كما قالتْ تلك المرأةُ العظيمةُ: «أَصْبِرُ وَلَكِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ»، وليكُنْ شِعارُنا في وجهِ البلاءِ: «اِصْبِرْ وَلَكَ الْجَنَّةُ».
الدعاء