خطبة عن (اِصْبِرْ وَلَكَ الْجَنَّةُ)
أكتوبر 12, 2025الخطبة الأولى (من أسرار الخشوع في الصلاة)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1-2].
أيها الإخوة
هذه الآية العظيمة من كتاب الله العزيز جعلت الخشوع في الصلاة أوَّل صفة من صفات المؤمنين الذين أفلحوا، والفلاح هو الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا فلاح بلا خشوع. والخشوع هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، وسكون الجوارح، واستحضار عظمة الله جل وعلا. قال ابن رجب رحمه الله: “أصل الخشوع: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره لله تعالى” [جامع العلوم والحكم].
وفي سنن أبي داود وصححه الألباني: (عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا». فالعبرة ليست بكثرة الحركات، بل بقدر ما خشع فيه القلب. لذا كان عدم الخشوع في الصلاة علامة من علامات فساد العباد، ففي سنن الترمذي: (قَالَ جُبَيْرٌ لَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ..قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلاَ تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعًا).
أيها المسلمون
ومن أعظم ما يعين العبد على الخشوع: الاستعداد للصلاة قبل الدخول فيها، بالوضوء وإسباغه والدعاء بعده. وإجابة النداء بالأذان، قال ﷺ: “إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول” [رواه البخاري، ومسلم]. واستحضار عظمة الموقف، فأنت تقف بين يدي الله، تخاطبه ويخاطبك ،قال ﷺ: “إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربَّه” [رواه البخاري، ومسلم]. ومما يعن على الخشوع :التدبر في القرآن المقروء، فلا تمر الآيات على لسانك مرورًا بلا فهم ولا تأمل. وكذا التنويع في الأذكار والأدعية، فقد كان النبي ﷺ يفعله ليُحيي القلب.
وقد كان الصحابة والسلف مثالًا في الخشوع: قد كان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إذا حضرت الصلاة يتغير لونه، فيقال له: ما لك؟ فيقول: “قد جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وحملتها أنا” [حلية الأولياء].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية (من أسرار الخشوع في الصلاة)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فقد روى الامام أحمد في مسنده وصححه الألباني: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِى يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ قَالَ « لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا». أَوْ قَالَ «لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ». فمن لم يخشع في صلاته فقد حُرِم لذتها، وكان نصيبه منها قليلًا، لذلك كان النبي ﷺ يتعوذ من عدم الخشوع، ففي سنن الترمذي: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ».
والخشوع ليس بالأمر المستحيل، ولكنه يحتاج إلى مجاهدة النفس، والتدرج في إصلاح القلب، ومحاسبة النفس عند كل صلاة: هل خرجت منها بقلب أنقى من قلب دخلت به؟، وعلى العبد أن يجاهد نفسه ويدفع وسوسة الشيطان عنه، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ»، فليست العِبرة في الأمر بالصلاة الأداء، بقدر ما هي العبرة بإقامتها بأركانها وتحقيق خشوعها، وروى البخاري عن زيد بن وهب قال: (رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود قال: ما صليت، ولو متَّ متَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمدا صلى الله عليه وسلم). وعند البزار في مسنده وفيه: (منذ كم صليت هذه الصلاة ؟ قال : منذ كذا وكذا، قال: لو متَّ متَّ على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم). فالصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، وصوت بلا معنى، ألا فلتكن صلاتنا موصلةً لقلوبنا بالله، نلقى بها ربنا وقد وجدنا فيها لذة المناجاة، واطمئنان النفوس، وسعادة الأرواح.
الدعاء