خطبة عن (من أسرار الخشوع في الصلاة)
أكتوبر 14, 2025الخطبة الأولى (دروسٌ مِن سُورةِ الفاتِحَة: الهِدايَةُ وَالاستِقامَة)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦].
إخوة الإسلام
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]. فهذه الدَّعوةُ العظيمةُ هي قلبُ سورةِ الفاتحةِ، وهي طلبُ أعظمِ نعمةٍ يفتقرُ إليها كلُّ عبدٍ في حياتِه، ألا وهي نعمةُ الهدايةِ إلى الصراطِ المستقيم، والله تعالى أمرَنا أن نردِّدَها في كلِّ ركعةٍ من صلاتِنا، فرضًا ونفلاً، لنعلمَ أنَّ العبدَ لا يستغني عن هدايةِ ربِّه طرفةَ عين.
والهدايةُ – عبادَ الله – ليست مجرَّدَ معرفةٍ بالحقِّ، بل هي توفيقٌ للعملِ به والثباتِ عليه حتى الممات، فقد يعرفُ الإنسانُ الحقَّ ولكن لا يُعطَى التوفيقَ لاتباعِه، كما عرفَ فرعونُ صدقَ موسى (عليه السلامَ) ومع ذلك استكبرَ وعاندَ، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]. وقد بيَّن النبي ﷺ أن الهدايةَ نعمةٌ عظمى لا يملكُها إلا اللهُ وحدَه، فلا يملكُها نبيٌّ مُرسلٌ، ولا مَلَكٌ مقرَّبٌ، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص:٥٦]. وروى ابن حبان في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء (اللهم اهدنا فيمن هديت)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ.. (وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ)، فكم من أناسٍ عاشوا في زمان النبي ﷺ، وسمعوا القرآنَ بآذانهم، ورأوا المعجزاتِ بأعينهم، ومع ذلك لم يهتدوا لأن الله لم يُرد لهم الهداية.
أيها المسلمون
وحين نقول في صلاتِنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦]. فإننا نطلب من الله أن يُعرِّفنا بالحقِّ، وأن يُلهمنا اتِّباعَه، وأن يرزقنا الثباتَ عليه حتى نلقاه، والصراطُ المستقيمُ هو طريقُ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو طريقٌ وسطٌ بين طرفين منحرفين: طريق المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به، وطريق الضالين الذين عبدوا الله على جهلٍ وضلال، فحاجتَنا إلى هذا الدعاء أعظمُ من حاجتِنا إلى الطعام والشراب، لأن الإنسان إذا فقد الهداية ضلَّ في الدنيا وخسر الآخرة، قد تملك الأموالَ، وقد تتقلب في النِّعم، لكنك إن لم تكن على هدايةٍ فأنت في شقاءٍ وضلالٍ. قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: ١٢٣-١٢٤].
أيها المؤمنون
لقد كان من دعاء النبي ﷺ الدائم: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (رواه الترمذي). وكان السلف يخافون من الانحراف بعد الاستقامة، قال بعضهم: “القلبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدر إذا استجمعت غليانًا”. فالهداية لا تنال مرةً واحدةً، بل هي توفيقٌ دائمٌ من الله، يُسأل في كل ركعة، ويُجاهد فيه المسلمُ حتى آخر أنفاسه، فالهداية إلى الصراط المستقيم ليست هدايةً فرديةً فحسب، بل هي أساس صلاح الأمة بأسرها، أمةٌ مهتديةٌ تعبدُ الله وحدَه، وتتمسك بالقرآن والسنة، وتعتصم بالحق، أمةٌ لا يضرها من خالفها، ولا يطغى عليها باطل، لأن الله وعدها بالحفظ والنصر. ولكن الأمة إذا انحرفت عن الصراط المستقيم، ومالت يمنة ويسرة، أصابها ما نرى اليوم من ضعفٍ وتفرقٍ وضياعٍ، لأن الله تعالى قال: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦].
فلنفتش – عباد الله – عن موقعنا من هذا الصراط: هل نحن عليه حقًّا؟ أم أنَّنا عرفناه ولكن زاغت أقدامُنا عنه بالذنوب والشهوات؟ هل نحن ممن يُصلِّي ويصوم ولكن يغشُّ في المعاملة؟ أو يتكاسل عن الصلاة في الجماعة؟ أو يتساهل في المحرمات ويقول: “الإيمان في القلب”؟ الصراط المستقيم ليس كلمةً تُقال، بل التزامٌ عمليٌّ يُترجِمُه السلوكُ في البيت والعمل والسوق والشارع، فالثبات على هذا الصراط لا يكون إلا بأمرين عظيمين: العلمُ النافعُ والعملُ الصالح. فمن طلب الهداية بغير علمٍ وقع في الضلال، ومن طلبها بغير عملٍ وقع في الغضب. فلتكن هدايةُ القرآن والسنة هي مرجعَنا، ولنحرص على العمل بما نعلم، فالعلم بلا عمل حُجَّةٌ على صاحبه لا له.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم
الخطبة الثانية (دروسٌ مِن سُورةِ الفاتِحَة: الهِدايَةُ وَالاستِقامَة)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: ١٧]. فالهدايةَ أعظمُ ما يُعطَى العبدُ في حياتِه، فهي النورُ الذي يسيرُ به في الدنيا، وهي الضمانةُ للنجاة في الآخرة. وإذا حُرِمَ الإنسانُ الهدايةَ، عاش في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، ولو كان أغنى الناس وأقواهم. وتأمَّلوا – رعاكم الله – في مصير مَن لم يَهتدِ: فهذا ابنُ نوحٍ عليه السلام عاش في بيت نبوَّة، ورأى آياتِ الله، ولكنَّه أعرضَ عن الهداية، فقال الله فيه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦]. وفرعونُ الذي قال عنه الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، فقد عرفَ فرعون الحقَّ، ولكنَّه تكبَّرَ، فكان من الهالكين، وفي المقابل، انظروا إلى السحرةِ الذين واجهوا موسى (عليه السلام)، فما إن رأوا الآيةَ الباهرةَ حتى قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:١٢١]، فهداهم الله في لحظةٍ، وثبَّتهم حتى صبروا على القتل في سبيله.
أيها المسلمون
والهدايةُ ليست حدثًا للحظةً واحدةً ثم ينتهي، بل هي نهرٌ جارٍ يحتاج العبدُ أن يظلَّ متصلاً به حتى الممات، ولهذا كان من أكثر دعاء النبي ﷺ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (رواه الترمذي). وكان بعض السلف يقول: “نخافُ من سوءِ الخاتمة كما يخافُ الرجلُ من وقوعِ الصاعقة”.
واعلموا أن من أعظم أسباب الثبات على الصراط المستقيم أمران: أولهما: العلمُ النافع، فمن لم يعرف الحق تاه في الظلمات، وصار يخلط بين المعروف والمنكر. ولهذا قال بعض السلف: “من عبد الله بغير علمٍ أفسد أكثر مما يُصلح”. والثاني: العملُ الصالح، فمن عرف الحق ولم يعمل به، كان من المغضوب عليهم. فلابد من العلم الذي يُبصِّر الطريق، والعمل الذي يُثبِّت القدم.
وفي زماننا هذا حيث كثرت الفتن، وتزاحمت الشبهات، أصبح المسلمُ أحوج ما يكون إلى الهداية والثبات، فوسائل الإعلام تصرف القلوب، والشهوات تحيط بالشباب، والشبهات تزيِّن للناس الباطل، ولا نجاة إلا بالاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وملازمة الصحبة الصالحة، والابتعاد عن مواطن الفتن. فالهداية نورٌ ينعكس أثره في كل جوانب حياتك: في بيتك فتحسن مع أهلك، في عملك فتؤدِّي الأمانة، في السوق فتترك الغش والربا، في المجتمع فتكون داعيًا إلى الخير، رافضًا للباطل.
فلنكثر – عباد الله – من دعاء الله بالهداية في سجودنا وصلواتنا وأدعيتنا، ولنجعلها طلبًا صادقًا نابعا من القلب، لا مجرَّد كلماتٍ باللسان.
اللَّهُمَّ اهدِنا الصِّراطَ المستقيم، وثبِّتنا على دينك حتى نلقاك، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.
الدعاء